كلنا في الهم والآمال شرق. لكننا - معشر السودانيين، كنا نحسب أن محنتنا أعمق غوراً من الازمة اللبنانية، لذلك كنا نستغرب كيف يقدم اللبنانيون على الدخول في حرب أهلية في جنتهم الصغيرة التي يفوقها السودان حجماً ب250 ضعفاً. غير أن المحنة تبدو في نهاية المطاف واحدة. هي نفسها: أن تغيب الحرية. لن يكون هناك لبنان ولا السودان ولا جيبوتي! الحرب ليست سوى قمة جبل الجليد. فانعدام الثقة بين الفرقاء، والتخوين، والاستنصار بالآخر، أطنان تغوص بالجبل الى القاع. ولسنا في الهم والآمال وحدها شرق. يا لخيبتنا أيضاً. ربما كان الشعبان اللبناني والسوداني الأكثر إنغماساً في السياسة من بقية شعوب المنطقة. ومع هذا الوعي السياسي الشعبي الرفيع، فإن السودانيين واللبنانيين يرضون طائعين بتسليم مصائر البلاد وشأن إدارتها الى السياسيين. والساحة السياسية المفعمة بأحلام الديموقراطية وأوهامها تخرج - في كل مكان - سياسيين "آدميين"، وآخرين شذاذ آفاق لا يتورعون عن المتاجرة بمصير الأمة ومستقبل أجيالها، في سبيل مكاسب حزبية وشخصية ضيقة. بعد فترة تمتع بالديموقراطية وما تتيحه من إنفراج ومناخات مواتية لإلتئام شمل اللبنانيين، في أعقاب توقف الحرب الأهلية وإبرام معاهدة الطائف، بدأ اللبنانينون يشعرون أخيراً بهشاشة الديموقراطية. وبرزت من جديد المخاوف والأجواء التي تعيد الى الذاكرة الحية جروح الحرب وفظائعها وفداحة الثمن الذي يدفعه الشعب اللبناني بعد ان تضع أوزارها. أطلقت الأجهزة الأمنية قبضاتها على رغم أنف الحكومة المنتخبة، وانطلقت تعتقل المواطنين، وتفتعل أجواء كراهية مقيتة بين المسيحيين والمسلمين، وبين مختلف الطوائف والأحزاب، وتطلق إشاعات وتسريبات تثير إرتباكاً إقتصادياً يزيد الوضع المعيشي تدنياً وهلهلة. وبقيت الحكومة عاجزة حائرة، إذ كلما فغرت فاهاً من الدهشة والاستغراب، لوح لها القضاة والمدعون العامون بسيف العمالة، والإتصال بإسرائيل. ولن يعدم الوضع من يتصدى من السياسيين والأمنيين لتعزيز أجواء القمع والإعتقال والتخويف بالحديث عن "مؤامرة" و"مخطط" و"بلبلة تتزامن مع ضربة إسرائيلية". السودانيون ليس لديهم الصبر الحضاري الذي يتحلى به اللبنانيون. فقد نعموا بالديموقراطية ثلاث سنوات فحسب بعد نضال مستميت ضد نظام الرئيس السابق جعفر نميري الذي هيمن على البلاد 16 عاماً بحالها. ثلاث سنوات لم تكن تكفي السياسيين للقيام ب"مماحكاتهم" المعهودة، قبل أن تستقر الأوضاع وتلتفت الحكومة الى الإنتاج والإنجاز والبناء. ولم يطق العسكريون وزعماء الجبهة الإسلامية القومية صبراً أكثر من ثلاث سنوات. فقد نهضوا ذات ليلة استرخت خلالها أوصال السودانيين، بعد يوم قائظ، واسترخت معها قبضة الأجهزة الأمنية، وبمعونة بضع عشرات من الجنود استولى الفريق عمر البشير على السلطة في حزيران يونيو 1989. ومضت سفينة السافنا السودانية منذ ذلك اليوم في لجة المجهول. تتقاذفها أطماع القوى الإقليمية والدولية التي يزين كل منها للفرقاء أنه يريد أن يتوسط من أجل مصلحة السودانيين. لكن المحنة لها مشابه من وجوه عدة مهما كره خصوم الحقيقة. لبنان يعاني مشكلة سيادة منقوصة: مشكلة وجود أخ يدعي أنه الأكبر، والأقدر على حماية اللبنانيين من أنفسهم. ثمة عاصمة مجاورة