إطلاق 3 مشاريع لوجستية نوعية في جدة والدمام والمدينة المنورة    "مجد للاستثمار" و "عقارات السيف" تعلنان عن تحالف استراتيجي في المنطقة الشرقية    لاكروا: الأمم المتحدة ستعزز يونيفيل بعد التوصل لهدنة في لبنان    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    كوريا الجنوبية تهزم الكويت بثلاثية    تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    حسابات منتخب السعودية للوصول إلى كأس العالم 2026    رسميًا.. رانييري مدربًا لسعود عبد الحميد في روما    القبض على 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم 29,1 كجم "حشيش"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    انطلاق فعاليات المؤتمر السعودي 16 لطب التخدير    مركز الاتصال لشركة نجم الأفضل في تجربة العميل السعودية يستقبل أكثر من 3 مليون اتصال سنوياً    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 43736 شهيدًا    وزير الإعلام يلتقي في بكين مدير مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني    المروعي.. رئيسة للاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغا    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في «stc»    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    «هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    عصابات النسَّابة    رقمنة الثقافة    الوطن    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    أفراح النوب والجش    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    أجواء شتوية    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    مقياس سميث للحسد    الذاكرة.. وحاسة الشم    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في فيينا    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زلزال الحادي عشر من أيلول : سؤال لهم وآخر لنا
نشر في الحياة يوم 13 - 01 - 2002

شكلت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر في الولايات المتحدة زلزالاً هز الكثير من القواعد والمسلمات في العلاقات الدولية بين الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، والعالم العربي والإسلامي. طرحت أحداث أيلول سؤالين مهمين، الأول موجه إلى الولايات المتحدة والثاني موجه إلينا نحن العرب والمسلمين. السؤال الموجه إلى أميركا، وتحديداً إلى مثقفيها ومراكز البحوث الاستراتيجية وأصحاب القرار السياسي والمعنيين بالسياسة الخارجية الأميركية، هو: لماذا هذا الكره الشديد في نفوس عامة الناس في العالم العربي والإسلامي للولايات المتحدة؟ ولماذا استُهدفت أميركا بهذا العمل اللاإنساني الذي يحمل في طياته جرماً كبيراً لقتله مدنيين أبرياء لا علاقة لهم بالحكومة الأميركية، العدو المفترض لمنفذي العمليات الانتحارية؟
في خضم ردة الفعل القوية والرغبة بالانتقام التي عمت الولايات المتحدة من أقصاها إلى أقصاها كان من الصعب طرح مثل هذا السؤال بشكل ظاهر وعام في دولة تعتد بقوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية وترى أنها القوة العظمى في العالم. وعلى رغم ذلك استطاع بعض المثقفين وأصحاب الفكر من الليبراليين الأميركيين الإشارة إليه بتحفظ وعلى استحياء. لكن، بعدما أسقطت الطائرات الأميركية العملاقة من طراز "ب 52" قنابلها الضخمة على جنود "طالبان" و"القاعدة" مدمرة قرى بأكملها ومهلكة أعداداً كثيرة من البشر، ومنهم أبرياء لا علاقة لهم بحكومة "طالبان" أو "القاعدة"، عادت أميركا التي تشعر بأنها القوة العظمى الوحيدة في العالم، إلى توازنها ونشوتها، وأصبح المجال متاحاً لطرح السؤال بشكل جدي.
