مع اقتراب فصل الشتاء في افغانستان، ودنو موعد بداية شهر رمضان المبارك 16 تشرين الثاني/ نوفمبر بدأت الادارة الاميركية تتحدث عن الاستعدادات النهائية لتوقيت اعلان المعركة. اضافة الى هذين المعطيين الشتاء ورمضان فإن تأخير العملية العسكرية انعكس بشكل سلبي على الوضع الامني في باكستان، وعلى نفوذ الرئيس برويز مشرف داخل قيادة الجيش. والسبب ان ضباط الاستخبارات يعارضون بشدة تغيير النظام الذي ثبتوه في افغانستان، ويتخوفون من اتساع الحملة التي يشنها زعماء القبائل والاحزاب ضد التسهيلات المقدمة للقوات الاميركية على الارض الباكستانية. ويشاطرهم هذه المخاوف الرئيس نفسه الذي يخشى مصيراً شبيهاً بمصير أنور السادات، خصوصاً بعدما اتسع حجم تظاهرات الاستنكار، وازداد بيع الاسلحة المحفوظة في المخازن منذ الانسحاب السوفياتي من افغانستان عام 1989. وتعاظم قلق مشرف بعدما بلغه ان هناك اكثر من اربعة ملايين طالب اصولي اندفعوا في شوارع كراتشي واسلام آباد ولاهور وبيشاور، وان بينهم اكثر من اسلامبولي واحد يطالب باغتيال اصدقاء الكفّار الاميركيين. ويبدو ان اللاجئين الافغان استغلوا اعلان الحرب الذي اصدره هذا الاسبوع اسامة بن لادن والملا محمد عمر لكي يعلنوا تضامنهم مع معارضي موقف الحكومة. وهو موقف متردد يتأرجح بين التجاوب مع رغبة الاميركيين في استخدام مطارات وقواعد باكستان منطلقاً للعمليات ضد "طالبان"، وبين رغبة الغالبية الشعبية المؤيدة لدعوة الجهاد المقدس ضد التحالف الدولي، اي الدعوة التي اطلقها ابن لادن عبر قناة "الجزيرة"، وحضّ فيها الباكستانيين على محاربة الحملة الصليبية، تماماً كما قاوموا في السابق احتلال الملحدين السوفيات. وهو بهذه الوسيلة الاعلامية الذكية تخطى اتهامات العمل الارهابي، وحصر المعركة بالمواجهة بين الصليبيين الطغاة وحلفائهم اليهود... وبين المسلمين الذين يقاتلون تحت قيادة الملا محمد عمر. وكان بهذه الخطوة التكتيكية المفاجئة يريد تحويل مجرى الصدام من حرب ضد الارهاب كما تدعو واشنطن الى حرب ضد الاسلام، كما يشير البيان المشترك الذي وقّعه مع الملا عمر. وهكذا بدّل في طبيعة النزاع مُذكّراً بأن ردود فعل اليائسين تعبّر عن سلسلة طويلة من الاحزان والهزائم تكدّست منذ احراق بغداد على ايدي المغول عام 1258. ومع ان سجله النضالي يخلو من اي حادث مؤذ للاسرائيليين، الا انه استغل الحملة ضده لينبّه الى القهر الذي عاناه المسلمون في فلسطين وكشمير والعراق والجزائر. ومن المؤكد ان تغيير اتجاه المعركة على النحو الذي رسمه ابن لادن اضعف موقف الرئيس الباكستاني، خصوصاً بعد فشل اول اجتماع يعقده مسؤول بريطاني في طهران منذ العام 1979. وكان مشرف يتوقع مساندة علنية من خاتمي تعينه على كسر عزلته السياسية، وتساعد دول الاتحاد على استخدام اجواء ايران الممتدة فوق حدود افغانستان مسافة 900 كلم. وهذا ما كان يطمح الى تحقيقه وزير الخارجية جاك سترو الذي ارسله طوني بلير في مهمة خاصة تتعلق بالتعاون العسكري مع الولاياتالمتحدة. وواضح ان الوزير الاميركي كولن باول، المسؤول عن تنظيم دول التحالف، قرأ خطأ تعليق الرئيس خاتمي عندما أيّد مكافحة الارهاب واستنكر قتل الابرياء. ولقد اعتبر باول ان كلام خاتمي يعكس وجهة نظر النظام بمختلف فئاته. ولكن سرعان ما تبين له ان خاتمي كان يوظف اعتراضه على العمليات الانتحارية لفتح صفحة جديدة مع الولاياتالمتحدة، ولإرضاء قاعدته الشعبية المؤيدة لمثل هذه الخطوة. وفجأة تنبّه مرشد النظام علي خامنئي الى مخاطر الانعطافة السياسية التي دشّنها رئيس الجمهورية، والى نتائجها السلبية على مستقبل الثورة وتيارها المتشدد. لذلك رفض الاقتراح البريطاني، معرباً عن استعداد بلاده للدخول في