"بولين وبوليت"، "إيريس" و"اغنية لمارتن" هي ثلاثة أفلام تشترك في البحث عما قد يحدث للعقل حين يُصاب وعما يحدث للشخص الذي يعيل المريض لاستكمال سنوات عمره. الأفلام الثلاثة قياساً الى موضوعها، ذات حس أكيد بالمعضلة، وتوفّر امعاناً جاداً بالموضوع الذي تطرحه. ولعلها لا تستطيع الا أن تفعل ذلك، فقصة عن امرأة متخلفة الذهن في "بولين وبوليت" وأديبة فقدت الذاكرة تدريجاً في "إيريس" وموسيقار فقد ايضاً الذاكرة في "أغنية لمارتن" لا يمكن معالجتها كوميدياً او حتى حيادياً. وعلى ذلك فالإختلافات في السبل التي من خلالها عالج كل فيلم قضيته ليست فقط واضحة، بل مثيرة جداً للإهتمام. ايضاً ينبري في كل فيلم من هذه المجموعة تمثيل مذهل في قدراته وطاقاته، ليس فقط من اولئك الذين يلعبون دور المصابين بل ايضاً - وعلى نحو بارز - من الذين يلعبون دور من عليهم قضاء حياتهم في تضحية متواصلة ليعتنوا بذويهم. لو كانت هناك جوائز عالمية بالفعل لأفضل تمثيل لما استطاعت إغفال اي من الممثلين الرئيسيين في هذه الأفلام، وجلهم باستثناء واحد من غير المعروفين جماهيرياً. الاحساس بالألم "بولين وبوليت" لمخرج جديد أسمه ليفين دبراور يبلغ 32 سنة من العمر وسبق له أن ربح في "كان" جائزة الفيلم القصير عن فيلم بعنوان "ليوني". هذا فيلمه الروائي الطويل الأول. نتعرّف الى بولين دورا فان در غرون في بيت شقيقتها. بولين هي امرأة فوق الستين من عمرها مصابة بتخلف ذهني يجعلها تمارس الهوايات ذاتها التي قد تمارسها فتاة دون العاشرة مثل التلوين وجمع قصاصات الورق الحمراء. انها لا تقرأ ولا تكتب ولا تفهم في المال ولا في الوقت ولا تستطيع الإحاطة باي شيء يتطلب إدراكاً وفهماً. وهي واحدة من أربع شقيقات تجاوزن كلهن متوسط العمر. الى جانب بولين، هناك بوليت آن بيترسون وسيسيل روزماري برغمانز ومارتا جوليين دي براين التي تعيش بولين حالياً في كنفها. عندما تموت مارتا فجأة، كل ما تستطيع بولين فعله هو أن تظهر في دكان بوليت وتقول لها أن مارتا نائمة. على بوليت، التي تملك محلاً لبيع الأقمشة النسائية، ان تحتوي بولين وذلك صعب عليها اذ أن زبائنها لا يحبّون مشاهدة امرأة معوقة فكرياً وسط المحل. المعايشة بين بولين وبوليت تبدأ صعبة وبوليت تصر على إرسال بولين الى سيسيل برغمانز التي تعيش في مدينة قريبة مع عشيق، وهذا الأخير سرعان ما يتبرم من وجود بولين ويضع سيسيل أمام اختيار، اما هو او بولين، لذا تعود بولين الى عهدة بوليت التي تدرك الآن أنها لا تستطيع أن تتخلى عن بولين لأحد. مصيرهما من هذه اللحظة ارتبط كثيراً. بوليت لم تعد تشعر فقط بالمسؤولية، بل تشعر بالحب تجاه أختها، تلك الحبيسة وسط مداركها العقلية المحدودة. على رغم فداحة الإحساس بالألم الناتج من وضع بولين، الا أن دبراور أبقى خيطاً من المرح، قدراً بسيطاً لا يُميِّع القضية المطروحة ولا الأحاسيس الإنسانية