إن السبب الرئيسي للغضب العربي على الولايات المتحدة الذي أدى إلى استهدافها في هذا الهجوم الانتحاري الشرس هو موقفها من القضية الفلسطينية، هذه القضية المزروعة في قلب كل عربي ومسلم بكل أبعادها القومية والدينية. فالولايات المتحدة تقدم كل أشكال الدعم المالي والعسكري والسياسي لإسرائيل التي تمارس بدورها كل أنواع الظلم والبطش والإهانة للشعب الفلسطيني. فالولايات المتحدة تجني، إذن، كل يوم ومع كل حادث يُقمع فيه الشعب الفلسطيني، غضباً وكرهاً عربياً وإسلامياً يتراكم مع كثرة الأحداث وتعدد الأيام. وعلى رغم ان السياسات المحدودة الرؤية والهدف التي تنتهجها الحكومات العربية تجاه بعضها بعضاً أبعدت بين العربي وأخيه العربي، إلا أن الوشائج الكبرى، الثقافية والقومية والتاريخية، التي تربط مصيره ومستقبله بأمته العربية وقضاياها القومية لا تزال ضاربة في أعماق النفس والفكر والشعور واللاشعور العربي.
إن تعامل الولايات المتحدة مع القضية الفلسطينية حال فريدة من نوعها في السياسة الخارجية الأميركية، إذ انها تتعامل مع هذه القضية بشكل لا يمت بصلة على الإطلاق بالبراغماتية التي تتسم بها السياسة الأميركية عموماً في جميع أنحاء العالم. لقد ضحت الولايات المتحدة ولا تزال بكل مصالحها القومية والاستراتيجية في العالم العربي من أجل إسرائيل. وهذا الفعل الاستثنائي في السياسة الخارجية الأميركية تجاه العرب له ثلاثة أسباب:
الأول: يتعلق بالعلاقات الخاصة التي أقامتها الولايات المتحدة مع الحكومات العربية والتي ضمنت من خلالها صمت هذه الحكومات تجاه العبث الذي تمارسه واشنطن في العالم العربي.
الثاني: مرتبط بقوى الضغط الصهيونية الموجودة في الولايات المتحدة المؤثرة بشكل كبير على الفكر السياسي الأميركي في مواقع القرار مثل الكونغرس ومجلس النواب والبيت الأبيض كما في المؤسسات الفكرية والإعلامية ومراكز الدراسات الاستراتيجية التي مالت إلى الجانب الإسرائيلي على رغم عدالة القضية الفلسطينية حتى بالمعايير الاميركية.
الثالث: هو تقاعس الشارع العربي في التعبير عن غضبه واستنكاره لمواقف الولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينية لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية، منها القمع الذي تمارسه الحكومات العربية تجاه حرية المجتمع في التعبير السلمي عن رأيه.
لست متفائلاً في أن يتحرر العقل السياسي الاميركي الموجه لسياسة الولايات المتحدة الخارجية في المنطقة العربية من سيطرة الصهيونية الاميركية. فهذا الأمر قد يحتاج وقتاً. لكنني أكثر تفاؤلاً في أن تدرك الحكومات العربية شيئاً فشيئاً أن مصيرها الحقيقي مرهون بمدى التزامها بحماية قضاياها القومية كما يعبر عنها ضمير الشعب العربي وإحساسه، وليس رضا الولايات المتحدة عنها.
دعني الآن أقلب الصفحة وانتقل إلى السؤال الثاني والأهم الذي يطرحه زلزال الحادي عشر من أيلول والمتعلق بنا نحن العرب من الخليج إلى المحيط. هذا السؤال هو: كيف استطاعت مجتمعاتنا العربية والإسلامية إنتاج هذا النوع من البشر القادرين على القيام بهذه الأعمال الإرهابية الشنيعة في أماكن مختلفة من العالم؟ وكيف استطاعت هذه المجتمعات العربية التي تؤمن بالإسلام الذي جاء نوراً وسلاماً للبشرية جمعاء أن تنجب هؤلاء البشر المتهمين بقتل آلاف المدنيين الأبرياء؟ ما الذي حدث في مجتمعاتنا؟ وما هي مكامن الخطأ والانحراف في النظم والقواعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يقوم عليها هذا المجتمع التي جعلته قادراً على إنتاج هذا النوع والكم الهائل من الإرهاب؟
هذا السؤال مطروح علينا دينياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً وفي كل الاتجاهات، لأن العرب الأفغان، سواء من قاد منهم العمليات الانتحارية، إن ثبت ذلك، أو من انتظم في صفوف "القاعدة" التي ساهمت بشكل كبير في تدمير أفغانستان تحت مظلة "طالبان"، إن هم إلا نتاج الفكر الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد في البلاد العربية. هذا السؤال مطروح بشكل مباشر على الحكومات العربية والقيادات الفكرية وعلى كل من يشكل حاضر ومستقبل الأمة العربية هاجساً أساسياً ورئيسياً له.