التحالف شرط ان يكون تحت مظلة الاممالمتحدة لا تحت مظلة "الشيطان الاكبر". وتحدث امام الوزير سترو عن مخاوفه من افتعال مجزرة ضد الشعب الافغاني تكون لها مضاعفات انسانية على صعيد اللاجئين الذين استقبلت ايران اعداداً ضخمة منهم تعدت مليوني نسمة. ويرى الديبلوماسيون في طهران ان الحكومة الايرانية تخشى تكرار مسرحية حرب الخليج، اي خلق ذرائع للتواجد العسكري الاميركي يؤمن التحكم بخطوط انابيب النفط في منطقة غنية جداً بالغاز والزيت. تعزو ادارة بوش تأخر الضربة العسكرية الى اسباب كثيرة بينها العمل على توسيع اطار دول التحالف بعد الحصول على ادلة دامغة تؤكد تورط ابن لادن، حسب المفهوم القانوني. ولقد نبّهت الصحف الاميركية من خطورة تكرار اخطاء وقعت فيها ادارة كلينتون عندما اعتمدت على خريطة سياحية لضرب مصانع حربية في الخرطوم وبلغراد. ثم تبين ان الصواريخ والطائرات اصابت مصنع ادوية في السودان ودمّرت السفارة الصينية في بلغراد. الثغرة الثانية التي تحدثت عنها صحيفة "لوس انجليس تايمز" تظهر مدى افتقار مكتب التحقيقات الفيديرالي الى معلومات داخلية وخارجية تتعلق بعناصر ارهابية تعمل في الخفاء. وكتبت تقول ان اميركا تملك شبكة تنصّت هائلة وأقماراً اصطناعية قادرة على تصوير كل سيارة على الارض، ولكنها تحتاج الى معلومات جديدة عن مواقع "طالبان" في افغانستان تتردد الاستخبارات الباكستانية في تأمينها. وفي جلسة عقدها مجلس الشيوخ لمراجعة القصور الذي صدر عن جهاز الرقابة الجوية، تبين ايضاً ان اجهزة الاستخبارات الاميركية تعتمد على التقاط المحادثات المسجلة، وصور الاقمار الاصطناعية، اي انها تفتقر الى معلومات المخبرين الذين ميّزوا نشاط اجهزة ال"كي جي بي" سابقاً. ويدعي رئيس مكتب التحقيقات الفيديرالي ان القانون الاميركي يحظر التعدي على الحريات المدنية، كما يمنع مراقبة الاشخاص من دون موافقة قانونية. ولهذا طالب الرئيس جورج بوش بضرورة وضع تشريع يفوّض حق المراقبة. ويتخوّف بعض الشيوخ من توسيع صلاحيات رجال الامن، الامر الذي يحيي اجواء الاتهامات العشوائية التي أطلقها السناتور ماكارثي في الخمسينات ضد الشيوعيين والمتعاطفين معهم. يقول وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد "ان الحرب المقبلة ستكون مختلفة عن حرب تحرير الكويت 1991، بل عن كل النزاعات الاخرى التي تورطت فيها قواتنا". والسبب ان العدو لا يزال غامضاً، وان طبيعة الارض قهرت كل المحتلين السابقين. وبسبب هذه العوائق قدمت رئاسة الاركان اربعة خيارات للرئيس جورج بوش حول اساليب القتال المقترحة: الاسلوب الاول يشدّد على استخدام السلاح الجوي على طريقة كوسوفو، ولقد نقلت حاملات الطائرات الى القواعد القريبة اكثر من اربعمئة طائرة من طراز "اف-15" و"اف-16"، اضافة الى رتل من قاذفات القنابل من طراز "ب-2" و"ب-52". ولكن القتال بهذه الوسيلة لا يضمن تحقيق الهدف على اعتبار ان القصف الجوي يمكن ان يدمّر ثكنات التدريب ويحرق مخازن الاسلحة لمقاتلي "طالبان"، ولكنه يعجز عن قتل اسامة بن لادن وجماعته في تنظيم "القاعدة". ويقدّر الباكستانيون ان انصار ابن لادن يخبئون خمسة آلاف صاروخ من نوع "ستينغر" في كهوف صخرية عصية المنال. أما الخيار الثاني فيقترح توسيع اطار الحملة العسكرية بحيث يشمل العراق اذا ثبت انه متورط في عمليتي واشنطنونيويورك. ويبدو ان الرئيس بوش استبعد هذا الخيار خوفاً من ردود فعل بعض الدول الاسلامية. ولكن الخيار الثالث سيكون محفوفاً بمخاطر كثيرة. وهو يعتمد على تحالف المعارضة الشمالية الافغانية بعد تشكيل حكومة في المنفى برئاسة الملك المخلوع ظاهر شاه. ولقد باشرت قوات عبدالرشيد دوستم تقدمها هذا الاسبوع باتجاه "مزار الشريف"، متوقعة إحداث