كان الأصدقاء يتناقلون عن أحد معارفنا موقفاً يحسبونه معيباً. ويضحكون وهم يروون عنه أنه حين يعرّف عن نفسه لمن لا يعرفه يقول: "أنا زوج فلانة". وحين كنت أمتعض من تندّرهم، وأرى أن من الطعبيعي أن يعرف عن نفسه بهذه الطريقة لدى آخرين يعرفون زوجته أكثر مما يعرفونه. كانوا يصححون لي بأنه كان عليه أن يقول: "فلانة زوجتي". تذكرت ذلك وإحدى الكاتبات الشابات تحدثنا عن موقف طبق الأصل. ففي السنوات الأخيرة تجاوزت شهرتها شهرة زوجها وصار مألوفاً أن يتعرف عليها الناس بسهولة. تقول إن زوجها حين يواجهان موقفاً كهذا فإنه يقول: "هذه زوجتي". وبالطبع لا بد أنه يقول ذلك بروح المداعبة! لترد عليه "بالروح نفسها": "كان عليك أن تقول أنا زوجها!". وتذكرنا بالمناسبة النساء اللواتي تطغى شهرتهن على شهرة أزواجهن، وبخاصة حين يكونان أبناء مهنة واحدة، أو تخصص واحد. والأدهى حين لا يكون للزوج حظ من الشهرة أو التميز، أو أن يكون جندياً مجهولاً في تخصصه. وهؤلاء جميعاً لا بد أن يُعرَفوا نسبة إلى زوجاتهم في ما إذا اقتضت مناسبة ما التعريف بهم. وحدثتهم عن أسطع تعريف معلن لحالة كهذه، حين ترجم في بغداد أواخر الثمانينات كتاب من تأليف عالم أثري اسمه ماكس مالوان. وقد عُرّف الكاتب والكتاب كالآتي: "مذكرات مالون: عالم الآثار وزوج آغاثا كريستي"! وآغاثا كريستي نالت اسم شهرتها من زواج سابق، ولم تغيره بعد أن اشتهرت حتى أصبح اسمها ماركة مسجلة، ولم تكن لتغيره حتى لو تزوجت امبراطوراً! ويعرف البعض منّا كاتبة عربية غيرت اسم أسرتها ثلاث مرات خلال عقدين، على رغم أن اكتساب اسم عائلة الزوج ليس شائعاً لدينا. ويمكن للمرأة - وبخاصة المشهورة - تجاوز اغراء إلحاق اسمها باسم آخر غير اسم أسرة أبيها، بخاصة حين يوحي موقفها بتجاوز واقع "الإلحاق" المفروض على المرأة بصفتها كائناً غير مستقل بذاته. ندرك طبعاً أن عوامل الالحاق عديدة، وأن معظمها أشد وطأة، من مسألة فقدان أو اكتساب اسم أسرة جديد. ولكننا نفترض أن بإمكان المرأة "النهوض" بمهمة ليست أشد صعوبة من "أضعف الايمان". *** في العراق يتكنى الذكور بأبناء، حتى قبل انجابهم اياهم، وهناك جداول مطولة لأسماء لا بد لأصحابها من أن يصبحوا آباء لأبناء محددي الأسماء بدورهم. فالذكر الذي يحمل اسم "داود" لا بد أن يكنى "أبو سلمان" منذ يفاعته، وربما طفولته، وحتى ينجب ذكراً يسميه "سلمان"، ليتكنى هذا بابنٍ اسمه "داود"... وهكذا. حتى أن هناك مهناً ذات كنى. فالشرطي يكنّى "أبو اسماعيل"، والجندي "أبو خليل". والطريف ان الانكليزي يكنى "أبو ناجي" وذلك في معرض التعريف به كمستعمر للعراق تحديداً. حتى يكفي أن يعلّق المرء بلهجة موحية: "أبو ناجي!" ليدرك سامعه أنه يعني أن الأمر من تدبير الانكليز أو صنعهم... الخ. أما المرأة فلا تتكنى باسماء أبناء مفترضين، بل باسم ابنها البكر، فإذا لم تنجب، فإنها تدعى "أم غائب"، بينما يظل زوجها يكنى باسم الابن المفترض المحدد. فإذا لم تتزوج المرأة والحقت بأحد اخوتها الذكور فإنها تكنى باسم ابن اخيها، فتدعى "عمة