في الأول من كانون الثاني يناير حلت الأوراق النقدية والقطع المعدنية ل"اليورو" مكان العملات الوطنية لإثنتي عشرة دولة من أصل الخمس عشرة التي يتألف منها الاتحاد الأوروبي. وزادت التساؤلات حول انعكاساته على اقتصادات الدول المتوسطية الشريكة، في طليعتها دول المغرب العربي التي تتجاوز مبادلاتها في بعض الحالات والسنوات نسبة 70 في المئة. ومن أبرز هذه الطروحات التي بدأت تأخذ في الأشهر الثلاثة الأخيرة شكل نقاشات وسجالات داخل دوائر القرار المالي في الرباط، كما في تونسوالجزائر، التساؤل المرتكز حول التأثيرات المباشرة لاعتماد اليورو على التعاملات التجارية والتدفقات المالية خصوصاً وان هذه الدول الثلاث المغاربية، تعلق بالغ الأهمية السنة الجارية على اجتذاب الاستثمارات الخارجية المباشرة وعلى عائدات التخصيص لتصحيح موازينها الاقتصادية المختلفة من جهة، ولخفض حجم الدين وخدمته من جهة اخرى. وينطبق الشق الثاني، والحالة هذه، على وضعية كل من المغرب والجزائر، في حين تسعى تونس لضمان تحقيق معدل لنموها الاقتصادي الوسطي، المنتظم منذ اعوام في حدود 5.2 في المئة، كذلك خلق فرص عمل جديدة تساهم في لجم البطالة التي سجلت تراجعاً رمزياً بنسبة 0.6 في المئة العام الحالي. ومن التساؤلات الأخرى ايضاً: هل سيدفع التعامل باليورو، الدول المغاربية لإعادة صوغ سياساتها الاقتصادية، أو أنظمة الصرف المتبعة من قبل مؤسساتها الرسمية والخاصة، كذلك تحويلاتها؟ وهل ستؤدي هذه النقلة لنشوء معطيات جديدة ستفرض نفسها وأدواتها على المبادلات التجارية بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي؟ ويأتي أخيراً السؤال الأهم الذي لم يتمعن الخبراء في العواصم المغاربية الثلاث من استشفاف الإجابة عليه وهو: الى أي مدى سيؤثر اعتماد اليورو في تدفق رؤوس الاموال وجذب الاستثمارات الخارجية لأسواق شمال افريقيا المتوسطية المالية؟ تفاؤل يطغى على الحذر للإجابة على كل هذه الأسئلة، أو على جوانب منها وترك الباقي لعامل الوقت وعنصري التجربة في التطبيق وقدرة المؤسسات المغاربية على التأقلم مع هذه الحالة النقدية المستجدة، يتحتم اعطاء صورة مفصلة عن طبيعة علاقات دول المغرب العربي مع شركائها الأوروبيين. على هذا الصعيد، ذكرت الدراسة التي نشرها صندوق النقد الدولي أخيراً أن الاتحاد الأوروبي هو أهم، إذا لم يكن الشريك الاقتصادي والمالي المتميز لدول جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط المغاربية. وتشير الأرقام الواردة ان 60 في المئة من المبادلات على شكل منتجات وخدمات تتم بين هذه الدول واعضاء الاتحاد. في المقابل، فإن حصة هذا الأخير من التجارة الخارجية مع منطقة المغرب العربي تتجاوز 70 في المئة وتأتي البروتوكولات المالية لتكمل الحلقة في هذه المبادلات التجارية. وفي بند الخدمات، يبقى الاتحاد الأوروبي أبرز مصدر للعائدات بالنسبة للدول المتوسطية نظراً لكون 40 في المئة من السياح الذين يزورون هذه المنطقة يأتون من مختلف بلدانه، مما يشكل دخلاً لا يستهان بانعكاساته كونه بالعملة الاجنبية. كما ان النسبة الأخرى الأكبر من الدخل السنوي عبر تحويلات العاملين المهاجرين ومن خلال الاستثمار الخارجي المباشر تأتي بدورها من أوروبا. وفي عام 2000، وصل حجم العائدات من هذين المصدرين 15.8 بليون دولار بالنسبة للأول، و6.5 بليون للثاني، أما حصة الدين الخارجي للدول المغاربية بالعملات