للبنان لا بد من أن تمر عبر بواباتها أي قرارات مصيرية لبنانية. ولا بد من أن يحج إليها زعماء الأحزاب والطوائف لمباركة خطواتهم، وتسويق مواقفهم. وتصطف عبر تلك الهيمنة عواصم أخرى لها مصلحة في لبنان من خلال إحدى طوائفه. وكان وجود منظمة التحريرالفلسطينية في لبنان مصدر توتر آخر أسهم في غليان المرجل إلى حد التفجر. واندلعت عشرات الحروب الصغيرة، والحيل القذرة. وبلغ الأمر ذروته باشتعال الحرب الأهلية على الجبهات كافة. للسودان شقيقة تعتبر نفسها الكبرى، ولا تتساهل في الحفاظ على مصالحها لدى الشقيقة الصغرى. وبين البلدين إرث من التاريخ الذي تعتريه تناقضات ومآخذ ومثالب. علاقة فيها مزيج من الحب والكراهية. حب يصل الى درجة الوله والعشق والقصائد والتغني بوحدة الوادي الذي يضم البلدين. وكراهية تحدو ببعض الفئات السودانية المهمة الى التفكير في الانفصال عن شمال السودان ما دام أقرب الى دلتا الوادي منه الى عمقه الإفريقي الأسود. والإنسان اللبناني حين تتلبد الغيوم في سماء بلاده يتحول الى يائس، مستعد للذهاب حتى نهاية الشوط لتقسيم البلاد على رغم صغر مساحتها الى "كانتونات" و"جيوب". والسوداني ليس أحسن أو أسوأ حالاً. والمسألة التي تقعده لا تنحصر بمطالبة الجنوبيين بفصل ولاياتهم عن بقية أرجاء الوطن، فهناك غبن عنصري فاحش يجعل المطالب الجهوية المتطرفة قنبلة موقوتة في الغرب والشرق والشمال. أبناء الغرب والشرق يتهمون الشماليين بالهيمنة على الدولة المركزية وثرواتها منذ عهد الاستعمار البريطاني. وثمة ميز عنصري مقيت يمارس على كل مستويات التعامل بين السودانيين. وما يشاع عن المعاملة الدونية التي يلقاها الجنوبيون وأبناء الغرب من أبناء قبائل الشمال النيلية التي يكثر فيها الإنتساب الى الجزيرة العربية والى العباس بن عبدالمطلب والى أشراف العرب في الجزيرة والمغرب، حقيقة لا مراء فيها. وحين تتلبد غيوم السياسة وتكفهر أجواء الديمقراطية، في كل مكان، تتساوى المخاوف والهواجس والأحزان. في السودان "مشروع حضاري" يمضي بقوة دفع غير مرئية، وتديره منظمة غير معروفة بعد الإنشقاق الذي دمر المنظومة الأساسية التي أتت بالمشروع وهي الجبهة الإسلامية القومية. منظمة "شبح" تدير البلاد، وتطبق "المشروع الحضاري" من دون أن يكون للسودانيين حق حتى في إبداء موقف من سياسات المشروع واستحقاقاته وتبعاته. "شيخ" النظام وعرابه الدكتور حسن الترابي يقبع في حجز منزلي منذ شباط فبراير الماضي، وتكاد الناس تنساه من شدة الكبت الذي استخدمت به ضده القوانين نفسها التي ابتدعها ورعاها وشجعها وغض الطرف عن تجاوزاتها. وتتصدى المنظمة "الشبح" لوضع السياسات الأمنية، وتشديد القبضة الاستخبارية، وتخطيط الحملات الإعلامية والديبلوماسية القادرة على إرباك أقوى الدول، بما في ذلك البيت الأبيض والقاهرة، والتحكم بورقة النفط وتجييرها لمصلحة الحل العسكري ومواصلة "الجهاد". لم أرَ أكثر من المتطرفين قدرة على التباري بتعديد المبررات والمسوغات. وفي السودان لم تعد المسألة بحاجة الى مبررات، بل تحولت سياسات رسخت في صميم العلاقات الإجتماعية، وغدا تبنيها فرض عين ما دامت أجهزة الإعلام "تصدح" بشعاراتها صباح مساء، بل هي فتاوى من مرجعية النظام. تنبع من آيديولوجية "الشيخ" وتفسيره للإسلام والقرآن وتحليله لحركة التاريخ ومآلات الأمم والشعوب. يتصدرها العمل بفقه الضرورة "والتقيّة" وخفض الجناح. والضرورات التي تبيح المحظورات يمكن أن تشمل كل ضرورة، في الصغيرة والكبيرة. هذا الاستخدام الانتهازي للدين وتوظيفه من أجل الكسب السياسي والدنيوي هو جوهر التنافر بين السودانيين وأعضاء الجبهة الإسلامية القومية والمنظمة "الشبح" التي تحكم باسمها. في لبنان... الحضارة، الأرز، الجبل، البحر، الجامعات، الصحافة... أي تحامل على أي من الفصائل السياسية أو الطوائف يعتبر "ضرباً تحت الحزام". نداءات بالثأر. ومناشدات تدعو الى اللجم والتهدئة. تنطلق ديبلوماسية المكوك بين مقار الرؤساء الثلاثة وزعماء الطوائف. ولا بد من دمشق وإن طالت المشاورات والخلوات والتظاهرات. ولكن من قال إن جرح الحرب التي استغرقت معظم سني العقدين السابع والثامن اندمل؟ لا يزال المسيحيون على مخاوفهم. والمسلمون ضائعون بين إبداء الولاء لسورية والتمسك بمواقف مستقلة تفتقر الى السند الشعبي والمال السياسي والوزن "الميليشياتي" الضروري لفرض الكلمة والموقف بالقوة. والطوائف الأصغر تبحث عن تحالفات تقيها تقولات الكبار. وبالطريقة نفسها في السودان: يشتد التآمر، يتراشق القادة بالتصريحات والتسريبات. يكثر "الضرب تحت الحزام": مؤامرات صغرى، إعتقالات، سن تشريعات مقيدة. تضييق. لكن اللبنانيين يختلفون عن السودانيين في جوانب عدة، لعل أهمها أن اللبنانيين عرفوا الحرب وذاقوا مراراتها في عقر دورهم، وداخل طوائفهم وأحزابهم وجماعاتهم. كانت الحرب على الدوام تصل الى العاصمة بيروت. وتبدأ عمليات هجرة وتهجير اتضح بعد عقدين من القتال والتناحر أنها أثرت فعلياً في التركيبة الديموغرافية. السودانيون من جهتهم لم تدخل لغة الكلاشنيكوف والدانات عاصمتهم ذات المدن المترهلة الثلاث. ولم تنتقل الى حواضر ولاياتهم التي قد يبعد بعضها من المركز، أو عن القتال الدائر في الجنوب، مئات الكيلومترات. ولم يشعر كثيرون منهم بعذاباتها إلا بعد مجيء نظام "ثورة الإنقاذ الوطني" الذي رسخ شعارات "الجهاد" و"الدفاع الشعبي" و"التجييش الشعبي" و"الأمن الشعبي" و"الخدمة الوطنية الإلزامية". وانطلقت الحكومة تنتزع من الناس أبناءهم لتزج بهم وقوداً لمعركتها ضد أعدائها في الجنوب والشرق والغرب. لذلك بقي في نفوس كثير من السودانيين بصيص أمل في إمكان العودة الى سودان ما قبل الإنقلاب العسكري، مع تغليب النزعة الى الوحدة، والحفاظ على تماسك اللُّحمة الوطنية. وإذا كان اللبنانيون قد ذاقوا عذابات الحرب، وما زالوا يكتوون بنار تبعاتها، وتأمل غالبيتهم أن يطوي سلام اتفاق الطائف صفحة الماضي البغيض، عشماً في قطف ثمار السلام، فها هم يستفيقون بعد عقد من إبرام اتفاق الطائف على فاجعة أشد مرارة وغيظاً تكاد تقضي الى الابد على حلم العودة الى لبنان ما قبل الحرب الأهلية. حلم رجوع بيروت بيتاً كبيراً للثقافة العربية، ومنفى مفضلاً للسياسيين العرب المخضرمين الذين تلفظهم الأنظمة العسكرية في بلدانهم. إذ إن المنظمات التي وفرت للحرب وقودها، وتفننت في إدارتها وإنجاز فظائعها، أطلت برأسها بعد كمون لتعلن الكراهيات ذاتها، والنزعات الإنتقامية والإنعزالية والعدائية نفسها. الى درجة أن