الناتجة. دبراور سينمائي يتآلف سريعاً ومن دون مقدمات مع موضوعه ويصوغه على نحو حانٍ ومتعاطف. لا يبالغ في استخدام الحال من أجل خلق قضية، ولا يضيف مشاهد أخرى لتأكيدها، بل يسرد قصته البسيطة في جو آسر بتصوير أليف مناسب ويترك لممثلتيه البارعتين در غرون وبيترسون تطوير العلاقة بين المشاهد وبين المادة المطروحة. فيلم صغير ورائع بحد ذاته تتويجاً للعلاقات الإنسانية. خلايا الذاكرة موضوع "بولين وبوليت" يذكر من بعيد بفيلم سميرة مخملباف "تفاحة" من حيث تعاطي ذلك الفيلم مع شقيقتين متخلفتين بسبب من طغمة الأب الأكثر تخلفاً. لكن هذا التذكير طوعي وليس تدليلياً، على عكس "ايريس" و"أغنية لمارتن" فكلاهما يتعاطى وموضوع خسارة المرء لخلايا الذاكرة "مرض الزهايمر" ووقع ذلك على شريك العمر. هناك لقاءات أخرى بين هذين الفيلمين يمكن استنتاجها عبر قراءتهما. "إيريس" هو أحدث هذه الأفلام. انتاج بريطاني مع مساهمة اميركية من خلال قيام ميراماكس بالتوزيع، من المخرج ريتشارد آير الذي هو مخرج مسرحي، أساساً، ومؤلف كتب في الدراما. الموضوع الذي يقدمه مقتبس من كتاب وضعه الناقد الأدبي جون بايلي بعنوان "إيريس: ذكريات" قبل ثلاثة أعوام. يقول المخرج انه منذ أن قرأ تلك المذكرات فكر فقط في أمرين: الأول تحويلها الى فيلم والثاني إسناد بطولته الى جودي دنش التي كانت تعمل معه في مسرحية "منظار آمي" لديفيد هير. واذا ما نظرت الى صورة فوتوغرافية للكاتبة إيريس مردوك والى جودي دنش تجد التشابه حقيقياً. جون بايلي كان تعرّف الى إيريس في المجتمع الأدبي الذي ينتمي اليه كل منهما، هي ايريس مردوك كمؤلفة لنحو 22 كتاباً وهو كناقد. انما التناقض بينهما شاسع، ليس في مجال العمل فقط هي فاعلة. هو مستقيل، بل هي متحررة وهو خجول. هي قائدة وهو يفضل الدور الثاني. هي ذات علاقات جنسية متعددة وهو بالكاد تجاوز وقع التجربة الأولى على رغم سنوات عمره. لكنهما يقعان في الحب الذي هو بدوره ليس الحب الرومانسي المعتاد. لا يشرح الفيلم ماذا وجدت فيه ولا لماذا عنت إيريس كل ذلك القدر لزوجها، لكن الأرجح هي أنها وجدته مختلفا ولذلك جذاباً وأظهر من جانبه تفانياً في فهمها امتد ليشمل صبره على تلك العلاقات التي أقامتها مع آخرين حتى من بعد معرفتها به. في الصفحة 218 من كتابه يصف آثار مرض "الزهايمر" على النحو التالي: "في الحقيقة فإن الزهايمر مثل الضباب الداخلي بالكاد يُلاحظ قبل أن يختفي كل شيء حوله. بعد ذلك من الصعب التصديق بأن هناك اي عالم كامن خارج ذلك الضباب". وصف فاعل لهذا المرض الذي يهاجم خلايا الذاكرة من دون إنتباه. فجأة تجد المرء يبحث عن كلمة، عن إسمه، عن عنوانه، عن رقم هاتفه، وسريعاً بعد ذلك يبدأ البحث عن وظيفته في الحياة بأسرها عن كينونته كلها. انه سفر العقل في رحلة لا يعود منها وعلى متن قطار لا يتوقف. الطب نفسه لا يستطيع فعل شيء تجاه هذه الحال. المشاهد التي يختارها