لنبدأ في الجانب الديني أولاً: إن هذه الجماعات التي حملت السلاح وأعلنت الجهاد على ما تسميه بالكفر الداخلي والدولي تقيم سياساتها وتؤسس أفعالها على ما تدعي أنه الإسلام الحق. إنه فكر ديني يتقمص الإسلام ويأخذ منه ثوبه وعباءته، يدعي الأصولية والسلفية الإسلامية، وينتج فكراً ونظاماً سياسياً واجتماعياً بنلادنياً نسبة إلى بن لادن وطالبانياً يدعو إلى تقويض الحضارة البشرية الراهنة وبدء حضارة جديدة تقوم على فهم وتفسير ديني مغلق ومتطرف لجميع نواحي الحياة. لقد توارى مثقفو العالم العربي ومعهم أصحاب القرار السياسي لأكثر من ربع قرن، وابتعدوا عن مواجهة هذا الفكر والفقه الذي يدّعي أنه يمثل الإسلام الصحيح، وغضوا الطرف عما يجري على الساحة التعليمية والثقافية والإعلامية من توجيه وتأصيل وأدلجة لهذا الفكر الديني المغلق المتطرف حتى انتشر كالنار في الهشيم، وأصبح بالفعل فكر العامة ومذهبها الديني. هل من منكر أعظم وأهم من التعدي على الفكر الإسلامي وإلباسه لباساً غير لباسه ومعنى غير معناه ليصبح دين حقد وبغض وكراهية وهو في الحقيقة دين المحبة والعقل والسلام؟ يقول الله تعالى: "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" سورة النحل الآية 125، و"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله" سورة آل عمران الآية 64، و"لا تستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" سورة فصلت الآية 34.
اعتقل الفكر المغلق الاجتهاد المستنير والإبداع الحق فكان هذا التخلف الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. تخلف شمل جميع نواحي الحياة وشل حركتها ونهضتها. انه فكر مصدره اجتهاد جماعة مسلمة اعتقدت، وإن بحسن نية، أن لها الحق والقدرة على تفسير آيات القرآن الكريم وحديث الرسول ص في قالب متطرف الانغلاق، أنتج فقهاً مغالياً في التطرف والبعد عن استقراء الطبيعة البشرية والعقل البشري ومصلحة الأمة وعلاقتها بالأمم والأديان السماوية الأخرى.
الدين الإسلامي ككل الأديان السماوية كان ولا يزال وسيظل موضوعاً للاجتهاد وتعدد الآراء في تفسير آياته وأحاديثه. والتراث الإسلامي غني ومليء بهذه الاجتهادات التي أنتجت آراء فقهية ومذاهب إسلامية متعددة. ما أسميته بالفكر الطالباني المغلق يمكن أن يضاف كواحد من هذه الآراء والاجتهادات على رغم تطرفه الشديد في زمن قدّم فيه العلم إيضاحاً وبياناً لكثير من الأمور والمسائل التي كانت غائبة عن المجتهدين السابقين. لو اقتصر الأمر على كون هذا الفكر المغلق اجتهاداً يأخذه من يؤمن به ويتركه من يخالفه لهان الأمر ولما استفحل، لأن آراء واجتهادات مضادة ستتولى الرد عليه ومقارعته الحجة بالحجة. وهذا هو النهج الإسلامي والحضاري السليم. وبذلك يتاح للعامة أن تسمع وترى وتعرف وتستنير بالرأي والرأي الآخر، وسيكون بالتالي موقفها الداعم أو المعارض قائماً على الخلاصة المستنيرة ورأي الجماعة.
