نعرف أن العمليات الإرهابية الثلاث التي جرت في 11 ايلول سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، ادت الى استشراء موجة من الإثارة الإعلامية، جديدة، في العالم الغربي، وفي فرنسا خصوصاً. وزاد من حدة الأمر ان العمليات طاولت القوة العالمية الأولى، ملقية بها الى مقدمة الساحة، جاعلة منها، لمرة، الضحية الكبرى ل"حدث العام". ان وسائل الإعلام، إذ أرادت أن تضفي على الحدث طابعاً ممنهجاً، أعطته في الواقع ابعاداً أكثر عمقاً بكثير. وهكذا حدث ان أصبح اسامة بن لادن، المتهم الأول الذي يفترض انه هو من خطط للعمليات التفجيرية، في قلب الموجة الإعلامية. والحال ان ابن لادن يمثل "المتهم المثالي": فهو عربي، مسلم، مليونير، مقاوم، وذو كاريزما، إضافة الى كونه يستخدم الأساليب الأكثر حداثة، والمنظمات الأكثر مهارة، ضد الامبراطورية الأميركية التي كانت هي، أصلاً، من أنتجه. والأمر ليس جديداً. فالحال أن الجمهور الغربي سبق له ان التقى بابن لادن، لقاء عابراً، مرة أولى، خلال صيف العام 1998. لكن الرجل كان حينها مجرد اسم وأصل بطبعه، لم يكن له وجه. وهذا الوجه يُقدم مضاعفاً، في شكل مبالغ فيه اليوم، حيث نشاهد صورته في كل مكان. صحيح انه ليس حتى الآن، من الناحية القانونية، سوى المشتبه به رقم واحد، لكنه في الوعي الجمعي الشعبي، صار مذنباً. وهكذا بعد أسبوع من العمليات التفجيرية، صار وجهه مألوفاً، بل ان البرامج الترفيهية في التلفزة راحت تتجادل من حول "شكله" وأعلنت نساء أنهن يرينه "جميلاً"، والبعض منهن رأين ان مظهره لطيف، فيما رأته أخريات وآخرون "إرهابي السمات أكثر مما ينبغي". وفي هذه اللحظات نلاحظ كيف ان المنظمات والشبكات الإرهابية باتت كلها مجسدة في هذا الرجل، وهكذا تجدنا مرة اخرى امام نوع من شخصنة الإرهاب وسلطة الخطر. إذاً، على شاكلة ما حدث بالنسبة الى الرئيس العراقي صدام حسين قبل عشر سنوات، وخلال فترة من الوقت اقصر بكثير مما احتاجه هذا الأخير. ها هو ابن لادن وقد أضحى شخصاً مألوفاً لدى الغربيين، صار يشكل جزءاً من يومياتهم، محشوراً بين السيارة العائلية، وورقة الضمان الاجتماعي، والبراد... في كل تلك الأمكنة ثمة الآن ابن لادن ينزلق، وفي شكل تلقائي تقريباً. ووسائل الإعلام، في كل هذا، تلعب دورها الجديد، بأكمل مما ينبغي، فهي تزيد من حدة المخاوف وتنفخ في صور الحدث، الى درجة انها تجعل منه، في اكثر التحليلات سخاء، بيرل هاربور جديدة، وفي أسوأ الحالات، حدثاً لا سابق له في تاريخ البشرية. هنا علينا ان نلاحظ، ولحسن الحظ، ان المغالاة التي تبديها وسائل الإعلام، بدأت تجد من ينتقدها في اوساط الرأي العام، الذي، على رغم كل شيء، وإلى حد ما، ظل واعياً متبصراً في شكل نسبي. لكن هذا لم يمنع ان البرامج التلفزيونية الانتظامية ألغيت وراحت تحل محلها جلسات تحليلات وسجالات تتضاعف وتزدهر. وفي