حين عدت الى الرياض في أواسط الثمانينات الميلادية منهياً بعثتي في الولاياتالمتحدة للتخصص في آداب اللغة الانكليزية تعرفت الى اثنين من الأساتذة المصريين يقومان بالتدريس في جامعة الملك سعود، التي كنت عائداً للتدريس فيها أيضاً. ولم يطل بي الوقت حتى تبينت ان الاثنين اللذين كانا ينتميان الى قسمين أو تخصصين مختلفين أكاديمياً، اللغة العربية واللغة الانكليزية، هما في الوقت نفسه من أعلام الدراسات المتعلقة باليهود والصهيونية في الوطن العربي. أشير الى: الدكتور حسن ظاظا رحمه الله، والدكتور عبدالوهاب المسيري متعه الله بالصحة. الكتب التي تفضل الدكتور ظاظا بإهدائي إياها في حينه وضعتني بسرعة أمام مرجع كبير في الدراسات العبرية التي تعد فرعاً مما يعرف في الغرب بالدراسات السامية التي تنحو عادة منحى لغوياً أو فيلولوجياً. وكان الدكتور ظاظا، إضافة الى تخصصه في العبرية، من أكفأ الباحثين في فقه اللغة العربية أيضاً. غير أن تعرفي الى المسيري كان الحدث الأهم بالنسبة اليّ، ولعل زمالتنا في قسم واحد يدرس آداب اللغة الانكليزية كانت العامل الحاسم في ما حدث من تقارب. لكنني لم ألبث حتى اكتشفت ان شخصية المسيري، بما فيها من قوة وتأثير كاريزمي، كانت بكل تأكيد العامل الأكثر حسماً في تطوير بعض اهتماماتي الفكرية والبحثية. فأمام ذلك الرجل اتضح لي انني لا أجلس إزاء متخصص آخر في الرواية أو الشعر أو المسرح الانكليزي، كما هو شأن معظم المتخصصين في ذلك المجال، وإنما إزاء مفكر غير عادي يتجاوز في حدوده أطر الأدب عموماً. ومع أنني سرعان ما تعلمت من المسيري ما غيّر بوصلة تفكيري تغييراً حاداً، لا سيما في ما يتصل برؤية العالم، فإن الطريف، كما يبدو لي الآن، هو انني لم أتلقف منه في ذلك الحين شيئاً من اهتمامه باليهود على قربهم مني كقارئ للأدب وللنقد الانكليزي. ومع معرفتي بأن الرجل ألّف أهم موسوعة مختصة باليهود والصهيونية في الوطن العربي، لأسباب منها أنها تتجاوز النموذج المعلوماتي المألوف في التأليف الموسوعي، فإن الكتب التي شددت اليها من تأليفه أو ترجمته لم تكن متصلة باليهود مباشرة، وإنما بالحضارة الغربية في شكل عام، ومن زاوية لم آلف النظر منها الى تلك الحضارة. لم يشتد اهتمامي باليهود الا منذ عامين تقريباً، وحين تنامى فإن نموه جاء من الزاوية الحضارية التي وجدتها لدى المسيري. غير انني سرعان ما سعيت، مدفوعاً ربما بضغط ما يسميه الناقد الاميركي اليهودي هارولد بلوم "قلق التأثير"، الى البحث في ما لم يتناوله المسيري بتفصيل كثير واكتفى منه بالتعريف والتحليل المختصر، كما في الطبعة الثانية الموسعة من موسوعته العظيمة. أسعدني جداً أن يكون لجامعة الملك سعود دور في دعم صدور الموسوعة، وان احزنني أن الدعم لم يغط التكاليف الباهظة لإعادة اصدارها. فقد تجاوز الحجم ما كان متوقعاً في البدء. الاهتمام باليهود كان الجانب الذي عدت اليه من دون أن أكون غريباً عنه أصلاً. ففي عدد من الأوراق التي نشرتها في أوائل التسعينات كان تأثير المسيري واضحاً في مجيء اليهود الى اعمالي من خلال مفهوم التحيز، ذلك المفهوم الأساسي في فكر المسيري الذي استنرت به في التعرف الى طبيعة العلاقة التي