من خلال الصحافة، كما اللقاءات الشخصية، يمكن فرز ردات الفعل العربية على ما حدث في الولاياتالمتحدة، وما شهدته أفغانستان من هجمات انتقامية، إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: الاتجاه الأول أن "ما حدث في الولاياتالمتحدة مؤسف، وسقوط الضحايا الأبرياء مؤلم، لكن لا بأس أن تختبر أميركا ما يعاني منه سائر العالم، عساها تستفيق من سباتها ومن تأييدها الأعمى لإسرائيل". أما الاتجاه الثاني فالقائل "لا مجال للوهم إطلاقاً حول صدق نيات الولاياتالمتحدة، غير أنه من شأن حربها على الإرهاب، رغم المآخذ عليها، أن تضع حداً لهذا المد المتطرف الجارف الذي يهدد أمن المجتمع العربي وثقافته وحق الفرد العربي بالعيش الكريم العاقل". فيما الاتجاه الثالث يميل إلى أنه "لا يجوز اعتبار ضربة 11 أيلول سبتمبر فعلاً بل رد فعل. فهي ربما كانت اعتداء لكن البادئ، أي الولاياتالمتحدة، أظلم. ثم، لا يجوز اعتبار سقوط طالبان نهاية المعركة، ولسنا نعلم ما في جعبة القاعدة، وكل آتٍ قريب". ويبدو أن الاتجاه الثالث يحظى بتأييد واسع وإن اعتمد أصحابه بعض التقية، فيما الأول هو الأكثر شيوعاً في العلن، والثاني هو المعتمد سرّاً أو جهاراً لدى النخب الاقتصادية والاجتماعية أما النخبة الثقافية فمتأرجحة. وإذا كان أسامة بن لادن قد أظهر في كلمته الأخيرة التي بثتها "الجزيرة"، قدراً خطيراً من عدم الاستيعاب للواقع الفعلي المترتب على الاعتداءات، إذ رأى فيها إنهاكاً للاقتصاد الأميركي واستنزافاً للقدرات الأميركية، فإن الاتجاهات الرئيسية الثلاثة لردات الفعل العربية تنطلق، بدورها، من فرضيات يجد العديد منها في الواقع الأميركي ما يخالفه أو ينقضه. الفرضية الأولى هي الربط بين اعتداءات أيلول والمظالم الناجمة عن السياسة الخارجية الأميركية، لا سيما في الموضوع الفلسطيني. فهذا الربط، وهو "بديهي" بالنسبة الى العديد في العالم العربي، وربما ما يتعداه، لم يعد حاصلاً على الإطلاق لدى الجمهور الأميركي. والواقع أنه كانت ثمة فرصة لتحقيق هذا الربط في أعقاب الاعتداءات، لو جاء الطرح الداعي إليه ليفصل بين المجموعة التي قامت بالاعتداء، وبين قدرتها على تجييش الشباب العربي الذي يعي المظالم التي يعيشها وطنه وسط إحباط ناتج عن التكبيل والعجز السياسيين. فلو جاء الطرح لا ليبرّر الاعتداء أو ليجد له الأعذار، بل ليشدد على أن طروحات الفئة التي أقدمت عليه تمكنت من تسخير "كوكبة" من الشباب المثقف لعملياتها كنتيجة جزئية وحسب لوجود واقع ظالم يجعل هؤلاء الشباب مادة خصبة للاستهواء، لكانت تعزّزت فرص استتباب الرأي الساعي إلى استيعاب خلفية الحدث خارج إطار الصدام الحضاري والبغض الأعمى. إلا أن الكثير من الطروحات التي جرى تداولها في العالم العربي وخلافها لم يجد سبيلاً قط إلى الترجمة والعرض في الولاياتالمتحدة جاء مفعماً بما يقارب الشماتة والاستخفاف وعدم الاكتراث بهول الصدمة التي يعيشها المواطن الأميركي. وقد سعت الحكومة فور وقوع العدوان إلى