الفيلم لاستعراض هذه الحال مقبضة لكنها جزء من التوليفة الأدبية/ السينمائية بأسرها. بينما تؤدي جودي لينش، ببراعتها الفائقة، دور إيريس كبيرة، تؤدي كيت وينزلت دور إيريس شابة. لذا يمشي الفيلم على خطين متوازيين متنقلاً بينهما من حين لآخر. لكن جون بايلي يؤدي دور شخص واحد في العمرين هو جيم برودبنت، ويا لها من براعة في الأداء لا يمكن وصفها بسهولة. الشيء الثمين الذي لا يمكن نفيه من طينة التمثيل لدى أولاد المسرح البريطانيين قدرتهم الفائقة على دخول الشخصية التي سيمثلونها والذوبان فيها تماماً. برودبنت شاهدناه في "توبسي تيرفي" و"مولان روج" من بين أخرى يجسد الشخصية الواحدة في مرحلتين مختلفتين من العمر محافظاً في الوقت نفسه على المسافة بين كل مرحلة والعلاقة. انها ليست مسألة تجميل "ماكياج"، ولا مسألة بطء في الحركات في السن المتقدمة او إنحناءة في الظهر، بل تطوّر في الذات وعلاقة وثيقة بفهم الشخصية ما يظهر منها وما يبقى في الباطن. "إيريس"، على صعيد المعالجة يكشف عن ضعف مخرج مسرحي في تطويع أدوات اللغة السينمائية جيداً. اعتماد ايريس على الممثلين هو أبرز ما لديه من معطيات عمل فاعلة. هذا وهو ما ينتج من القصة ذاتها من تعاطف شديد ربما ليس تجاه إيريس الضحية المباشرة بقدر ما تجاه جون بايلي الضحية التي لا تقل أهمية. عليه منذ أن بدأت إيريس تفقد ذاكرتها، أن يرعاها ناهلاً من حبه الكبير لها وربما من حقيقة أنه اذا ما تركها، فإنه لا يملك ما يعيش من أجله او يذهب اليه في مثل ذلك العمر المتقدم. توارد خواطر! هناك تشابه كبير بين "إيريس" و"أغنية لمارتن". اذ شاهدت "أغنية لمارتن" قبل أشهر من "إيريس" فإن لا شيء كان يمنع من اعتبار فيلم بيل أوغست الجديد سبّاقاً بين الفيلمين في معالجة موضوع الزهايمر. الموضوع ذاته، البناء الدرامي نفسه، بعض المشاهد لا تختلف ... هل يمكن أن يكون "إيريس" نقل عن "أغنية لمارتن"؟ حقيقة أنه اقتباس عن كتاب موضوع منذ نحو ثلاثة أعوام وأنه مكتوب بقلم صاحب العلاقة ينفي ذلك. لكن "أغنية لمارتن"، وهو فيلم سويدي/ دنماركي، مأخوذ بدوره عن رواية نشرت قبل بضع سنوات ألفتها أولاً ايزاكسون. بذلك، لا يمكن الا الحديث عن توارد خواطر غريب أفرز مشاهد تكاد تكون واحدة في موضوع يؤلف الجانب الآخر من المعضلة، فالمتعرض للإصابة هنا هو الزوج والوقع يحط على الزوجة. يبدأ "أغنية لمارتن" بتعريفنا بالشخصيتين الرئيستين باربرا فيفيكا شلدول ومارتن سفن فولتر. هي امرأة في الأربعينات متزوجة ولديها ولدين تعزف الكمان في اوركسترا كبيرة يقودها الموسيقار مارتن. الحب يقع فجأة ومن دون كثير مقدمات. تطلق زوجها البارد وتلتحق بمارتن ويتزوّجان وينطلقان في رحلة شهر عسل في المغرب حيث يسبحان في المياه الدافئة ويعيشان تتويجاً لحب انعشهما من ترهلات السنين. سريعاً بعد عودتهما الى بيتهما الساحلي في قرية وادعة، يبدأ مارتن التعرض