أين أميركا في الشرق الأوسط؟ موجودة غير موجودة. مثل الجنرال المتقاعد انتوني زيني، فهو حط وطار، وشهد تفجير قضية "سفينة الأسلحة" في وجهه. هل فهم أن إسرائيل بدأت تنفض يدها من مهمته أم أنه سيستمر في الاعجاب بالعسكريين الذين كلفهم شارون وموفاز بخداعه؟ مهمته أن ينفذ "خطة تينيت"، والخطة تتطلب الآن خطوات إسرائيلية. أي تغيير في الوضع على الأرض يعني لشارون وموفاز أن خطتهما لن تبلغ هدفها المرسوم: انهاء وجود السلطة الفلسطينية بعدما وظفت لإخماد الانتفاضة. وأي بحث في "خطة تينيت" وتوصيات "لجنة ميتشل" يعني ل"بطل" مجزرة صبرا وشاتيلا أن عدوه الشخصي ياسر عرفات سيكسب "شيئاً ما" في النهاية. هناك صمت مريب وغريب في واشنطن. ويدرك العارفون أن مثل هذا الصمت يخيم كلما اقتربت المداولات من مطالبة إسرائيل بالتزامات يعرف الأميركيون مسبقاً أنها لا تحبها، بل استبقتها باقتراحات بديلة تذهب في الخط الذي انتهجه شارون. ومنذ وصول هذا الأخير إلى السلطة عرف كيف ينتزع الموافقات الأميركية على خياراته بما فيها تلك التي يعرف مسبقاً أن واشنطن لا تحبها. وكان أسوأ ما ارتكبته الإدارة الأميركية، في الفترة الأخيرة، استسلامها لشارون وهو يقحم مأزقه مع الفلسطينيين في الحرب الأميركية على الإرهاب. وهو مستعد، بل مؤهل، لاستدراجها أكثر فأكثر على هذا الطريق، مع علمها أنه لا يعني سوى خيار واحد: إلحاق السلطة الفلسطينية ب"طالبان". فهذا هو منطق الحرب على الإرهاب، وهو ما يطبقه شارون لخلع السلطة والتخلص منها، وبالتالي من كل ما يسمى "اتفاقات" بينها وبين حكومات إسرائيل. تعرف واشنطن أي حال آلت إليها المناطق الفلسطينية، لكنها تتصرف كأنها لم ترَ ولم تسمع. إذ أن شارون انتهز الانزلاق الأميركي في نهجه ليعيد وضع الفلسطينيين تحت الاحتلال. فهو وضع رئيسهم في شبه إقامة جبرية، بعدما كان الأخير وضع الزعيم الروحي ل"حماس" في الإقامة الجبرية وسجن مَن سجن من النشطاء ولا يزال يطارد الآخرين. وفي المقابل، يواصل الإسرائيليون من جانبهم حملات الاعتقال وعمليات التوغل والتدمير. وقد يعتقد زيني، أو سواه في واشنطن، ان انحسار العنف يشجع على مباشرة المرحلة التالية من مهمته. لذا قدم لإسرائيل لائحة مطالب، فقدمت له مسرحية "سفينة الأسلحة". وسواء أخذت واشنطن بهذه المسرحية أم لم تأخذ بها، فإن شارون سيتصرف وفقاً للخطة، وكأن زيني ومهمته غير موجودين أصلاً. هذا هو الوضع الذي ساهم الأميركيون في افلاته من أي ضوابط، لكنهم قد لا يجدون بداً من التكيّف مع نتائجه الكارثية، التي أصبح في إمكانهم أن يتخيلوها، لأن شارون أبلغهم مسبقاً ولم يصدقوه، وظنوا أنهم يستطيعون حصره في خطوط حمر، لكنه اجتهد للاحتيال على كل القيود حتى لم تعد أمامه محرمات. وقد يطلب من حكومته غداً أن تعلن السلطة الفلسطينية عدواً، فيجتاز جنوده إلى الجانب الآخر من الطريق لاعتقال الجميع. وفي غياب أي رادع دولي، ارتضت واشنطن وضع الشعب الفلسطيني تحت "رحمة" مجرم الحرب هذا، ظناً منها أنها قادرة بعدئذ على جلبه إلى طاولة مفاوضات ليعرض أفكاره للسلام. لم يسبق لأي زعيم إسرائيلي أن دفع الولاياتالمتحدة إلى فراغ وخواء كاللذين نشهدهما: لا أفكار ولا مبادرات ولا رؤية ولا موقف ولا جرأة على الأفعال حتى لتطبيق أسخف الأقوال. ولم يسبق لأي حليفين ان كانت علاقتهما بمثل هذا الاختلال لمصلحة الصغير الذي يقتاد الكبير إلى ارتكاب صغائر السياسات.