كثيرين أخذوا يستغلون المناخ الذي أتاحته الأحداث الأخيرة للتشكيك مجدداً في جدوى اتفاق الطائف، وطرح التصادم والقوة نهجاً لفرض حل. وبدا لكثيرين أن احتمالات الديكتاتورية العسكرية والمدنية باتت أقرب الى التحقق، وأن الازمة السياسية لا تنفصل عن جذورها الإقتصادية. المواطن اللبناني العادي - مثل نظيره السوداني - يتفرج حائراً على ما يحدث. يمكنه بوعيه السياسي المرتفع أن يغير التركيبة السياسية، من خلال إنتخابات حرة نزيهة. غير أن النزاهة غدت من صفات الماضي. وأضحى المال عصب القوة السياسية والإعلامية. وهو يكاد يدخل في غيبوبة من دوامة الأوهام التي يصنعها السياسيون ويسعون الى تسويقها لديه. لا يزال كثير من اللبنانيين يرون أن بلادهم تنعم بالسلام، لكن سيادتها منقوصة. وأن موقف التيار "القواتي" و"العوني" يقوم على حجج مقنعة وذرائع منطقية، ويصل مداه الأقصى بالحرب حتى ضد سورية. وهو موقف لا تنبغي الإستهانة به. لأن تجربة "التمرد" في السودان - وهي صفة يسخر منها العقيد جون قرنق - أثبت أن أي بندقية ناشزة في أدغال الجنوب السوداني يمكن أن تزعزع إستقرار الحكومة في الخرطوم، بل يمكن أن تتحول مقبرة لحكومات وأنظمة عدة في الشمال. مطلع التسعينات كان اللبنانيون مشغولين بإعمار ما دمرته الحرب. يتطلعون الى الفرص التي أتاحها سلام الطائف. بدأت عودة المهاجرين. وتحققت عودة المهجرين بعد طرد قوات الإحتلال الإسرائيلي. واضطرت الجماعات والقوى التي كانت تعتمد منطق القوة والحسم العسكري الى الإنحناء بوجه العاصفة، وقبول شروط اتفاق الطائف في مقابل اندماج سلمي في المجتمع المدني اللبناني. كان السودانيون يبدأون - آنذاك - مسيرة الغرق في يم الديكتاتورية العسكرية، والتسلط الآيديولوجي. كانت تتعمق كل يوم حزازاتهم العرقية، ونعراتهم العنصرية. وتفرقت بهم السبل، وتعلق كل فصيل منهم بأحلام الدعم الخارجي، وأوهام الوساطة الأجنبية. لم يسعفهم الوقت للتمعن في صيغة الوفاق اللبناني، لذلك راحوا يتلمسون تجارب أخرى مشابهة: لجنة الحقيقة في جنوب إفريقيا، التحول الديموقراطي السلمي في زامبيا وتنزانيا، السلام الذي فرضه المجتمع الدولي في يوغوسلافيا السابقة. وكان زعماؤهم حين يريدون إغلاق الباب بوجه المماحكات والتصلب في المواقف يلوحون بمحاذير "الصوملة" و "اللبننة". مسكين لبنان. ومسكين ألف مرة السودان. الاول تتنازعه المصالح السورية والمطامع الاسرائيلية. والثاني بين فكي "كماشة" مصرية - ليبية، وأريترية - أثيوبية، ويوغندية - كينية. وجاء تفجر النفط والغاز في أراضيه بكميات وفيرة ليضعه تحت رحمة القوى الدولية الكبرى الطامحة لتعميم هيمنتها على كل بلدان العالم. صحيح أن كلاً منهما غني بثروته التي لا تقدر بثمن، ولا تتأثر بتقلبات الزمن: الإنسان اللبناني والإنسان السوداني. عقول مقيمة ومهاجرة تصنع المعجزات، وتدير المرافق والصناعات. لكن ذلك الإنسان أضحى منهكاً ومضطرباً ومحزوناً، ليس بسبب الشد والجذب وحدهما، اللذين يمارسهما اللاعبون على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولكن لأنه أيضاً فقد الثقة بمواطنه، وكثر شعوره بالارتباك، وغدت رؤاه مشوشة مضطربة. لم يعد يعرف أين هي حقاً مصلحة البلد. - وبعدين يازول؟ - تنشوف يا زلمي!