كل الثقافات التي تنتسب إلى حضارات منفتحة تنطوي على عمليات دالة من التداخل اللغوي، وتقترض من غيرها بقدر ما تقرض غيرها ما ظلت مستمرة في تقدمها، مزدهرة في عطائها. والثقافة العربية ليست بدعاً في ذلك، فمنذ انفتاحها على حضارات العالم القديم، وهي تعرف "الدخيل" و"المُعَرَّبَ" من الكلمات التي أخذتها عن غيرها أو استعارتها من سواها لحاجتها إلى مسميات تدل على مفاهيم جديدة، أو معانٍ محدثة، أو معاملات، أو علاقات، أو أدوات، أو اختراعات لم تعرفها الحضارة العربية إلا نقلا عن الحضارات الأقدم، أو أفادتها من اتصالها المباشر بما حولها. ولذلك اتسمت اللغة العربية - في تاريخ ازدهارها القديم - بمرونة الأخذ عن غيرها من اللغات السابقة عليها أو المعاصرة لها، وذلك بالقدر الذي أفاءت به على غيرها من اللغات التي نقلت عنها الكثير من مفرداتها التي ظلت في هذه اللغات، علامة على الإسهام العربي الذي أسهم في نقل الحضارة الإنسانية من العصر الوسيط إلى مشارف العصر الحديث مع النهضة الأوروبية. ولكن حال اللغة العربية اختلف مع انغلاق الثقافة العربية على نفسها، وإغلاق أبواب الاجتهاد، وقمع العقول التي حاولت المضي في التفكير الحر، ومن ثم تغليب آليات النقل، واستبدال الاتباع بالابتداع، والتقليد بالابتكار، الأمر الذي أدى إلى الضعف التدريجي للثقافة العربية، ووقوعها في شباك التعصب التي أطبقت على عصور التخلف والانحطاط. وعمل على تثبيت هذا الوضع تعاقب أنظمة الاستبداد، وشيوع طبائعه التي انتقلت من الحاكمين إلى المحكومين عبر العصور، وتعاقب الهزائم التي بدأت بالمغول والتتار ولم تنته بالصليبيين أو حتى العثمانيين، وذلك على نحو أشاع روح الخنوع والإذعان، وقضى على دوافع الخلق أو الابتكار، وأفضى إلى تسلط ثقافة الاجترار لا ثقافة الإبتداع. وقد انعكس ذلك كله على اللغة العربية بأكثر من معنى، وترك فيها آثاره بأكثر من وجه. انتبه إلى ذلك منذ وقت مبكر عبدالرحيم أفندي أحمد مبعوث مصر في مؤتمر المستشرقين الحادي عشر، المنعقد في باريس سنة 1897، وذلك في بحثه الذي ألقاه في المؤتمر، وعالج فيه ما كشف عنه من أهمية "رسالة الغفران" التي دفعته معالجتها إلى معالجة العلاقة بين اللغة والحرية، وأكد في ذلك ما نقله عنه روحي الخالدي في كتابه "تاريخ علم الأدب بين الافرنج والعرب" الذي صدر سنة 1904 من صلة التلازم بين الحضارة والحرية من ناحية، والحرية واللغة من ناحية ثانية. قرن هذا الرائد المجهول ازدهار الحضارة العربية بازدهار حرية الفكر وصيانتها، ووصل بين انهيارها وغياب الحرية. ومضى من ذلك إلى إبراز الصلة المتبادلة بين الحرية وارتقاء لسان العرب، موضحاً أنه كلما اتسع نطاق الحرية في الدولة اتسع معه نطاق الأدب في العربية، وزادت فصاحة هذا اللسان وبلاغته، وكلما زاد الاستبداد تقيدت عقول الأدباء بالسلاسل، وصاروا ينطقون بما يوافق الزمان والمشرب لا بما يشعرون به ويعلمونه ويرونه. وقد لاحظ عبدالرحيم أفندي أحمد أن المتكلمين بالعربية - إذا فقدوا الحرية - كثرت في كلامهم اللوازم اللفظية الدالة على الخضوع. ويمكن أن نضرب لذلك أمثلة كثيرة من استخدامنا اللغوي اليومي، ذلك الاستخدام الذي يمتلئ بعبارات من مثل: حاضر، نعم، أمرك يا سيدي، تحت الأمر، كلامك على العين والراس، رأيك نافذ، على رقبتي، السمع والطاعة. وهي لوازم تشيع في المخاطبة بين اثنين أو أكثر، خصوصا حين تربط بين المستمع أو المستمعين والمتكلم علاقة أدنى بأعلى. ويكثر ما يوازي هذه اللوازم في المخاطبات العامة، خصوصا حين يتعلق الأمر برئيس أو صاحب سلطة. وقل الأمر نفسه على ما يشيع في اللغة - نتيجة ذلك الوضع - من أنواع المحظور الذي لا يمكن المساس به، أو كثرة أجناس المسكوت عنه الذي لا يمكن النطق به، فضلا عن أشكال التراتب اللغوي التي تعكس التراتب القمعي للواقع، وألوان التمييز العرقي