لكن الأمر لم يكن كذلك، حيث ارتبط الفكر المغلق بالقوة أداة لفرضه على الجميع. لقد تضافرت عوامل ثلاثة على فرض هذا الفقه والفكر المغلق بالقوة والإرهاب حتى أصبح، في كثير من الأحيان، كل من يجادله أو يناقشه موصوماً أو محكوماً عليه بالكفر أو الخروج عن الإسلام، هذه العوامل هي:
1- إرهاب العامة: التي آمنت وسلمت بأن هذا الفكر هو الفكر الإسلامي الحقيقي وإن كل من يقدم فكراً أو رأياً يخالفه هو كافر علماني قد يحل قتله أو يفرق بينه وبين أهله أو ينفى من الأرض.
2- إرهاب الدولة: في ظل غياب المؤسسات الديموقراطية الحقة والفاعلة في العالم العربي، وبسبب عدم امتلاك الحكومات فكراً واضحاً وقراراً سياسياً ثابتاً للتنمية شاركت في إعداده نخبة من كل شرائح المجتمع الفكرية المؤهلة دينياً وعلمياً ووطنياً، فإن الحكومات ستسير وراء العامة، تأخذ برأيها وتطلب رضاها وتعادي وترهب كل من يخالف فكرها ومذهبها.
3- إرهاب جماعة الفكر المغلق: العامة مُعسكَرةُ لصالح جماعة الفكر المغلق تأتمر بأوامرها وتُغير على من يعارضها، فيما تبنت الحكومات، الخاوية عروشها من رؤية واستراتيجية للتنمية الحقيقية ومن سجل مشرف لإدارتها السياسية والمالية واحترام حقوق الإنسان، جماعة الفكر المغلق لكي تؤمن لها رضا العامة. وبعدما أصبحت العامة في معسكرها والحكومات في يدها قامت جماعة الفكر المغلق بممارسة الإرهاب الفكري والجسدي على كل من يخالفها الرأي أو يجرؤ على طرح الأسئلة الكاشفة بعض مكامن الظلام في فقهها، تضرب تارة بسيف العامة وتارة بسيف الدولة.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما العمل؟ وأقول أن العمل يجب ألا يؤسس على الإرهاب المضاد، فالإرهاب لا يولد إلا إرهاباً، وإنما يجب أن يؤسس على إيجاد مساحة حرة لحوار هادف وبناء بين ما أسميته بالفكر المستنير والفكر المغلق في الفقه الإسلامي الحاضر. حوار لا يقوم على إلغاء الطرف الآخر بل على احترامه ولو اختلف معه، ولا يقوم على إرهاب الطرف الآخر وتكفيره واستباحة دمه بل احترام حقوقه الإنسانية والقانونية. حوار تؤسِسُ له وترعاه السلطة السياسية، ليكون مصدراً أساسياً لفكر ديني وسياسي واقتصادي واجتماعي قائم على تبادل الرأي وتلاقح الأفكار في إطار يحترم الثوابت الدينية والوطنية والسياسية ولا يتخطاها. خلاصة هذا الحوار وزبدته هو الوعاء الفكري السليم الذي تستطيع السلطة السياسية أن تؤسس عليه أنظمتها وتقيم عليه سياساتها، وهي مطمئنة أنه يمثل خلاصة لأفكار واجتهادات متعددة هدفها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وكلما اتسعت مساحة الحوار وحرية الرأي واتسعت الصدور لعدد أكبر من المشاركين والقضايا كان الفكر المستخلص أقرب إلى الصواب وأقرب إلى رأي الجماعة. العنصر الثاني في السؤال الذي يفرض علينا زلزال أيلول مراجعته وفحصه هو الفكر والنظام السياسي السائد في البلاد العربية. العالم العربي في كل أقطاره في أمسّ الحاجة إلى نظام سياسي يأخذ في الاعتبار حرية الإنسان وكرامته وحقوقه السياسية والمدنية. غياب كل هذه العوامل في النظام السياسي العربي وتفرد الحكومات بالسلطة من العوامل التي أدت إلى ولادة الفكر المنغلق المأزوم والميال نحو الإرهاب والعنف. إن خروج أعداد كبيرة من الشباب العربي إلى أفغانستان والبوسنة وغيرهما من المناطق الساخنة للمشاركة الفاعلة حرباً وموتاً فيما يعتقدون أنه حق إن هو إلا تعبير عما يعيشونه من حرمان في المشاركة الفاعلة في قضايا أوطانهم، هذه المشاركة التي تعبر في حد ذاتها عن أهمية الوجود الإنساني وكينونته.
