قد تستولي على أحدنا روح المساجلة لدرجة تفقده القدرة على المعالجة الشاملة لموضوعه، ويصبح الهم ليس الاحاطة الموضوعية بالمسألة قيد النقاش، بل افحام الخصم، الموجود او المتخيّل. ويبدو هذا ما حصل للسيد ياسر الزعاترة في مقاله المنشور في صفحة "أفكار"، في 14/8/2001 الذي يناقش فيه المعضلة الديموقراطية التي يشكلها عرب عام 1948 لاسرائيل، والذي عنونه ب"وهم القنبلة الديموغرافية ولغة الترانسفير". وإذا وضعنا جانباً كون ان العنوان ذاته يحسم مسبقاً ونهائياً رؤية الكاتب لهذا البعد بوصفه إياه بالوهم، الا ان الحقيقة ان هذا البعد شكل هماً مقيماً لقادة الحركة الصهيونية قبل قيام الدولة، ولقادتها بعد قيامها. وهذا واضح جداً من الاستشهادات والاقتباسات التي أوردها السيد الزعاترة، فيما هو يحاول توظيفها لدعم وجهة نظره، مع انها يمكن، بل هي في الحقيقة تدعم وجهة النظر المضادة. ان القلق الدائم لدى "الدولة اليهودية" من البعد الديموغرافي يشير الى ان هذا البعد حقيقي وليس وهماً. والأرقام الاحصائية التي أوردها الكاتب صحيحة تماماً، ومع ذلك يمكن التعامل معها بصيغة تختلف عن الصيغة التي عاملها بها والنظر اليها من زاوية نظر مختلفة. لقد كان في ذهن قادة الحركة الصهيونية تصور عن مشروعهم يفضي الى قيام دولة يهودية نقية، من دون "شوائب" سكانية تعكر نقاء عرق الدولة. ووفق هذا التصور كانت التوجيهات التي اعطاها بن غوريون لقادة وحدات "الهاغاناه" بطرد السكان العرب الفلسطينيين من تلك الاجزاء من الأرض التي ستقام عليها الدولة اليهودية. ومن هذا المنطلق جاء قول بن غوريون، على ما أورده كاتب المقال: "اننا لا نريد تبديل مكان سكن الفلسطينيين لكننا نريد تهجيرهم". وعمق القلق يعبر عن عمق المشكلة القائمة فعلاً وليس عن عمق وهم متخيل .... وذلك يعني ان الأحرى بنا ان نعالجها على هذا الأساس ولا نستخف بها. ويصل استخفاف السيد الزعاترة بهذا البعد، وبالداعين الى اخذه في الاعتبار، الى حد انه لا يرى فائدة تذكر فهذا ما يستنتج موضوعياً من محاججته بغض النظر عن النيات من بقاء الاقلية الفلسطينية التي تشبثت بأرضها، وطورت نفسها ووصلت الى ما وصلت اليه الآن من قوة فاعلة في مجمل الصراع العربي الاسرائيلي. فالذهاب مع منطق السيد الزعاترة الى نهايته القصوى يوصلنا الى استنتاج وحيد وهو انه يستوي تماماً في النتيجة النهائية للصراع أَبَقي الفلسطينيون عام 1948 في أرضهم أم رحلوا ما دام انه يلغي، احصائياً، دورهم وما لهم من تأثير في الشكل الذي قد يحسم به الصراع. والحجج التي يسوقها لالغاء ما قد يكون لهذا البعد من دور، تتلخص بحجتين اساسيتين، اولهما ان "النظام الصهيوني لم يُبن ليدمر نفسه"، والثانية ان "الولاياتالمتحدة التي لا تزال تدفع كلفة المشروع الصهيوني لن تسمح له بالتفكك وستمنحه الموافقة على الترانسفير اذا ما أطلت المشكلة الديموقراطية برأسها في زمن ما، يفرض انه سيأخذ الإذن بذلك أيضاً". ولكن اذا عممنا هذا المنطق واعتبرنا ان ما تسمح أو لا تسمح به الولاياتالمتحدة، وما ترغب او لا ترغب اسرائيل فيه، هو الكلمة النهائية الفصل، فلماذا كل النضال الفلسطيني والعربي إذن؟ بيد ان الوقائع تشير الى ان التاريخ لا يسير وفق ما تأذن به الولاياتالمتحدة. فهل كان مسموحاً، من وجهة نظرها، انتصار الفيتناميين عليهم أو هل كان بإذنها وبموافقة اسرائيلية الهزيمة النكراء التي حلت في الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان أمام المقاومة؟ ان القول ان هذا تسمح به الولاياتالمتحدة وذاك لا تسمح به، متى اخذنا به في مجال محدد كمعيار، يغدو لزاماً علينا اجراؤه على المجالات كلها. وفي هذه الحال لا يبقى سوى ان نستلم مسبقاً جدولاً بالمسموح والممنوع أميركياً لنضبط حركتنا ومطالبنا ونضالنا وفقه! ربما، أو الأكيد، انه من الخطأ، لا بل من الخطيئة الركون الى العامل الديموغرافي بمعزل عن بقية مكونات وأسلحة الصراع. وكل من يبحث عن عنصر أوحد ليحسم الصراع سيصل الى حائط مسدود. فهذا صراع شامل تستخدم فيه كل الأسلحة. والعامل الديموغرافي الذي يؤرق العدو وهذا ما يجاهر به على الدوام لا بد من النظر اليه على هذا الأساس، اي على انه سلاح من اسلحة المعركة، وليس السلاح الوحيد او الحاسم، وعلينا معرفة استخدامه وتطويره والافادة القصوى منه. هذا فضلاً عن انه هو بالذات موضع صراع بيننا وبين العدو. لقد حاولت اسرائيل التغلب على المشكلة بعاملين: عامل سلبي وعامل ايجابي. وقد تمثل العامل السلبي بالتضييق على الفلسطينيين اقتصادياً مصادرة أراضٍ، وعدم توظيف، وتركيز البطالة في القطاع العربي، وحرمان التجمعات العربية من امتدادها من أراض ومساحات زراعية، وخفض نسبة التعليم، ومنع تعدد الزوجات... الخ من اجل الحد من الانجاب، والحد من تكاثرهم الطبيعي. اما العامل الايجابي فتمثل في استقدام الهجرة اليهودية من الخارج، ومساعدة العائلات اليهودية المنجبة والقطاع الحريدي ينجب اولاداً أكثر من العرب. وكلنا نذكر تصريح شامير المتبجح إبان الهجرة الكبرى الأخيرة التي حدثت عشية انهيار الاتحاد السوفياتي وغداته بأن اسرائيل "قد حسمت بهذه الهجرة وإلى الأبد المسألة الديموغرافية". فنحن قادرون، ويجب علينا تطوير المسألة الديموغرافية في الاتحاد المضاد. ونحن قادرون، ويجب علينا، اذا نظرنا الى الصراع نظرة شمولية، ان نضع برنامجاً يناوئ البرنامج الصهيوني. وأولى معالم هذا البرنامج توفير الدعم الاقتصادي لأهل فلسطين بما يوفر لهم زيادة المواليد وإمكان تنشئتهم تنشئة جيدة، ودعم معاهدهم التعليمية ومؤسساتهم الصناعية، وإثارة قضية أراضيهم المصادرة، والوقوف معهم لإبطال سياسة مصادرة الأراضي الزراعية وسياسة حرمانهم من رخص البناء وتضييق مساحات قراهم، وإقرار برنامج من الجامعة العربية أو من أية جهة اخرى لدعم العائلات الكثيرة الأولاد. وبهذا ننقل العامل الديموغرافي من حاله الى حال متقدمة، ونكسر النسبة الثابتة التي أوردها الكاتب. ومن الجهة الأخرى، فإن النضال داخل فلسطين، سواء نضال هذه الكتلة البشرية، عرب 1948، او نضال أهل الضفة والقطاع في الانتفاضة الحالية سيكون له تأثير حاسم لا يشكك فيه أحد في وتائر الهجرة اليهودية، الى فلسطين. بل هو يخلق ظاهرة الهجرة المعاكسة. فما بالنا لو دخلت اطراف عربية اخرى في هذا الصراع. فليس هناك مجنون يهاجر الى فلسطين حينما يكون الوضع مشتعلاً، والأمن مضطرباً، والوضع الاقتصادي متراجعاً. فالقادمون اليهود الى فلسطين يأتون وهم يحلمون بالرفاه الاقتصادي، والأمن الشخصي، والعيش الرغيد، ولا بأس كذلك ان استطاعوا استعباد شعب آخر مستسلم، ولكنهم لا يأتون حين يفهمون ان هذا الشعب يناضل وليس عبداً، وان حياتهم ستكون موضع مخاطرة. دمشق اسماعيل دبج