التصدي القاطع لكل محاولة ربط. وانضم إليها أصحاب المقولات العقائدية، من المحافظين الجدد إلى دعاة اعتبار "حقوق الإنسان" شأناً غربياً بشكل حصري، ليقدموا للجمهور الأميركي تفسيراً سهلاً اختصره الرئيس بوش بخطابه المتكرر حول الخير "نحن" الخير والأخيار والشر "هم" الشر والأشرار، بإبهام في الكلام ووضوح في التنفيذ حول هوية ال"هم". ثم جاءت العمليات التي نفذها بعض فصائل المقاومة الفلسطينية والتي استهدفت المدنيين الإسرائيليين، لتثبت "صواب" هذا التفسير ولتقضي إلى أمد طويل على أي احتمال في مراجعة ذاتية ثقافية أميركية. فال"نحن" الأميركي، أي الضحية والمظلوم وصاحب الحق، تعزز في امتداده وشموله على الإسرائيلي. فيما الفلسطيني، ومعه العربي والمسلم، يبقى من صلب ال "هم" الإرهابي، المجرم والظالم والمعتدي على الحق. أي سبات هو إذاً هذا الذي تستفيق منه الولاياتالمتحدة؟ الجواب لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتاياهو، الذي يحاول جاهداً بتملّقه "مراعاة" الشعور الأميركي: الولاياتالمتحدة قد استفاقت إلى أنه لا بد لها من الاضطلاع بدور قيادي فعّال لاستئصال "الإرهاب" الذي يهدد "الحضارة"، وإسرائيل جزء من "الحضارة"، فيما العرب من أهل "الإرهاب". الفرضية الثانية هي أن السياسة الخارجية الأميركية غدت محفّزة لخوض غمار المسائل الدولية المطروحة إلى آخر مطافها. ويشترك في هذه الفرضية - الأمل من يريد لأميركا أن تصعّد حربها إلى مراحلها الثانية وما بعدها فتستهدف العراق وحزب الله وغيرهما، ومن يريد لها أن تشرع بعملية سلمية جديدة تفرض على إسرائيل الانسحاب من الأراضي المحتلة وتقيم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. ويطمئن المتفائلون بصحة هذه الفرضية إلى تصريحات بوش الذي أكّد أنه وجد في حربه على الإرهاب درباً ثابتاً يسلكه. والواقع الجديد منح الولاياتالمتحدة بالفعل توجهاً جديداً في سعيها إلى تحقيق مصالحها على مختلف الأصعدة، إذ كانت بالأمس تطالب سائر الأطراف بالتوافق معها عبر الترغيب، فيما هي اليوم قادرة على فرض هذا التوافق بالترهيب. فهي الجريحة وهي الساعية إلى إحقاق الحق. لكن، وعلى رغم استئساد المحافظين الجدد واسترسالهم في صحافتهم بالتصورات الخيالية للمستقبلات التي يودون تحقيقها، فالسياسة الأميركية، الخارجية كما الداخلية، تبقى غالباً محكومة بالاعتبارات التوفيقية، وبالحاجة الدائمة إلى تحقيق الفوز في الانتخابات المقبلة. فالثابت اليوم ليس مضموناً للغد. وعلى رغم أن الواقع الثقافي في أميركا يستتب لصالح الانطوائية والعداء للآخر "الإرهابي"، فإن الخطة الطويلة الأمد التي توضح الحكومة الأميركية معالمها اليوم حول المراحل المتتالية للحرب على الإرهاب، عرضة لتقلبات من شأنها تجييرها من حيث المضمون للمصالح المتبدلة. وإذ يأمل البعض بأن يجد في هذا الواقع متنفساً، فإن هذا الأمل على الغالب في غير محلّه. وخير شاهد على ذلك حال العراق الذي شهد الحكم فيه تبدل المصالح والتوجهات