فلان". فالمرأة كائن ملحق بآخر. وبالتحديد بذكر يرعى شؤونها ويتولى أمر مصيرها ويتحمل مسؤولية أفعالها. وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإنه لا يُنظر إليه إلا على أنه "كذاك"، مهما علا شأن المرأة ومهنا بلغت أهمية دورها وقيمتها الاعتبارية. حدثتني كاتبة معروفة أنها نشرت ذات مرة موضوعاً "حساساً" فاتصل بها شخص ذو علاقة بمحتوى الموضوع بقصد مناقشتها في ما جاء فيه. ولكنه لم يلبث أن سألها: "هل بإمكاني التحدث مع زوجك"؟! وأتذكر انني ذهبت ضمن وفد إلى الأراضي المحررة من اريتريا نهاية السبعينات، وكنّا أينما حططنا الرحال في محطة من محطات الطريق، يتساءل المقاتلون عني: ""زوجة مَن مِن هؤلاء؟". ومن أطرف ما قرأت بهذا الخصوص تجارب ستّ باحثات انثروبولوجيات عربيات جمعت في كتاب عنوانه "في وطني أبحث". لقد احتاجت الباحثات الست إلى الاحتماء بوضع أسريّ "سليم" يتقدمن من خلاله إلى مجتمع البحث. وأربع منهن كان الرجل ذو القوامة هو الخيار الذي لا بديل عنه. على رغم أنهن جميعاً حصلن على شهادات رفيعة من جامعات غربية وانتقلن إلى بيئات أصولهن من أجل البحث ولآجال تتعلق بما يحتاجه عملهن مما لا يتعدى الشهور. تقول ليلى أبو لغد إنها لا تظن أن أحداً من الانثروبولوجيين - غيرها - قد اصطحب والده إلى ميدان البحث لإجراء اتصالاته الأولية. ذلك أن والدها أصرّ على مرافقتها، لأنه يدرك أن سفر فتاة شابة غير متزوجة بمفردها في عمل غير واضح المعالم سيجعل من الصعب عليها اقناع الناس بأنها امرأة محترمة. ويضعها أبوها تحت حماية "الحاج"، وهو أحد الشخصيات الاجتماعية في محيط البحث. لتترتب عليها التزامات الابنة المطيعة في "أسرتها الجديدة"، التي لم يكن أفرادها يهتمون إلا بدفعها إلى التفكير بالزواج والانجاب قبل فوات الأوان. في الواقع أصبحت ليلى مسؤولة عن حماية سمعة أبيها بالتأكد الدائم من أنها لا تقوم بما يسيء إليه كمسؤول عن التحاقها الراهن بأسرة لها ضوابطها ومكانتها في بيئة بدوية. أما كاميليا فوزي الصلح فقد رافقها زوجها في البداية من أجل تأكيد حالتها العائلية كسيدة متزوجة. لكن سرعان ما اكتشفت أنها أصبحت مجرد "زوجة تجلس ساكنة تشرب الشاي" بينما الزوج يبذل ما في وسعه ليشرح للموظفين دوافع زوجته وأهدافها من البحث. وفي النهاية تصبح "زوجة الاستاذ اللبناني" ويصبح وجودها وعملها، خدمة طلبها من المسؤولين فقدموها له. أما في مجتمع البحث الفلاحي فكانت تتسلح من دون توقف بسيرة زوجها وأخباره وصورهما العائلية. وتقول سهير مرسي إن سكن زوجها معها في الأيام الأولى لعملها كان ذا قيمة خاصة في رسم أبعاد مكانتها الاجتماعية التي يقدر القرويون أهميتها. وحين لا يكون الزوج فإنها تتسلح بصوره وصور أبنائها ورسائلهم. وعلى رغم أن سعاد جوزف عملت في وسطها الاجتماعي ذاته، وفي مدينة بيروت، إلا أنها تصف وضعها كامرأة متزوجة تعيش بمفردها في حي فقر تسكنه عائلات في المقام الأول، بأنه محرج. وتصف مجيء زوجها للإقامة معها في ما بعد بأنه كان مصدر ارتياح لجيرانها. وهكذا...