هذا الإطار يلاحظ ان وسائل الإعلام، في بعض حملاتها المغالية والتضليلية احياناً، التي تتعمد الإثارة الجماعية، تنحو الى التأثير الحاسم على الرأي العام، فإن لم يتجاوب لا تتوانى عن التنديد به. يقيناً هنا، انه من الصعب ترك الرأي العام يتلقى، ميدانياً "تلك الأحداث، في شكل هادئ، بارد، موضوعي وعقلاني". ولكن المبالغة المفرطة التي تمارسها وسائل الإعلام، انتهى بها الأمر الى الوصول الى حدود العبثية. ففي احد البرامج، حين سأل المذيع - المهتاج الى حد كبير والمتحدث بسرعة كما لو كان ينتظر هجوماً إرهابياً سيحدث من فوره في الاستوديو - حين سأل رجلاً عادياً عما إذا كان "خائفاً اليوم مما يمكن ان يحدث" وأجابه الرجل "لا..." في شكل قاطع ساد بين الحضور ولدى المذيع صمت مذهل، بدا وكأنه يتساءل: من أين اتى هذا الكائن الخرافي؟ إن درجة العبث الإعلامي تتترجم ايضاً، عبر بعد آخر، يبدو لنا اكثر خطراً. فالحال ان وسائل الإعلام هذه نفسها، تحب ان تلعب الآن لعبة "الإطفائي محب الحرائق"، عبر تهييجها للمشاعر الشعبية - في شكل يستدعي كل ضروب اللاعقلانية - ضد العرب والمسلمين أو كل من له لحية ولونه غامق، ثم بعد ذلك نراها تأتي لتمارس، بكل راحة ضمير، تلك المسؤولية التربوية التي كان يجدر بها، أصلاً، ألا تمارس سواها. وهكذا نجد هذه الوسائل الإعلامية، بعدما عمدت، ومهما كان الثمن، الى عرض صور للفرح الشعبي - بما حدث؟ - كما تجلى لدى بعض الفلسطينيين، وكررت عرض هذه المشاهد، راحت بعد ذلك تعيد، وفي شكل مبالغ فيه كيف أنه لا يجوز أبداً الخلط بين الإسلام والإرهاب". كما لو أن هذا لم يكن أصلاً من الأمور البديهية، وأن من الضروري إعادته ألف مرة للاقتناع به. إن ما يسفر عنه هذا كله، وما كان يمكن أصلاً توقعه، إنما هو خلق حال من الهذيان المعمم. ويبدو لنا واضحاً أن هذا انما هو ناتج من رغبة وسائل الإعلام التي، بدلاً من ان تسعى الى تبريد المناخ، وعقلنة ردود الفعل، تغذي نوعاً من الهيجان الجماعي، عبر إلهاب الأنفس، وعبر التوجه الى أسفل ما في غرائز الحقد والعنصرية. وعلى هذا النحو يتمركز السجال. والحدث الجلل - الذي لا نجد انه، في ذاته، بحاجة الى هذا - يعطي على الفور بعداً مفهومياً وينَظَّر له. ويحلو لوسائل الإعلام ان تحول ثرياً كرس حياته وثروته لقضية ما، لمهمة مرجعها مستنداته الإيديولوجية والفلسفية، الى رمز. وتروح معطية إياه مكانة مفهومية، مع انها تعرف انه، في الحقيقة، ليس اكثر من رجل يمارس الإرهاب، وأنه - في الوقت الحالي - ليس اكثر من "مشتبه رئيسي". ولكن اجهزة الإعلام تشعر انها مجبرة على وضعه في خانة المعادين للعولمة، بينما نجده، ونجد كادراته ومنظمته يستخدمون، وبكل فخر ومن دون مركبات نقص الأسلحة الأكثر حداثة وتعقيداً التي يمكن للعولمة ان توفرها وتمكن للحداثة ان تجود بها، من اجل الهجوم الإرهابي