تربط اليهود بالحضارة الغربية ضمن تشكيلها الواسع. فحين توقفت امام مناهج النقد الغربي، في ورقة نشرت عام 1990 في الكويت، كان لليهود موقع مهم وإن لم يكن مكثفاً بين مجموع الاطروحات والشخصيات التي توقفت امامها كما في أعمال جاك ديريدا، الذي لفت نظري بدوره الى صلة اطروحاته التقويضية بأعمال استاذه الفيلسوف الفرنسي/ اليهودي إمانويل ليفيناس وبالأعمال الشعرية للفرنسي/ اليهودي ايضاً ادمون جابيه. والمعروف ان ديريدا وقع بعض مقالاته باسم "حاخام". العامان الماضيان شهدا سعياً مكثفاً من جانبي للمضي قدماً في دراسة ما أسميه "الحضور اليهودي في الثقافة المعاصرة" لأسباب منها وعيي المبكر بأهمية ذلك الحضور. فقد أتيح لي الاطلاع منذ سنوات على عدد من الدراسات الغربية التي تؤكد تلك الأهمية وضعف انتشار الوعي بها دراسة الناقد الانكليزي كريستوفر نورس لسبينوزا بصفته أصلاً مهماً من أصول النقد المعاصر، وبالتحديد "ما بعد البنيوية"، ودراسة للاميركية سوزان هاندلمان لمجموعة من المفكرين اليهود، مثل فرويد وديريدا وهارولد بلوم، من حيث توظيفهم الموروث العبري في تطوير نظرياتهم المختلفة. لكن، كان من بين تلك الأساب التي حركت اهتمامي، وفي شكل بارز، موقف عدد من المثقفين العرب من ذلك الحضور ، كما تبين لي في احدى الندوات التي ذكرت فيها أن سبينوزا مفكر يهودي فجوبهت بسيل من التعليقات رأت في ذلك تعصباً وتقييداً للفكر، في سياق إثني ثقافي يحول دون تحقيق المثاقفة الواعية المنفتحة التي يسعى التوجه الحداثي أو التنويري العربي الى تحقيقها، كما لو أن من الضروري إغفال "يهودية" سبينوزا التي ما زالت تتلقى سيلاً من الدراسات في مختلف اللغات الغربية، منها دراسات مهمة للفرنسي جيل دولوز. هذا الموقف العربي "التنويري"، كما بدا لي، دفع بي لاستعراض عدد من الأسماء البارزة في تاريخ الثقافة الغربية، وطرح ثلاثة أسئلة اساسية وصعبة في الوقت نفسه، هي: 1 ما المقصود باليهودية؟ 2 ما مدى انتماء أولئك المثقفين أو المفكرين الى اليهودية؟ 3 كيف أثر انتماؤهم في نتاجهم؟ فالمشكلة في مبحث كالذي أعرض له هي سهولة الركون الى ايديولوجية أو دوغمائية تعتمد على المسلمات في شتم اليهود وإبراز مساوئهم، أو في الاقتناع الجاهز ب"يهودية" ما عملوا، واليهودية في ذلك السياق لا تعني سوى "السوء". وهذا موقف لا يقل تأدلجاً، في تقديري، عن موقف الرافض لفكرة البحث في الانتماء اليهودي من موقع انفتاحي مع الآخر. الفرق هو في المنطلق ليس إلا. إن التحدي في مثل هذا البحث هو في عدم الاذعان السريع للقبليات في التفكير. فمع العلم إن التخلي الكامل عن تلك القبليات أو المفاهيم القبلية مستحيل معرفياً، فإن البديل هو الاستسلام لمعرفة هلامية تؤخر ولا تقدم، أو تضر من دون أن تنفع. المثقفون اليهود الذين أشير اليهم هم أول من يشير الى هوياتهم كيهود، وإن كانت الهوية اشكالية كبرى لهم. هم "يهود" بمعنى ما، ومنهم من توقف أمام هذه المسألة طويلاً، وبنى الكثير من اعماله على هذا الأساس. غير انني لن أتوقف عند مسألة الهوية مجردة، وانما هدفي هو الوقوف عليها ضمن عرض تحليلي بالقدر الذي يسمح به المقام، لبعض اعمال أولئك، وهم في المناسبة