الأميركية بشأنه، دون أن يتمكن من الخروج من طوق الاحتواء المفروض عليه بعد عقد ونيف. والفرضية الثالثة هي أن ما تطالب به الحكومة الأميركية حلفاءها وخصومها، أو ما تفرضه عليهم، يأتي محكماً مدروساً في إطار خطة مدركة متحسبة لمختلف النتائج والعواقب. ولا شك أن حكومة الولاياتالمتحدة تستفيد من قاعدة هائلة من الخبرات والكفاءات تضفي على القرارات التي تتخذها قدراً عظيماً من الصدقية. غير أن مواطن الضعف في هذه المنظومة كثيرة. ولا بد من الإشارة تحديداً إلى الافتقار الخطير في صفوف الحكومة الأميركية للقدرة التحليلية والتقويمية للواقع الديني والثقافي في العالمين العربي والإسلامي. وإذا كان العديد من المسؤولين الرئيسيين ارتكبوا الأخطاء في تعليقهم على هذه الأمور وليس المقصود هنا الرئيس الأميركي وحسب، فإن أخطاءهم هذه ليست هفوات، بل نتيجة ظاهرة لتردي القدرة، في وزارة الخارجية كما في القطاع الاستخباراتي، على متابعة المجريات وتحليلها. والخطر مضاعف من جنوح الحكومة إلى اعتناق بعض الأفكار التي تتداولها الصحافة المحافظة الجديدة كمطالبة الدول الإسلامية بتعديل مناهج المدارس الدينية دون اعتبار حكيم لعواقبها. وإذا كان لا يجوز على الإطلاق مقارنة الجهل غير المسؤول الذي يساهم بدفع بن لادن إلى خوض حربه الأحلامية في مواجهة اميركا، بالتردي الطارئ على القدرات الأميركية لتحليل الحالة الدينية والثقافية الإسلامية والعربية، فلا بد لمن يرجو في الخطوات الأميركية خيراً، وإن عَرَضياً، ألا يطمئن ضمناً إلى مفعولها، وإن اطمأن إلى نواياها. والفرضية الرابعة أن الولاياتالمتحدة خصم يمكن لطرف ما مقارعته واستنزافه. وبالفعل فهذه الفرضية، من وجهة نظر إطلاقية وتاريخية، فرضية صادقة. إذ لا شك بأن أية قوة مهما عظمت وعلت، فإنها في النهاية سوف تتضاءل وتسقط. وبغضّ النظر عن صوابية هذه المقارعة من حيث المبدأ، فمن الأجدى لمن يعقد الآمال على أن يكون لها مكان في الواقع اليوم أن ينظر بتجرد إلى المعطيات الموضوعية: الولاياتالمتحدة، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ودولياً، بخير، فيما من شاء مقارعتها مشتت مهزوم. والنتائج التي أسفرت عنها اعتداءات أيلول عديدة، لكنها تكاد تكون بمجملها، باستثناء سقوط الضحايا من القتلى والجرحى يوم الاعتداء، إيجابية. فالاقتصاد يعود إلى زخمه بعد ضخ الأرصدة الكفيلة بدعمه، والنفوذ السياسي والعسكري الأميركي في عزّه، والتماسك الداخلي والولاء للقيادة في أوجه. أما مسائل الشرق الأوسط، وهي بيت القصيد المفروض في العملية، فكلها تردّت إلى ما يخالف مصلحة أصحابها. و"الغزوة" القادمة، والتي قد تقع أو لا تقع، لن تزيد هذه الحقائق إلا تعزيزاً. هذه الفرضيات العربية، التي تتناقض مع الوقائع القائمة في اميركا، تساهم في تقييم خاطئ لما جرى وقد يجري. لكن مراجعتها مطلوبة أيضاً لأنها تكشف لا عن سوء اطلاع وحسب، بل عن جنوح في بعض الفكر إلى تغليب الأهواء عند صياغة الآراء. وآفة الرأي الهوى.