لأولى ملامح المرض. بينما كان يكتب نوتته الموسيقية، يتوقّف لأنه نسي ما كان يفعل. تماماً مثل إيريس حال نتعرّف على تلك العوارض، كانت تكتب روايتها فتتوقف اذ نسيت ماذا كانت تريد أن تكتب. من العوارض الى القاع تنحدر حال مارتن. في إحدى المناسبات التي عليه أن يقود فيها الأوركسترا يتوقف فجأة... لا يذكر لماذا هو على المسرح في المقابل كانت إيريس تجري مقابلة تلفزيونية عندما فقدت كل شيء!. بعد ذلك، وفي زيارة ثانية للمغرب يكاد مارتن يغرق، واذ تحاول زوجته باربرا انقاذه يشدها معه ويكاد يغرقها المشهد نفسه في "إيريس"، ثم هناك مشهد ضياعه في شوارع المدينة قصير وفعّال في الفيلم الدنماركي، طويل وباهت التأثير نوعاً ما في الفيلم البريطاني وفي "بولين وبوليت" متوّج بالتوقعات مع باربرا تركض في أنحاء الدار البيضاء باحثة عنه. "أغنية لمارتن" أكثر من اي فيلم آخر على علاقة بتفاصيل الحال المرضية. يكاد يتحوّل فيلماً علمياً. يترك الإنطباع بأنه خارج من المختبرات الطبيّة. لكن بيل أوغوست يوظف هذه الصفة لمصلحة الفيلم بإبقائها عاملاً مساعداً في توليفة كبيرة من العلاقات الإنسانية. ويصرف قدراً كبيراً لمتابعة العبء الكبير الملقى على باربرا اذ عليها الآن أن تنقطع عن مزاولة حياتها الخاصة وتطلعاتها الفنية واستقلالية لحظاتها وتصرف الوقت كله لرعاية طفل كبير قد يبول على زرع داخل مطعم او يقضي حاجته الكاملة في السرير. بينما جون بايلي لا يترك زوجته الى أن تموت في عمق ضبابها، تقتنع باربرا أنها لن تستطيع أن تصاحب زوجها في بقية رحلته، هو بالكاد يتذكرها ولو أن أسمها دائماً على شفتيه تفعيلة عاطفية مناسبة تبعث أسى وابتسامة في الوقت ذاته. تتركه في المستشفى وتقرر مواصلة حياتها من دونه. ليس بأي غضب او تشفٍ او شعور بالذنب... فقط بأسى لأن حياتها انقلبت كما لم تتصوّر انها ستنقلب. بيل أوغست يقدم الفيلم الكامل عن "الزهايمر". وعلى رغم التشابهات الموزعة في نطاق القصة ذاتها بينه وبين "إيريس" الا أن مستوى الفيلم السينمائي أفضل بكثير. جودة استخدام المفردات ضمن عمل صغير الإنتاج وكبير الوقع تنبهنا الى أن أوغست أدرك في نهاية المطاف أن مثل هذه الأعمال قد تكون أقل عرضة للإنتشار العالمي من تلك الإنتاجات الكبيرة بالإنكليزية التي أقدم عليها أخيراً "البائسون" آخرها، الا أنها أبقى أثراً وأكثر تحرراً من مسؤولية العمل ضمن قالب توظيفي على المخرج فيه أن ينشغل في متابعة الجانب التسويقي ضمن سياق مهامه كمخرج ما يجعله عرضة للتنازلات. الأفلام الثلاثة متحررة من هذه المهمات، انسانية الأفق، حميمة المعالجة وتضعنا نحن الذين نأمل أن نكون أصحاء وخارج مجال الضباب، شاهدين على قسوة المرض كما على عمق الصلة العاطفية بين اولئك الذين يعيشون قريباً بالمريض: الشقيقة المتفانية في "بولين وبوليت"، الزوج العاشق في "إيريس" والمرأة المضحية في "أغنية لمارتن".