الجانب السياسي من السؤال الذي طرحته علينا أحداث الحادي عشر من أيلول يمكن اختزاله في عنصر أساسي ومهم هو حرية المواطن في التعبير عن رأيه ضمن نظام يؤمن له المشاركة في إدارة شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذه المشاركة يمكن أن تكون ضمن الإطار السياسي والاجتماعي القائم حتى وإن لم تكن المشاركة ذات حجم ومساحة كبيرة الآن لكنها يجب أن تكون مشاركة حقيقية وليست صورية، على أن تنمو وتزداد بنمو العوامل المساعدة والمصاحبة للممارسة الديموقراطية.
نصل الآن إلى العنصر الثالث في السؤال المطروح علينا وهو الجانب الاقتصادي الذي لا يقل أهمية عن سابقيه الديني والسياسي. فحياة الإنسان المادية وما يتعلق منها بلقمة العيش من أهم العوامل المؤثرة على تكوينه النفسي وسلوكه. فعندما لا يجد المواطن فرصة لحياة مادية كريمة وعدل اجتماعي يساوي بين الناس - وليس من الضروري فيما يكسب ولكن في المتاح من السبل والفرص التي بها يكسب الناس جميعاً رزقهم- وعندما لا يجد المواطن إلاّ فقراً يحاصره في الحال وفقراً ينتظره في الأمل، فسيكون مهيئاً ومستعداً لتلقي أي فكر متطرف والقيام بأي عمل إرهابي. عندما يفقد المواطن كل شيء يسهل عليه فعل أي شيء.
هناك حد أدنى من الأمن الاقتصادي للمواطن يجب أن توفره له الدولة حفظاً لكرامة الإنسان وقدرته على الوقوف في وجه الشر. فالحكومات العربية ومن دون استثناء يعتري إدارتها للأموال العامة الكثير من الفساد الإداري والمالي والإنفاق غير المشروع، وفي المقابل هناك أعداد كثيرة ومتزايدة من المواطنين في حال من الفقر. وعندما يرى المواطن أن الفقر يحاصره من كل الجهات ويرى كيف تبدد أموال الأمة في جميع المجالات فلا شك في أن هذا الأمر سيدفعه للتطرف. فالمحافظة على أموال الأمة والحد من الفساد في إدارة الأموال العامة تجعلان المواطن يقنع بما لديه حتى ولو كان قليلاً. إنما يضير المواطن أن يرى البذخ والفقر متوازيين، كل له أهله.
الفكر الديني المتطرف والنظام السياسي المتفرد بالسلطة والنظام الاقتصادي المجافي للعدالة الاجتماعية هي العناصر الأساسية الثلاثة في السؤال الذي يطرحه علينا زلزال الحادي عشر من أيلول، نحن العرب من أصحاب القرار السياسي وأصحاب الفكر. فإذا استوعبنا السؤال جيداً وأخذناه بالجدية والحزم اللتين يفرضهما السؤال والواقع الدولي فإن تاريخنا سيجعل أحداث أيلول نقطة تحول في حياتنا وبداية طريق طويل إلى حياة أفضل. وإن نحن تجاوزنا السؤال، كما هي عادتنا في تجاوز الأحداث العظام من دون البحث عن الدروس المستفادة، فإننا لا شك متجاوزون هذا الزلزال إلى زلازل أكبر في القوة وأقرب في الجغرافيا الى ديارنا.