على الرموز الأميركية. ثم يجري الحديث عنه باعتباره المدافع عن الفقراء والمضطهدين، لكي يصار الى إنكار هذا على الفور بعد ذلك. في اختصار، ثمة سعي حديث لتوصيفه، لجعله بطلاً يجب التخلص منه. في شكل ما: البطل - المضاد في الأزمان الحديثة. وتكمن المشكلة في ان اجهزة الإعلام، مستندة الى العقول المفكرة والقيادية، تنحو الى رسم سيناريوات مختلقة لوضع هو، في الأصل، شديد الواقعية والخطورة، وضع كان يجدر به ان يفرض طرح المعضلات في عمقها، من دون الاستسلام امام حس الإثارة الذي يشكل اليوم مهد وسائل الإعلام والتضليل. ها هنا يلتقي الخيال بالواقع والعكس بالعكس. ذلك ان الحدث الذي شهدناه، يشبه اكثر ما يشبه سيناريو فيلم اميركي، لذلك كان من المنطقي ان تستجيب وسائل الإعلام له بطريقة لاعقلانية، تشبه في لاعقلانيتها لاعقلانية الفيلم الأميركي. وهكذا تجدنا داخل عالم التخيل. وعلى هذا النحو فقط يصبح في إمكاننا ان نفهم تلك الطريقة السخيفة التي بها استعار الرئيس الأميركي عبارة مقتنصة من أفلام رعاة البقر، ان من شأن هذه الاستعارة ان تثير الضحك، لكنها في الوقت نفسه قادرة على تغذية إدراك خاطئ وعاطفي للأمور. ما يجعل من الصعب إدراك ما يمكن حقاً أن تسفر عنه عملية إرهابية. الحال اننا نشهد هنا، مرة اخرى، تضخيماً للحدث، صقلاً له، وهيكلة تؤدي جميعها الى منع مشاهدة "الحقيقة وجاهياً، والبحث في المعضلات الحقيقية". إن رجل الشارع، في الغرب اليوم، موزع بين "الخوف، وخشية تكرار ما حدث، ورعبه ازاء صدمة الحضارات الشهيرة"، بين "شعور التعاطف مع الأميركيين" و"رغبته في عقلنة الأمور، مضفياً عليها سمات موضوعية بغية فهم السبب الذي جعل ما حدث يحدث". وفي ضوء هذا كله، تنطرح من جديد مواضيع قوة اميركا العظمى، المثيرة للغيظ، وغطرستها، غطرسة الغرب كله، والتفاوت بين الأثرياء والفقراء، بين المسيطرين والمسيطر عليهم، وعظمة الإسلام الغابرة... كل هذا يقدم معاً وفي كلٍ نتيجته حفر هوة جديدة بين الشعوب، وإعطاء مشروعية لنظرية "دور العرب في صدمة الحضارات" المعقدة. لن يكون من المغالاة طبعاً أن نرى ان هذا المنعطف الذي يتخذه رد الفعل على الأحداث، وهو ليس بالجديد على اي حال، إذ يستعار الآن من اجهزة الإعلام، ويستقبل من قبل المواطنين، يبدو لنا ضرورياً على الأرجح، كما انه - في الأحوال كافة - يبرهن على أمرين: فإما انه يكشف عن خوف غير معقلن، عن إدراك قوي بأنه، منذ 11 ايلول، لن يعود اي شيء كما كان في السابق، وأن المسألة ليست أصلاً ظرفية أو سياسية، بل انها متجذرة عميقاً في الإرادات، مهيكلة بقوة وتعلن - كما يؤكد البعض - ما لا يقل عن حتمية قيام الحرب العالمية الثالثة. وإما انه سينم عن ضجر شامل له ما يبرره. وفي الأحوال كافة يبدو اننا انما نشهد اليوم ما يمكننا ان نسميه ظهور عولمة الضجر. * جامعية لبنانية مقيمة في فرنسا.