تؤرّخ الروائيّة الفلسطينيّة ليلى الأطرش في روايتها «رغبات ذاك الخريف»، (الدار العربيّة للعلوم - ناشرون 2011»، لسيَر عدد من اللاجئين الفلسطينيّين، الذين سكنوا الأردن، على أمل الرجوع إلى أرضهم وبيوتهم التي نزحوا عنها إبّان النكبة. تقدّم عيّنات من شرائح اجتماعيّة مختلفة، يجمعهم النزوح واللجوء، برغم ما كان يفرّقهم من تمايزات اجتماعيّة قبل ذلك، تُبرِز التخبّط الذي أوقع الكثيرون أنفسهم في أتونه، تسرد بنوع من الإيلام والتقريع ما تسرّب إليهم من الاستعداء والاقتتال والانقسام والتفتّت والتشظّي، بحيث تراجعت القضيّة الرئيسة، حتّى كادت «تتميّع» وسط الصراعات والتجاذبات والخلافات والانتهازيّات، وفي معمعة الفوضى التي اجتاحت المخيّم وأهله. تبدأ بوصف حالة ما بعد الصدمة، لتختم بحالة صدمة مدوّية. بين تفجيرين تدور الدوائر، تتحرّك الشخصيّات، وترسم المصائر. تعود بالذاكرة إلى زمن النكبة، آن خروج الفلسطينيّ من أرضه، تصف ملابسات ذاك الخروج المؤسي، وما صاحبه من أحداث جِسام وجرائم ومؤامرات. تبرز التفاصيل الصغيرة وتكبر فتصير بحجم الاقتلاع. تقف مطوّلاً عند تفاصيل الخروج، وخصوصيّة كلّ عائلة، ثمّ تشتّت تلك العوائل وتوحّدها في مصير مشترك، ثمّ الاعتياش على آمال العودة، مع تجرّع آلام ومآسي الشتات المزمن الذي التصق بهم ووشمهم. تصوّر الكاتبة صراع الفلسطينيّ مع نفسه ومَن حوله من أجل البقاء، وكيفيّة اضطرار البعض لتقديم تنازلات في سبيل تحقيق مكاسب آنيّة ضيّقة. تبدأ أحداث الرواية زمنيّاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، تقدّم المشاريع والمخطّطات الشخصيّة في سياق المشاريع الكبرى التي كانت تخطّط للمنطقة والعالم، تُجري في ما بينها تداخلاً وارتباطاً روائيّاً موظّفاً، إذ يكون غيث بصدد السفر إلى أميركا في بعثة دراسيّة، كما تكون التحضيرات لاحتلال العراق قائمة على قدم وساق، حيث الصراع محتدم إعلاميّاً بين نظام صدّام والأطراف الأخرى، المفتّشون الدوليّون يزورون العراق، الفضائح تتوالى، وساعة الانفجار تتسارع وتقترب. شخصيّات حائرة في عالم الرواية ومتاهات الواقع. غيث الصيدلانيّ الذي يقصد أميركا لاستكمال دراساته العليا، ويتزوّج الطبيبة هبة قريبته، التي تنتظره هناك في أيَوا، لكنّه يترك الدراسة، لأنّه يجد نفسه رقماً صغيراً في فريق بحثيّ والاقتصاديّ بعيداً عن الدراسة، يستفيد من خبرة رفيق سفره موسى، الذي يعمل في باريس كوافيراً، ويعمل في ترميم البيوت القديمة، بعد أن تزوّج امرأة فرنسيّة لتأمين الإقامة والعمل، يكتسب من موسى المعرفة الدقيقة بتفاصيل عمليات الترميم، يدخل عالم التجارة والاقتصاد، يغرق فيه جانياً الأرباح والفوائد الكبيرة. يتفرّغ غيث للعمل في العقارات، يجني أرباحاً خياليّة بعد أن يكتشف أسرار المهنة، ولا يلتفت إلى معارضة زوجته وأهله. وهناك أحمد، الشاب الحالم بحياة أفضل، يعمل نادلاً في مقهى، يطوّر نفسه وخبراته في تعلّم اللغة الإنكليزيّة والكمبيوتر، يتعرّف إلى عالم جديد كلّ مرّة، يكتشف بؤسه مع كلّ اكتشاف، يقع في فخاخ عديدة، يعشق فتاة على النت، ثمّ تدفعه الظروف إلى أحضان الجماعات الأصوليّة، لكنّه ينتشل نفسه في اللحظة الأخيرة، ولا ينزلق في أيّة عمليّة تستهدف أحداً، برغم ما يدبّر له من تجيير على أيدي بعض مهندسي تلك العمليات. كذلك هناك زياد البستانيّ، الشاب اللبنانيّ الطموح، يقنع نوال بالبقاء معه في لبنان، لكنّه يهملها فترة، ما يتسبّب لها بأذى، ويجرح كبرياءها، فتعود إلى عمّان، وتمارس أنشطتها الاعتياديّة، تزجي فراغها بالتواصل في فضاء مفترض، منتحلة صفات وأسماء مختلفة. يتبعها البستاني بعد أشهر ليكون أحد الشهود على عمليات تفجير الفنادق. ويتواجد السوداني عثمان، الذي يعمل سائقاً، وكان أن قصد عمّان لأنّه يعاني الضعف والعقم، آملاً تأمين النقود لإجراء عملية زرع، عسى أن يحظى بطفل، وتعمل زوجته خديجة