زلزال أيلول فيه رائحتنا وبصمات أبنائنا وشيء من الفكر الذي يلتف حولنا. أميركا ستبني البرجين وتغلق المداخل على العربي والمسلم، وتزيد من عمليات البحث والاعتقال لمن تشتبه بهم. الزلزال بالنسبة الى الأميركيين سحابة صيف تمر وتنتهي وإن جلجلت برعد وأشعلت السماء ببرق. أما بالنسبة لنا فإنه زلزال من تحت الأرض هز القواعد والأركان، آثاره كبيرة ونتائجه مهمة ويتطلب منا جهداً فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً متواصلاً لسنوات، هذا إذا أردنا النجاة من زلزال أكبر ودمار أعم وأشمل.
الحكومات العربية وعلى رغم بعض مظاهر الديموقراطية التي تتزين بها من انتخابات صورية ومؤسسات نيابية شكلية، تظل هي الآمر الناهي وصاحبة القرار في كل شأن من شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. الحكومات العربية بلا استثناء، شئنا أم أبينا، هي صاحبة الدور الفاعل والمهم في تنظيم حركة المجتمع. فهي تسيطر على المنابر الفكرية والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وهي التي تستطيع أن تفسح مجالاً أكبر لحرية الرأي والمشاركة أو تغلقه إن أرادت.
لذلك، وتأسيساً على هذا الواقع، فإن الحركة السلمية التي يمكن أن تقودنا إلى فحص العناصر الأساسية التي يطرحها علينا زلزال أيلول في المجال الديني والسياسي والاقتصادي تبدأ بوعي من الحكومات العربية لأهمية الحدث وضرورة البحث عن إجابات حقيقية ومباشرة لعناصر السؤال. هذا الوعي يتحول إلى إرادة سياسية عازمة جازمة على عدم تجاوز الحدث من دون استيعابه والاستفادة منه في تصحيح مسارنا في الفكر الديني والنظامين السياسي والاقتصادي على ضوء الثوابت الإسلامية المستنيرة والمبادئ الإنسانية والحضارية التي مركز دائرتها احترام حرية المواطن وحقوقه.
إذا تجاوزنا الحدث من دون عبرة واستفادة، فإن العالم، الذي أُلغيت بينه المسافات الجغرافية وأصبح مترابطاً بحكم وسائل الحياة وتقنياتها، لن يسمح لنا بالخروج عن نسق الحياة الحضارية الإنسانية لأنه ليس في معزل عنا ولا نحن بمعزل عنه. هذه الطبيعة الجغرافية والزمنية لعالم اليوم، التي ألغت استقلالية الأمم والدول الجغرافية وفرضت نوعاً جديداً من علاقات الجوار العالمي، أنشأت بين الأمم علاقات لا مجال فيها للخروج بشكل شاذ عن نسق سلوكي حضاري في العلاقات الدولية.
إن اهتمامنا بالنظر إلى وضعنا الداخلي يجب ألا يفرض علينا من الخارج، بل يجب أن يصدر أساساً من وعينا بأهمية التوافق والانسجام وليس التضاد والتعارض بين سلوكنا وسلوك العالم. فنحن جزء من حضارة هذا العالم، ساهمنا في بدايتها ولا نريد أن ننتقص من هذه المساهمة التاريخية بسلوكنا الحاضر. لكن إذا لم نبادر نحن في طرح السؤال على أنفسنا والبدء في البحث الجاد والواقعي لأجوبة ناجعة، فإن "الغير" سيطرح علينا السؤال وقد يملي علينا الجواب.
* كاتب سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.