ينطلق الباحث جابر عصفور من مقولة التواصل بين الماضي والحاضرر. فالعلاقة الصحيَّة بالحاضر متلازمة بعلاقة سويّة بالماضي. وقراءة الحاضر بموضوعية تضع في اعتبارها آفاق المستقبل المفتوح/ الممكن الذي نسعى اليه. هذا ما يشير الى جدلية التاريخ وتواصل حلقاته في معارج الفكر الإنسانيّ، لأنّ المستقبل هو الهدف، والغاية هي التطور والتقدم في منظومة هذه الجدليَّة. والحاضر الفاعل هو الحاضر الذي يعي أنّ علاقته الموجبة بماضيه هي دافع أصيل من دوافع تقدمه" شأنها في ذلك شأن علاقته الموجبة بمستقبله الموعود في الحريّة والتقدم. اللافت في تحديد منهجيته الفكرية في النظر الى الماضي المتصل بالحاضر هي منهجية مجددة، مواكبة لتطور الوعي/ الفكر" ولا تعني توثين الوثنية الماضي والاتباع الجامد والتقليد الساذج. ومن دون هذه المنهجيّة المتجددة لا نضفي معاني السلب على الماضي كله. ويحدد أن "الاتباع الأعمى قرين التقليد الجامد..."، الذي لا يخلو من العقل في الفكر والإبداع، وكلاهما سمة من سمات التخلف أو العقم الذي تنتهي اليه الفنون، أو تنتهي اليه الحضارات. ويحدث ذلك حين تفتقر الحضارات الى الدافع الخلاّق، وحين تغلق الأبواب المفتوحة للاجتهاد، ويحارب الابتكار الذي عادة "ما يوصف ببدعة الضلالة". وشأن الحضارات في ذلك شأن إبداع الفنون الذي يزدهر بازدهارها، وينحدر بانحدارها، ويرتبط ازدهاره بتسامح تيارات عقلانيَّة حاكمة، أو تيارات فكريَّة تؤمن بالحريّة، وتحرّم المخالفة والتجريب. ما تجدر ملاحظته، انّ الفنون جزء من التشكيل الحضاريّ لشعب من الشعوب في حقبة محددة، أو في حِقَبٍ متتالية ماضياً وحاضراً. فالاتباع والتقليد حجر عثرة أمام عملية التطور والتقدم. لذلك، "إنّ ابداع الفنون لا يغدو ابداعاً حين يستبدل بالتحديق في امكانات المستقبل المهووس باسترجاع صور الماضي" فقط ص 13. ويعزو انهيار الحضارة العربية الى حال الاغتراب بينها وبين العقل. هذا العقل الذي ألقي به في دورات متعاقبة في السجن والتشديد. وهذا ما أدّى الى اجازة مفتوحة في العقل العربي الحاضر. لذلك، أصبح العقل محاصراً بالنقل، والاتباع بديلاً عن الابتداع، والتصديق ملاذ المحكومين بالقمع المتعدد الوجوه والصور" ابتداءً من تسلط السلطان، وبطش الجلاّد، مروراً بفتاوى فقهاء النقل والجمود والتقليد ص 14. ونرى ان أزمة الحياة العربية المعاصرة هي أزمة حكومة/ أنظمة بمجملها، أكثر مما هي أزمة حضارة. فالابداع ركيزة التطور والتقدم والحرية، كما ذكر الأستاذ عصفور" وهذه عناوين لأزمات سياسية/ اجتماعية، في المنظومة الرسمية العربية، تلقي بثقلها على كاهل الجماهير المغلوبة على أمرها، والمحكومة بتقديس الماضي من دون رفع سقف العقل الى المستوى المطلوب. لذلك، سادت نمطية الاتباع والتقليد على معاناة الابتداع والتقدم. وهذا ما أدّى الى انحدار مستوى الفكر، والآداب بصفتها فنوناً توازت في خطوطها ومستوى الفكر السائد عموماً. ويرى المؤلف أن رياح الاتباع والتقليد ظلّت سائدة حتى عصر النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر. فكانت مبادئ إعمال العقل، فتح باب الاجتهاد، والابتكار من الأسس التي شيّدت صروح النهضة العلمية والأدبية. فالدعوة الى الاجتهاد عكست نفسها، في ضوء التطورات التي شهدها العصر، على الأدب. وذلك من خلال تحرير الشعر وانقاذه من هوّة العقم، والعودة به الى عصور فتوته، وبعث هذه العصور وإحيائها بما يدفع حركة الاجتهاد الشعري في طريق المستقبل الذي بدا واعداً، ومواكباً