في صالون تجميل، تكتشف فيه تفاصيل المجتمع النسائيّ المخمليّ، وتسعى مع زوجها إلى جمع مبلغ يؤمّن لهما تكاليف عملية الزرع المفترضة. وهناك شخصيّات كثيرة، تكشف كلّ واحدة منها عن جوانب مختلفة، وعن أجواء وفضاءات ثريّة، كمحاسن الطيراوي ذات الحسب والنسب التي تعاني الأمرّين، تعاني الإهمال وسط تأجّج نيران الجسد ورغبات الأنوثة الطافحة الجموح المقموعة. ثمّ هناك رجاء الناضحة بالحياة والتفاؤل. تعرّج الأطرش على أبرز المحطّات والمواقف في تاريخ المنطقة والعالم، وتداعياتها وتأثيراتها على شخصيّات الرواية التي كانت الشاهدة على الكثير من المتغيّرات، وما صاحبها من أزمات وتضحيات. تستذكر لحظات يُراد لها التناسي والتجاهل، منها مثلاً: كالاقتتال في المخيّمات والتصفيات التي سادت في فترة من الفترات المحرجة، وحرب الخليج الأولى، الحرب الأهليّة اللبنانيّة، اغتيال الحريري، حادثة تفجير الفنادق في عمّان، والتي تختتم بها أحداث الرواية. علاوة على الكثير من الأحداث الأخرى التي ترد في السياق، والتي تكون مؤثّرة على صعيد محدّد أو موسّع. تُضفي الكاتبة على أحداث روايتها جوانب واقعيّة، وذلك حين توظّف حوادث كبرى في سياق الأحداث، تحبّك الخطوط والمحاور، فتتشابك وتتقاطع، بحيث تُبدي شخصيّاتها شواهد وشهداء المراحل والمنعطفات التي تمرّ بها. من ذلك مثلاً، توصيفها الدقيق لتفجيرات الفنادق الثلاثة في عمّان، والتي أودت بالكثير من الضحايا، ومن بينهم المخرج العالميّ مصطفى العقّاد، الذي يرد وصفه في تلك اللحظات، أنّه كان يدخّن غليونه ويتلقّى مكالمة هاتفيّة. تصف شخصيّاتها لحظة الصدمة والذهول، تصف الدقائق التي سبقت التفجير، ثمّ ما تلاها من تخمين وتخبّط وجنون. تستردّ تلك التفاصيل الأخيرة للواقعة الجسيمة، ويبدو تركيزها متعمّداً، ومفتعلاً قليلاً، وهي تركّز على شخصيّة العقّاد من قبل عدد من الشخصيّات في الوقت نفسه، وربّما يكون ذلك من قبيل التركيز على دور العقّاد المهمّ، وفداحة الخسارة التي مُني بها الفنّ باستشهاده. تطوّع الأطرش لغتها الروائيّة بما يتناسب مع تفكير شخصيّاتها، تطعّم السرد بكلمات كثيرة عامية، تقدّمها في السياق بسلاسة ودون إقحام، كأنّها بذلك تبحث عن لغة روائيّة وسطى، تتقاطع مع بعضٍ ممّا كان عبد الرحمن منيف يعتمده، ويشتغل عليه في عدد من أعماله، ولاسيّما تلك التي تناول فيها بيئات شعبيّة مماثلة، بخاصّة أنّ المكان كان عمّان التي كانت منطلق الرواية ومُختتمها. كما تختار لمعظم الفصول أسماء أمكنة ومدن: «عمّان، مخيّم الحسين، الكويت، بيروت، أيَوا، باريس...»، كما تختار لبعض الفصول أسماء شخصيّاتها: «رجاء، محاسن الطيراوي...»، ولأخرى عناوين شاعريّة: «صقيع الروح، جموح جسد، السراب...». تتماهى في ذلك مع العنوان الذي يشتمل على الجانب الرغبويّ الشاعريّ والزمنيّ معاً، بإحالة الرغبات إلى خريف بعيد، مع إبقاء المكان مفتوحاً، تحديد الزمان يصاحبه تبدّد الأمكنة، كأنّ ذلك يعكس تبدّد الشخصيّات وتشتّتها. تؤرشف ليلى الأطرش في «رغبات ذاك الخريف» لمآسي الفلسطينيّين في الشتات. الشتات الذي يبدأ منذ لحظة خروجهم من ديارهم، ويرتحل معهم ويتعاظم بمرور الأيّام، بحيث لا تفلح السنون في التخفيف من وطأته، كما لا يفلح اللاجئون بالتوطّن في مدن أخرى، يظلّ الاغتراب ميسمهم، يشِم أرواحهم بطابع لا يزايلهم، يسكنون أوطاناً لا تكون بديلاً عن وطنهم المسلوب، يسكنهم وطنهم الذي يظلّ هاجس العودة إليه يسلب ألبابهم وأرواحهم. المدن الموقّتة التي تحضن آمالهم وآلامهم، لا تكون بديلاً عن وطن يكبر في قلوبهم مع البعد، وبرغم مشاعر الانتماء إلى البقاع التي تضمّهم وتحنو عليهم، إلاّ أنّهم يظلّون معلّقين برغبات تظلّ متأجّجة بأحلام العودة. يختلف الخريف باختلاف المكان، تختلف الرغبات باختلاف الخريف، لكنّ ما يظلّ مشتركاً هو تلك الرغبة الجامحة المستعرة بالعودة إلى وطن مُشتهَى.