اختراق واسع اذا ما أمّنت لها الطائرات الاميركية قصفاً مركّزاً على قوات "طالبان" المعترضة. ويتلخص الخيار الرابع بالاعتماد على هجمات فرق الكوماندوس المعروفة بوحدة اصحاب "القبعات الخضر" وعدد افرادها خمسة آلاف. اضافة الى مشاركة "فرقة الحراسة" و"فرقة البحرية" المقدّرة اعدادهما بألفين واربعمئة مقاتل. وربما تستخدم هذه الوحدات في المرحلة الاخيرة، اي مرحلة اختطاف ابن لادن وانصاره اذا تم الاستيلاء على الارض. ويُستنتج من تعدد الخيارات ان الادارة الاميركية ليست واثقة من ربح معركة لا تعرف اين هو العدو الحقيقي، ومن هو العدو المجهول الذي يناصره مع "طالبان". ولقد حذّر استاذ التاريخ المعاصر في جامعة اوكسفورد السير مايكل هوارد من مخاطر سقوط الولاياتالمتحدة في الشرك الذي نصبه لها ابن لادن بحيث تنفّذ له غاياته السياسية. واختصر هوارد غايات "الارهابي" بثلاث: اولاً - نشر الاشاعات والدعاوة للعمل الارهابي ذاته بحيث يظهر الفاعل امام الرأي العام كقوة مصمّمة على تنفيذ اهدافها من دون رحمة او شفقة. ثانياً - اضعاف معنويات الحكومة المستهدفة ودفعها الى حال الإحباط والخوف الدائمين. ثالثاً - تحريض الدولة على ارتكاب حماقات وممارسة ضغوط تعسفية تقوي التأييد لسياسة الجماعات الارهابية المُتهمة. وهذا ما يُسمى باستراتيجية الاستفزاز والإغاظة، وهي استراتيجية قديمة بدأت في روسيا القيصرية عام 1870 ثم تطورت مع القضية الارمنية اثناء الامبراطورية العثمانية. وبما ان "الارهاب" يبقى سلاح الضعيف، فإن هذا الاسلوب نما واضطرد خلال القرن العشرين على نحو غير مسبوق في التاريخ. وربما يكون اسامة بن لادن احد اهم افرازات الحرب الباردة وما نتج عن انهيار الاتحاد السوفياتي من استغلال للعولمة ولإرادة القطب الواحد، ولقد درّبته الاستخبارات الاميركية وتبنّت جماعته عندما كانت بحاجة الى طرد المحتل السوفياتي من افغانستان. ثم دعمت حكم "طالبان" على رغم معرفتها بخلفية هذا الفريق القادم من مدارس التزمّت والتعصّب وكل ما يعزّز فرص القضاء على قيم الحرية والمساواة وحقوق المرأة والليبرالية المعاصرة. وهي الآن مدعوة للقضاء على هذا التيار الاصولي بعدما وصلت يده الطويلة الى البنتاغون وبرجي نيويورك. ولكنها اصطدمت بمعارضة قوية من قبل مصر وفرنسا والمانيا ومعظم الدول التي انتقدت الاداء الاميركي السيئ والهيمنة المتواصلة على ثروات العالم. ونصح بعض الحكّام الادارة الاميركية بضرورة تغيير صورة الاميركي البشع الذي يدعم الانظمة الفاسدة، ويشكّل تحالفاً دولياً مهمته القاء القنابل على كل ملتح يرتدي السروال ويعيش فوق ارض افغانستان. في اول ردّ فعل على العمليات الارهابية، اعلن الرئيس جورج بوش انه سيضرب مواقع ستين منظمة مُصنّفة ارهابية، وذلك عن طريق ملاحقة اوكارها ومقاطعة حُماتها. ثم تبين له بعد اسبوع ان هذه المهمة ستكون مستحيلة استحالة تجفيف المحيطات بهدف صيد الاسماك. وبعد مرور اسبوع آخر ازدادت اصوات الاميركيين المطالبين بضرورة اكتشاف دوافع الكراهية للولايات المتحدة، وما اذا كان انحيازها الاعمى لاسرائيل قد أثمر هذا الغضب العارم ضدها. أجاب المعلّق البريطاني اندرو ستيفن على هذا السؤال المحيّر بالقول ان قتل ابن لادن وانصاره لن يكون كافياً لانتزاع روح الكراهية ضد الولاياتالمتحدة. ودعا الى استخدام نظام عالمي لا يتعارض مع القيم الانسانية، ولا يجبر الشعوب على التخلي عن ثقافاتها وتراثها مقابل ثقافة الهامبرغر والكوكاكولا والبلوجينز. وقد يكون في هذا التحدي الضمان الوحيد لتجفيف مياه محيطات الارهاب ضد الولاياتالمتحدة، من دون ان تضطر الى خوض حرب عالمية ثالثة قد يربحها ابن لادن ولو نجحت في القضاء عليه! * كاتب وصحافي لبناني.