لحياة العصر الجديد. لكن هذا التجدد الشعريّ لم يخلُ من حالات التقليد و"الاسترجاع" للماضي عند أبرز شعراء مطلع القرن العشرين "شوقي - البارودي - الزهاوى.... ويحدد المؤلف أن شعر عصر النهضة في القرن التاسع عشر تضمن عاملي الإيجاب والسلب. فكان الإيجاب متمثلاً بالدعوة الى الابتكار والتجديد. أمّا السلب فتمثل بما لزم عن هذا الاسترجاع من حركةٍ محكومة سلفاً بالقديم، أي بالإطار المرجعيّ الذي ينقاد اليه كل فعلٍ لاحق. لذلك، كان يمكن ان يظهر الوجه السلبي لفعل الاستعادة الإحيائي إلاّ بعد اكتمال جهود البعث من ناحية، ووضع نتائج هذه الجهود موضع المساءَلة من ناحية مقابلة. وهذه المساءَلة لم تبدأ برأيه إلاّ بعد الحرب العالمية الأولى حيث انفتحت آفاق جديدة لطرح أسئلةٍ جديدة. ويضم الكتاب دراسات لشعر الإحياء في حركته المفصلية، وذلك من منظور الكيفية التي استعاد هذا الشعر ماضيه جامعاً بين أوجه الإيجاب وأوجه السلب، والتي انبنت على الانطلاق في نقطة البدايات لا النهايات، فحققت ايجاب البدايات وسلب النهايات. ويقدم المؤلف في القسم الأول من الكتاب بحثين مستفيضين عن "الشاعر الحكيم"، وشعر "البارودي". وأبرز ما يتضمنه هذا القسم دراسة مقارنة بين أمراء الشعر في العصور العباسيَّة، أمثال ابن الرومي وأبي تمام والمتنبي والمعري، وبين أمراء الشعر العربي في مطلع القرن العشرين أحمد شوقي/ حافظ ابراهيم/ والزهاوي/ والبارودي. اللافت في هذا القسم ان المؤلف يشرح نزعة التجديد بمضامينها الفكرية/ الفلسفية عند هؤلاء الشعراء الذين ألبسوا أفكارهم أطراً قديمة. وإذا بُعثَ أمراء الشعر العباسي في مطلع القرن العشرين لقالوا ان "بضاعتنا ردَّت" الينا. ويتابع المؤلف بحثه المقارن في استعادة الماضي عند رواد الشعر الحديث من خلال تقاليد الصنعة التراثية، والمعارضة والصنعة، وتوليد الصور التراثية في شعر البارودي، اضافة الى الوصف والمحاكاة، وخصائص المخيلة التقليديَّة. الكتاب بمجمله يضيء آفاقاً جديدة في عالم الأدب، وبخاصة لدارسي حال التقليد والتجديد باتجاه احياء ماضٍ مجيد على رفاة واقع ممزق، تائه، وفاقد البوصلة المركزيَّة عند الأكثرية المبدعة في وقتنا الحاضر. فلا بدّ من قراءة هذا المؤلف القيِّم الذي يتوخّى صاحبه من خلاله حال الإحياء والبعث عند روّاد الفكر والأدب في مطلع القرن العشرين لاستكمال هذا الدور. وإذا عدونا القول الى تبني أسلوب المحاكاة في البناء اللفظي والمعنوي بين الماضي والحاضر نكون في حال تصريف المضارع بالزمن الماضي. فالمؤلف إذ يهدف الى استمرار عملية التواصل والنهضة فلا بدّ من دعوة القادرين/ العارفين للانتقال من الماضي المستوعب نسبيّاً، الى المضارع المتصرِّف والمستهلك لكي نصل الى تصريف الفعل في زمن المستقبل. إنّ من تعود قراءَة أ.د. جابر عصفور يعيش أملاً مستمراً في انتاجه وابداعه في العملية الفكريَّة/ الأدبيَّة/ النهضويَّة التي ما زلنا نسبح في فضائها منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. انها دعوة لاستمرار الانبعاث والنهضة في جسم الأمَّة على قاعدة التجديد لا التقليد انطلاقاً من رفع سقف العقل في المجالات كافةً. فالفكر، والأدب جزء من حال حضارية، لا ينمو ويتطور في غياب الحريَّة والديموقراطية. وهما أساس كل إبداع للحفاظ على جوهر الإنسان في حقوقه وحياته. فالتجديد حقٌّ، والحقيقة واجبة في مجلس حاكم ظالم" وعلى محبي الإنسان/ الشعب/ الأمَّة "ألاّ يخافوا من الحق لأنّ الحقيقة تحررنا".