منذ بداية الانتفاضة في المناطق الفلسطينية يصر بعض أوساط الطائفة اليهودية في فرنسا على استحضار تعبير "العداء للسامية" ولصقه بأي رأي أو موقف لا يتطابق تماماً مع مواقف الحكومة الاسرائيلية وأفعالها. لكن اللجوء لهذه التهمة بات يتسم بنوع من الكاريكاتيرية من قبل هذه الأوساط، كونها تسعى لفرض رأي مبسط مفاده ان اسرائيل على حق في كل ما تقوله وتفعله وأن التباين معها هو معاداة لها. وفي ظل هذه الأجواء المتشنجة، أقحم السفير الاسرائيلي في فرنسا ايلي بارنافي المصنف بأنه يساري ومن دعاة السلام، نفسه في حملة على الاعلام الفرنسي عموماً، واستهدف صحيفة "لوموند" تحديداً، متهماً اياها ب"تزوير الوقائع" بهدف نزع الشرعية عن دولة اسرائيل، وبإدانة العنف الذي يلجأ اليه الاسرائيليون "دفاعاً عن النفس"، في حين أنها "تبدي تفهمها للعنف الفلسطيني" المبني، في رأيه، على ايديولوجيا مدمرة. ويأخذ بارنافي على الصحيفة في مقال وجهه اليها نشرها لوجهة نظر مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والاستراتيجية باسكال بونيفاس، الذي يعتبر ان أمن اسرائيل لا يتنافى مع حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وأن السلام الدائم غير ممكن إذا استمر التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، وأن ما يواجهه الفلسطينيون اليوم غير أخلاقي وغير شرعي ولا يخدم على المدى الطويل مصلحة الشعبين. ويحمل بارنافي من جهة أخرى على "لوموند" لموقفها من أسلوب الاغتيالات الذي تعتمده اسرائيل بحق الناشطين الفلسطينيين، وقولها انها "عمليات اعدام خارجة عن الاطار القضائي" وتتناقض مع القانون الدولي ومعاهدة جنيف حول حقوق المدنيين في زمن الحرب. ومعروف ان هذا الموقف ليس بدعة انفردت بها "لوموند"، بل هو الموقف الرسمي الذي لم تكف فرنسا عن ترديده عبر وزارة خارجيتها. وتمتد احتجاجات بارنافي لتشمل رسام الكاريكاتير في الصحيفة، سيرغي لتعبيره عن التفوق العسكري الاسرائيلي في مواجهة الفلسطينيين في رسم يظهر فيه جندي اسرائيلي عملاق يسحق أشخاصاً يبدون أمامه كالأقزام. ويتهم بارنافي، سيرغي بالفاشية، كما يتهم بونيفاس باللاسامية، ولا يتوانى عن السعي للظهور في موقع الضحية فيقول ان مجموع هذه المواقف يندرج في اطار الأجواء غير الصحية التي تعيشها فرنسا وتجعل من الجيد تحميل اسرائيل أخطاء العالم بأكمله. درجة الوقاحة والحدة التي اتسم بها مقال السفير الاسرائيلي استوجبت رداً من سيرغي الذي اختار الاستعاضة عن رسمه اليومي برسالة مفتوحة الى بارنافي، أكد فيها انه جرح من تهمة الفاشية التي وجهها اليه، خصوصاً وانه دأب منذ بداية عمله في "لوموند" على ادانة الفاشية بكافة اشكالها والحث على التسامح. وقال سيرغي ان الرسم يمكن أن يكون سلاحاً أو صرخة أو تنويراً، وأن كلامه هذا ليس ردة فعل على برنافي ولا كلمة أخيرة، لأن اي رد نهائي لا يمكن أن يشجع على الحوار. وبدوره رد بونيفاس معرباً عن رفضه للارهاب الفكري الذي يمارس حالياً ويجعل أي شخص ينتقد حكومة اسرائيل متهماً بالعداء للسامية. وتساءل ما الذي يجعل اسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي لا يمكن انتقادها، ولماذا ينبغي عدم التعبير عن أي موقف في ما يخص الشرق الأوسط، وهل هذا المنطق نفسه طبق في البلقان والشيشان والتيبت وافريقيا؟ وأكد انه على رغم كونه غير يهودي وغير عربي وغير مسلم وغير اختصاصي في شؤون المنطقة، فإنه يرى ان المبادئ الكونية لا يمكن أن تطبق بصورة انتقائية. وفي ضوء هذه الحصيلة، فإن بارنافي أبدى عبر ردة فعله تطرفاً وضيق أفق بعيدين عن أي مهارة أو ديبلوماسية يفترض توافرهما لدى شخص في موقعه، خصوصاً وأن رسالته تسببت في تهديدات شخصية وشتائم تلقاها بونيفاس من مجهولين. ورفضت وزارة الخارجية الفرنسية التعليق على ما إذا كان من حق بارنافي التعرض لمفكرين واعلاميين فرنسيين، وقالت انها معنية بالسهر على عدم تجاوز السفراء المعتمدين لديها صلاحياتهم. ويثير السفير الاسرائيلي بحملته على سيرغي وبونيفاس مسألة ما إذا كان التحريض وتأجيج مشاعر الاضطهاد لدى يهود فرنسا، هما من صلاحياته.