الأوروبية، فقد تجاوزت حسب دراسة صندوق النقد الدولي نسبة 20 في المئة للجزائر ومصر والمغرب وتونس. وعلى رغم التباين في وجهات النظر بين مختلف المحللين الماليين حيال انعكاسات اليورو على اقتصادات دول المغرب العربي، الا ان هناك شبه اجماع على ايجابياتها عموماً. وتجدر الإشارة في هذا المجال للبيئة الخارجية الأكثر وضوحاً وشفافية عنها في السابق، مما يسمح لهذه البلدان بالاستفادة ما أمكن من الحسنات المقارنة التي توفرها في المدى الطويل. وحول ما يتعلق بتبادل المنتجات والخدمات، يعتقد خبراء صندوق النقد الدولي بأن الدول المغاربية ستستفيد في آن معاً من تعزيز الفرص التي توفرها أسواق الاتحاد الأوروبي، كذلك من المنافسة الموجودة، وايضاً خفض كلفة التمويل. بالإضافة الى ذلك، من المتوقع ان يؤدي التعديل الذي سيطرأ على فوترة المبادلات بين أوروبا وشركائها في جنوب المتوسط للتأثير مباشرة في سياسات هذه الأخيرة، تحديداً على صعيدي التجارة الخارجية واسعار الصرف. أما على مستوى الاقتصاد الجمعي، فإن اعتماد اليورو سيكون له من دون شك انعكاسات جيدة بالنسبة لتحديد سياسات اقتصادية اكثر مقبولية في المستقبل، متمحورة حول تحسين معدلات النمو. من جهة اخرى، فإن التحولات الاساسية التي يمكن ان تنشأ على صعيد اسواق رؤوس الأموال في أوروبا لا بد وان يكون لها ارتباط عضوي بالقروض الخارجية التي ستحصل عليها الدول الشريكة في السنوات المقبلة. ويرى بعض المراقبين في بروكسيل، أن دخول العملة الأوروبية الموحدة حيز التداول لا يجب ان يكون له تأثير سلبي على قرارات الاستثمار الاجنبي المباشر، لأن احتمال استخدام اليورو كأساس في سياسات الدول المغاربية سيضاعف من استشفاف المراحل تمهيداً لإرساء حالة من الاستقرار النقدي بحيث يتحول تدريجياً لعنصر مساعد على جلب الاستثمارات نحو المنطقة. ومن جملة الايجابيات المتوقعة، استفادة هذه الدول من الحالة التنافسية الملحوظة التي ينتظر تطورها بين دول الاتحاد لناحية التمويل الخارجي وذلك بفضل اتساع رقعة اسواقها المالية وتدفق رؤوس الاموال اليها. الأمر الذي لا يمكن ان تستوعب حسناته الدول المغاربية اذا لم تعمد وبسرعة لإجراء الاصلاحات التحديثية المطلوبة والضرورية لقطاعاتها المصرفية والمالية. حسابات ضيقة ودقيقة تشكل ولادة هذه العملة الموحدة سابقة فريدة في تاريخ النقد، ستدفع، حسب الاستنتاجات الأولية للخبراء، ببلدان المغرب العربي، القريبة جغرافياً من دائرتها والتي لأوروبا علاقات تجارية ومالية وبشرية وثيقة معها الى المزيد من الترابط والتشابك والتعقيد في آن معاً. فهذا الحدث الانتقالي سيحمل معه من دون شك آمالاً بتنمية المبادلات وتقدم ملموس في عملية الاندماج المالي بين الأطراف المعنية. لكن على رغم من هذا التصور الشمولي لطبيعية الانعكاسات المتوقعة، إلا انه من الموضوعي القول بأن هذه المرحلة تتضمن مخاطر بالنسبة لدول القارة الافريقية بما فيها المغاربية، كما ويرتب عليها شروطاً تعاملية من نوع جديد. بناء على هذا الواقع هناك احتمال من ان يؤدي اعتماد اليورو الى ممارسة ضغوطات مختلفة على المبادلات التجارية بين أوروبا ودول المغرب، خصوصاً ان أبرز المستوردين والمصدرين - المتعارف على تسميتهم ببلدان القوس اللاتيني أي فرنسا، ايطاليا، اسبانيا والبرتغال، والمانيا ودول البينيلوكس أي بلجيكا، هولندا، ولوكسمبورغ - لشمال افريقيا يشعلون جزءاً لا