والجنسي للكلمات والتراكيب والأساليب التي تبين عن غلبة النواهي التسلطية على الممارسات اللغوية. ولا يتوقف الأمر على هذا الجانب الذي لاحظ بعضه عبدالرحيم أفندي أحمد وإنما يجاوزه إلى الأثر الذي تتركه عقلية الاتباع والتقليد على اللغة التي هي تجسيد لعقل الناطق بها، وتعبير عن كيفية إدراكه للعالم واستجابته إليه في النهاية. ولغة الاتباع هي اللغة التي تنفر من التراكيب الجديدة، وترفض مظاهر الابتداع اللغوي التي لا بد من تأثيمها بوصفها بدعة لغوية تفضي إلى الضلالة التي تفضي، بدورها، إلى النار. وهي لغة التقليد التي يقيس فيها اللاحق على السابق دون إعمال فكر، ودون إضافة، ومن غير اعتبار لتغير أو تحول أو تطور. وقياس اللاحق على السابق يتضمن معنى أنه لا جديد في اللغة، وأننا لا نقول إلا معاداً ومكروراً من القول، كما يعني أن السابق أفصح من اللاحق بالإطلاق نفسه، والماضي أبلغ دائما وفي كل الأحوال من الحاضر. ولولا ذلك ما كان هو الأصل الذي يقاس عليه ويهتدي بهديه في كل اتباع لغوي. ويدعم ذلك تصور بعينه للزمن تشيعه العلاقات الدلالية لكلمات اللغة، وتؤكده أفكارها الاتباعية، تصور يرى أن الزمن في نقصان مستمر، وأنه ينتقل من الأكمل إلى الأنقص، وذلك على نحو يظل معه كل لاحق ملزماً بتقليد كمال الماضي الذي لا سبيل إلى تحقيقه ما ظل الزمان في نقصان. وأحسب أن لهذا التصور علاقة تستحق التأمل بما تعلمنا في دروس النحو العربي من أن الفعل الماضي يمكن أن يدل على المستقبل، وأنه ينطوي على معنى الاستقبال في صياغات منصوص عليها. ويتزايد هذا النزوع الاتباعي الذي تنبني عليه اللغة في حال صنعها بهيمنة عناصر أجنبية غازية، لا تهتم بلغة الأمة التي تقع تحت سطوتها أو تقف منها موقف العداء. وذلك هو الوضع الذي عانته اللغة العربية طويلا، منذ أن تغلبت جحافل المغول والتتار الذين أشاعوا الرعب والدمار، وأحرقوا الكتب والمكتبات، وفرضوا مناخاً من القمع الذي يخنق الإبداع ويقضي على الدافع الحيوي للكتابة، ولم يختلف الوضع كثيرا في عصر المماليك الذين ما كانت تربيتهم العسكرية وأصولهم الأجنبية تسمح لهم بإتقان اللغة العربية، أو تذوق آدابها أو تشجيع إبداعاتها. وتضاعف سوء الوضع مع الغزو العثماني، وتسلط الخلافة العثمانية التي لم يعرف ولاتها اللغة العربية، فلم يعملوا على تشجيع آدابها التي لم تكن تعنيهم في شيء، الأمر الذي ترتب عليه انحدار الأدب العربي بأنواعه، وشيوع الركاكة اللغوية في طرائق التعبير المختلفة، واستعانة الشعب بالعامية لغة إبداع تحل محل الفصحى التي انحدر حالها إلى حد كبير. وكان من نتيجة ذلك أن اكتسب النزوع الاتباعي بعدا نقليا يتصل بما ذكره ابن خلدون عن ولع المغلوب بتقليد الغالب، ومحاولة محاكاة بعض طرائقه في النطق، أو استخدام بعض مفرداته في الكتابة، وذلك جنبا إلى جنب التداخل بين الفصحى والعامية، إما على سبيل التظرف أو على سبيل الجهل. وبدل حال الاقتراض اللغوي بين الثقافات المفتوحة المتكافئة، تلك التي تتميز بعمليات تبادل التأثر والتأثير اللغويين، حلت أحوال تظرف التابع بمحاكاة المتبوع، أو الصياغة حسب مقاماته، وانتهى الأمر إلى استبدال الكلمات التي خضعت لعملية "تتريك" بواسطة الأرستقراطية التركية بالكلمات العربية التي كانت أصلا لها، كما حدث مثلا في اسم العلم "مير÷ت" الذي نقل عن التركية مع أنه منقول بدوره عن العربية، وأصله "مروة". وقس على أسماء الأعلام غيرها من المفردات والتراكيب التي تميزت بها اللغة العربية في زمنها العثماني. ولم يتغير الوضع جذرياً إلا مع النهضة العربية التي استبدلت بلغة عصور العقم لغة عصور الابتكار، وحاولت العودة إلى عصور النقاء اللغوي لتستعين بها على مواجهة عصور العجمة والركاكة. وكانت تلك هي المهمة الأساسية لعصر الإحياء، المهمة التي أعاد بها أمثال البارودي وشوقي وحافظ والرصافي