في طليعة المثقفين المعاصرين في البلاد التي ينتمون اليها، وأعمالهم بارزة كل البروز في الحقول التي عملوا ضمنها، غير انهم ممن تقل الاشارة اليهم في الادبيات العربية المعاصرة، على عكس آخرين مؤثرين ومشهورين جداً. فليس من أشير اليه بحجم شهرة أو تأثير سبينوزا، أو كارل ماركس، أو فرويد، أو هوسرل، أو ديريدا. وقوفي سيكون إذاً عند من هم أقل شهرة، وبالتأكيد أقل تأثيراً بكثير ممن ذكرت، لكن ذلك لا يعني هامشية في الحضور أو تواضعاً في الأهمية، والتعرف اليهم من الزاوية التي اخترت لن يقلل، كما أرجو، من فرص الافادة من منجزهم على المستوى المعرفي أو النقدي أو الابداعي الذي عرفوا به في سياق الثقافة الغربية فقليل منهم من نقلت أعماله الى العربية، بحسب علمي، لكنه قد يجعل تلك الافادة اكثر نقدية وتأشكلاً. إشارتي هي الى أربعة مفكرين ونقاد، هم: فالتر بنجامين، تيودور ادورنو، جورج شتاينر، فيليب روث، وألان فنكايلكروت. الأولان ألمانيان، والثالث والرابع اميركيان، والخامس فرنسي. انتقيت هؤلاء لأنهم مهمون في حقولهم، كما ذكرت، ولأنهم لفتوا نظري من زاوية الانتماء الفكري الثقافي الى سياق خاص، هو السياق اليهودي، ضمن السياق الأوروبي - الغربي الأشمل، وليس السياق الخاص مما تشيع المعرفة به، كما أظن. على أن مبرر الوقوف على السياق اليهودي ليس محصوراً في ضآلة الاهتمام به لدى الكثيرين، بل هو ينطلق مما هو أهم في تقديري. فدراسة الفكر من الزاوية المطروحة يعني دراسة للسياق الثقافي - الاجتماعي الذي ينتمي اليه ذلك الفكر، أي دراسته من زاوية ما يعرف بعلم اجتماع المعرفة أو علم اجتماع الثقافة، وهذا بحد ذاته هدف رئيس لما أقدمه من ملاحظات. فالعكس يعني ضرب سياج شكلاني تجريدي حول الفكر وعزله عن متغيرات السياق الثقافي - الاجتماعي. وفعل ذلك لا يكون دائماً مدفوعاً بالقناعة الفلسفية، وإنما بقناعة أو استراتيجية ايديولوجية - خطابية، كالتي تجعل بعض المثقفين العرب لا يحبذ التعرض للمفكرين او المثقفين اليهود من زاوية يهوديتهم. فأين تجد الاشارة الى يهودية ماركس في ما يكتبه عنه المثقفون العرب الماركسيون؟ أو من الذين يعجبون بالتحليل النفسي الفرويدي ثم يتوقفون عند مثل قول فرويد في رسالة لأحد أصدقائه عام 1918: "بالمناسبة، كيف تصادف ان لا أحد من المهتدين ابتدع التحليل النفسي وانه كان من الضروري الانتظار حتى يأتي يهودي ليبتدعه؟" يستشهد به الباحث الاسرائيلي يوسف حاييم ياروشالمي Yerushalmi في كتابه: Freud's Moses: Judaism Terminable and Interminable, New Haven &London: Yale UP, 1991, p.8 . هذه أمثلة أسوقها للتدليل على جدية الموضوع وليس لحسمه، فمسألة اتصال التحليل النفسي أو غيره بالسياق الثقافي والاجتماعي اليهودي مسألة خلافية، وبالنسبة الى التحليل النفسي تحديداً لا يزال محل جدال، لكنه محل جدال جاد بين عدد من المختصين في أوروبا والولاياتالمتحدة، والغالب هو القول بالارتباط. أما في الفضاء الثقافي العربي فلا أظن الموضوع برمته محل جدال جاد لدى كثير من المثقفين او المختصين العرب، وأرجو ان أكون مخطئاً هنا. غداً: فالتر بنجامين. * كاتب سعودي. استاذ في جامعة الملك سعود - الرياض.