يتجزأ من منطقة اليورو. لذا، فإن انخفاض كلفة التعاملات التي يستفيد منها اعضاء "الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي" هي سيف ذو حدين بالنسبة لدول المغرب. بمعنى ان تعزيز المنافسة في منطقة اليورو من شأنه ان ينعكس سلباً على صادرات البلدان غير الأوروبية التي تتأثر منذ ما قبل ولادة اليورو بفترة من المنافسة الحادة للمنتجات الأوروبية نظراً لما تتمتع به هذه الأخيرة من امتيازات. لكن، في الوقت نفسه، فإنه من الأسهل والأوفر لها التصدير نحو اسواق أكبر وفق عملة موحدة بدل التوجه نحو اسواق مختلفة تتعامل بعملات متعددة. اضافة الى ذلك، فإن الاندماج النقدي الأوروبي سيساهم عملياً بإزالة مخاطر الخفض المتتالي لقيمة العملات دخل دول الاتحاد كما حصل لليرة الايطالية والبيزيتا الاسبانية والاسكودو البرتغالي مما أدى في الماضي لإضعاف شديد لمنافسة المنتجات المغاربية باتجاه أوروبا. وعلى الصعيد المالي، فإن اعتماد العملة الموحدة من شأنه ان يعزز اندماج الاسواق الأوروبية ببعضها البعض مما يبعد عنها المخاطر المتعلقة بأسعار الصرف، ويضاعف من جذب الاستثمارات اليها. فوجود سوق مالية أوروبية مندمجة كلياً، تقدم حسنات عدة بالنسبة الى دول المغرب العربي بحيث يمكن ان تتحول أداة فاعلة، قادرة على توجيه التدفقات الرأسمالية العالمية نحو بلدان المنطقة المذكورة، كما يمكنها ان تسهل الاصدارات السيادية باليورو انطلاقاً من منطقة شمال افريقيا، كذلك الاسهم العائدة لمؤسسات الاقراض فيها. لكن هذه الفرص لا يمكن ان تتطور الا اذا شهدت القطاعات المالية في هذه البلدان اصلاحات جدية. في هذا السياق، ينبغي التذكير بأن بورصات المغرب العربي لا تزال ضيقة الآفاق ومتذبذبة النتائج، أي غير مستقرة بالمفهوم المهني الحديث، في حين يشكو القطاع المصرفي فيها من ضخامة الديون المشكوك بتحصيلها أو الهالكة كلياً وعدم وجود نية لدى السلطات المحلية المعنية لوضع حد للتجاوزات الموجودة. هذا بالإضافة لغياب البنيات الوسيطة، القادرة على لعب دور في قوننة وتسيير التدفقات وضمان استثمارها في السوق المالية. ويرى بعض الخبراء ان اعتماد اليورو بشكل متزايد وانعكاسات ذلك على العلاقات المالية الأوروبية - المغاربية يطرح السؤال حول مدى الارتباط النقدي مستقبلاً. في هذا الاطار، ينبغي القول بأن المسألة تبدو سهلة ومنطقية بالنسبة لكل من المغرب وتونس، اللذان وقعا منذ سنوات اتفاقات شراكة مع الاتحاد الأوروبي وربطا عملتيهما بسلة مؤلفة بغالبيتها من العملات الأوروبية. فالجزء الأكبر من الدين المترتب على المملكة المغربية، على سبيل المثال، محرر بهذه العملات بالفرنك الفرنسي تحديداً، نظراً لأهمية نسبة الدين العام العائد لفرنسا. من ناحية اخرى، فإن تجارتها كما تونس هي موجهة بغالبيتها نحو الاسواق الأوروبية. أما الجزائر وليبيا التي تشكل المنتجات النفطية والغازية اساس تجارتيهما، فإن الأمر يختلف كون العقود محررة جميعها بالدولار الاميركي، كذلك الذين المترتب عليهما. لذلك، فإن مصلحتهما تقضي باستقرار سعر الصرف بالنسبة لسلة العملات حيث لا يكون اليورو سيطر بالضرورة لكنه مهم بنسب معينة. أما فيما يختص بالتجارة، فإن صادرات الجزائر من الغاز ووارداتها من الاجهزة وقطع الغيار والمواد الاستهلاكية تتم بشكل واسع مع أوروبا. لذا، فإن لهذا الخيار مصلحة في وضعها جزئياً بمنأى عن تقلبات العملات الكبرى وتشابكاتها. المصارف والشركات: اي استعدادات؟ يؤكد حكام المصارف المركزية في دول المغرب الثلاث الرئيسية لناحية التعامل مع الاتحاد الأوروبي، بأنها مستعدة كل الاستعداد لاستقبال هذه المرحلة الانتقالية النقدية. ويشير هؤلاء الى ان التعليمات الضرورية قد اعطيت للمصارف المحلية والشركات المصدرة بهذا الشأن من خلال مذكرة بتاريخ الرابع من كانون الثاني يناير 1999 التي تشرح فيها شروط التعامل باليورو. فكانت نتيجة ذلك ان تحركت بسرعة ووضعت الأسس العملية والمالية لانجاح المرحلة الانتقالية بأقل كلفة وضرر محتمل ممكن. كما أعدت الأدوات اللازمة داخل الفروع المتعاملة مع الخارج، تحديداً التي تستقبل تحويلات العمال المهاجرين، لاحتواء التدفقات المفاجئة. كما عمدت للقيام بحملات لشرح المسألة وتأهيل موظفيها في الداخل والخارج لتسهيل عمليات تحويل الحسابات المفتوحة بالعملات الاجنبية والإشراف على عمليات التصدير والاستيراد. ولم تبخل المصارف الخاصة والمختلطة والعامة وكذلك مؤسسات الاقراض، في تمويل الحملات الاعلانية والحلقات الدراسية الخاصة بشرح أهمية التعامل باليورو بالنسبة لاقتصادات دول المغرب العربي. ويجزم مسؤولو المصارف بأن الأساس في هذا المجال قد تم انجازه وبأن كل الخطوات الضرورية قد تم اتخاذها تدريجياً منذ الاعلان عام 1999 عن اعتماد العملة الأوروبية الموحدة ابتداء من مطلع 2002. يبقى فقط مسألة جمع الأوراق النقدية من الاسواق وتسليمها للمصارف المركزية التي ستتولى بالتالي ارسالها الى البنك المركزي الأوروبي. وبالنسبة الى الانعكاسات على الشركات المغاربية، يؤكد رولان باراش، المدير التجاري المساعد لمصرف "كريدي أغريكول - اندوسويز" خلال مشاركته أخيراً في ندوة في الدار البيضاء حول تأثيرات اليورو على الشركات المغربية بالقول ان "تمركز السيولة باليورو ستسهل فنياً ومالياً العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الشركات المغاربية والموردين والشركاء الماليين في منطقة اليورو". ويضيف هذا المصرفي، الذي تملك مؤسسته 30 في المئة من حصة أحد أهم المصارف الخاصة في المغرب، بأن العملة الموحدة الجديدة ستساعد الشركات في دول المغرب على التجارة من دون مخاطر تذكر لسعر الصرف، وربما لناحية كلفة العمليات المرتبطة بالتحويل، وأهم ما في الأمر ايضاً ان هذه الشركات ستدخل من دون عوائق في اتصالات مالية مع 300 مليون نسمة يعيشون في 12 بلداً أوروبياً. فمن الآن وصاعداً يمكن للشركات المغاربية ان تقارن الاسعار، تختار الشركاء وتضمن بالتالي منافسة شريفة. فخفض كلفة العمليات والضرائب التجارية وما ينجم عنها لا يمكن إلا ان يكون في صالح العلاقات التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي. فغياب العدو الأول، أي تذبذبات سعر الصرف واستقرارها مع تطبيق اليورو لا يمكن الا ان يكون مفيداً للشركات المغاربية التي عانت كثيراً من السلبيات التي فرضتها هذه الحالة النافرة. يبقى سؤال واحد هو المطروح: ماذا سيكون الحال بالنسبة للطرفين الذين يتعاملون بالسوق السوداء؟ فمن المتوقع ان يقل حجم أعمالهم لأن عدد العملات المعروضة على الزبائن سيقل كثيراً بحيث لن يتسنى لهم بعد اليوم سوى التركيز على الدولار. على أية حال، ستبقى ظاهرة الاسواق التحتية موجودة وعلى حالها كونها تشكل في احدى دول المغرب العربي ما يوازي 30 في المئة من ناتج الدخل القومي. * اقتصادي لبناني.