والزهاوي لغة القصيدة العربية إلى سابق عهدها في استخدام الشعراء الكبار من أمثال جرير وأبى نواس والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء. وعمل رجال من طراز محمد عبده وبطرس البستاني على نهضة اللغة وتخليصها من شوائب الضعف والركاكة التي ورثتها عن العصور المملوكية والعثمانية. ومضى رجال من أمثال رفاعة الطهطاوي وتلامذته وأقرانه في تطويع اللغة لتتقبل المعارف الجديدة لعوالم التقدم التي بدأ يتصل بها العقل العربي، ويدخل معها في حوار وصراع، انعكس كل منهما على استخدامه الغوي، فعادت أبواب الاجتهاد الغوي لتنفتح من جديد، كأنها الوجه الآخر من حركة الاجتهاد الفكري التي أشاعتها عقلانية مفكرين من صنف جمال الدين الأفغاتى أو حتى من صنف شبلى شميل. وكانت تلك هي بداية النهضة اللغوية الحديثة. لكن هذه النهضة لم تمض في خط صاعد من التقدم نتيجة عوامل عدة، وظلت تنطوي على صراع بين الأنا والآخر، أو المحلي والأجنبي، انعكست آثاره على اللغة، وظهرت نتائجه في ثلاثة مواقف متباينة تتصل كلها بعلاقة اللغة القومية بغيرها من اللغات، خصوصا لغة الآخر الأجنبي - المتقدم الذي يفرض سيطرته بأكثر من سبيل. أما الموقف الأول فهو موقف النفور من الكلمات الأجنبية الدخيلة، والعداء للتأثر بتراكيبها، تأكيدا للهوية القومية ودفاعا عن الذات الوطنية. والموقف الثاني هو الموقف النقيض الذي يمضي، في دعوى انفتاحه، إلى الإسراف في استخدام الأجنبي الدخيل، ولعاً من المغلوب بتقليد الغالب، وبحثاً عن حل اتباعي لمشكلة التخلف في بعد من أبعادها. وأما الموقف الثالث فوسط بين النقيضين، سواء من حيث تأكيده مبدأ الاقتراض الذي يعني التفاعل بين اللغات، أو قبوله مبدأ الأخذ لكل ما لا يمتلكه المتخلف من أسباب التقدم وأدواته ومخترعاته وبعض أفكاره التي لا تتناقض والهوية القومية. وأتصور أن الشاعر حافظ إبراهيم كان يعبر عن الموقف الأول، عندما كتب قصيدته "اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها" التي نشرها سنة 1903، والتي كان يؤكد بها مخاوف تيار بأكمله في الثقافة العربية من "لوثة الإفرنج" التي سرت في الحياة كما سرى لعاب الأفاعي في الماء العذب. ويلفت الانتباه في هذه القصيدة خطابها الدفاعي الذي يرد ضعف اللغة العربية إلى ضعف الناطقين بها، مؤكدا قدرتها على الاتساع لوصف الآلات الجديدة وتنسيق أسماء المخترعات الحديثة، فهي كالبحر في أحشائه الدُّر كامن، ينتظر الغواصين الذين يكتشفون فيه ما يصل عظمة الماضي بتطلعات الحاضر. وهو خطاب يكشف عن توتره الذاتي بين الماضي الذي فاخرت لغته أهل الغرب، والحاضر الذي يهدد هذه اللغة بأن يهجرها قومها إلى لغة أخرى لم يأخذها الخلف عن السلف، لغة تتجلى آثارها المدمره في الجرائد التي تحمل كل يوم مزلقاً يدني اللغة القومية من القبر دون إبطا. ولا حل لهذا الوضع - في ما يقول حافظ إبراهيم في قصيدته - إلا بالعودة إلى لغة الضاد التي حوت كتاب الله لفظاً وآية، وما ضاقت عن آي به وعظات، واستخراج كنوزها المطمورة لمواجهة مخاطر الحاضر المحاصر وتحديات الآخر المتقدم. قد يرفض بعضنا، اليوم، نظرة حافظ إبراهيم التي تبالغ في خوفها على اللغة العربية، وقد نرى في خطاب قصيدته نوعاً من الحدِّية التي تمضي إلى أقصى الطرف المحافظ. لكن البديل بالقطع، حتى لأولئك البعض، ليس التغريب المتعمد للغة، أو المضي في متوالية ولع المغلوب بتقليد الغالب على نحو ما نرى في هذه الأيام، وعلى نحو ما نرى من الإسراف في استخدام الكلمات الأجنبية ادعاءً للعصرية، والاندفاع إلى المسميات الأجنبية استخفافاً باللغة القومية، فذلك البديل نوع من الاتبّاع الثقافي الجديد الذي يلزم التبعية السياسية والاقتصادية بأسوأ معانيها. وآثاره الضارة في الهوية لا تقل خطراً عن آثاره التي تهدد استقلال الوعي وقدرات الإبداع الذاتي للأمة.