رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    محترفات التنس عندنا في الرياض!    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    رقمنة الثقافة    الوطن    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    أجواء شتوية    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    الذاكرة.. وحاسة الشم    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    القبض على إثيوبي في ظهران الجنوب لتهريبه (13) كجم «حشيش»    نائب وزير العدل يبحث مع وزير العدل في مالطا سبل تعزيز التعاون    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    إرشاد مكاني بلغات في المسجد الحرام    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من النقل الى الابداع : تأثير الفكر العربي العلمي في تطور الغرب
نشر في الحياة يوم 02 - 09 - 2001

ليس جديداً القول ان العرب بعد ان استقر لهم الأمر في البلاد التي فتحوها، وانتظمت احوال دولتهم الواسعة، انكبوا على تحصيل العلم، بدافع ديني جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فأخذوا يبحثون عن العلوم التي كانت معروفة في العالم القديم، ويهتمون بجمعها بمختلف الطرق والوسائل، فحصلوا على كمية كبيرة من مؤلفات اليونان والسريان والفرس والهنود وغيرهم وترجموها الى لغتهم.
أقبل العرب على دراسة ما تُرجم من العلوم والفنون وأخذوا يرتبونها ويهذبونها، ويحذفون ما لا يستسيغه العقل ويتقبله، وصاروا يضيفون الشيء الكثير إليها من بحوثهم وتجاربهم، فانصهرت كل تلك العلوم في بوتقة عربية مشرقية اسلامية، وانتشرت في اطراف المعمورة.
بدأت بواكير الحركة العلمية تظهر في دنيا العرب عندما تبنى هذه الحركة الخلفاء والأمراء والحكام. وظهرت آثارها في مختلف صنوف العلوم والمعارف، فكان العصر الأموي بداية الشعاع الأول حين عني خالد بن يزيد بن معاوية في اخراج كتب القدامى في الكيمياء، فهو اول من ترجمت له كتب الطب والنجوم، التي كانت معروفة في مدرسة الاسكندرية وله رسالة في الكيمياء تُرجمت الى اللاتينية واعتمدت كإحدى الكتب التي تدرّس في الغرب في نهاية القرن الثالث عشر.
واستطاع العلماء العرب في العراق من استيعاب علوم العرب الأولين، وما وصل اليهم من حضارة سومر وبابل وآشور والاغريق، وطوروها وزادوا عليها. وابتكروا واكتشفوا نتائج جديدة لم يسبقهم إليها غيرهم، فكانت البداية الحقيقية للبحث العلمي في عصر أبي جعفر المنصور وعلى يديه، ثم استمرت الحركة وازدادت تباعاً تحت حكم خلفائه، فبلغت قمة ازدهارها في العصر العباسي الأول في الشرق. وفي الغرب الأندلس كان ابناء اوروبا يؤمّون مدارس العرب للاطلاع على العلوم والمعارف. فكانت الحضارة الأوروبية وليدة اتصال اهل الغرب بالعرب شرقاً وغرباً. وسنتناول بإيجاز طبيعة منجزات العرب في مختلف العلوم، وعلاقة ذلك بالنهضة الأوروبية والفكر الغربي.
كانت العلوم عند العرب علوماً اصيلة وعلوماً دخيلة، فالعلوم الأصيلة هي العلوم التي كانت معروفة عندهم قبل الاسلام، كعلوم اللغة والتاريخ والفراسة والتنجيم، اما العلوم الدخيلة فهي علوم لم تكن موجودة عندهم في الجاهلية، بل دخلت عليهم بعد الاسلام، وهي معظم العلوم العقلية. وهذه تنقسم الى اربعة اقسام: المنطق، والعلم الطبيعي، وعلوم الرياضيات والطبيعيات.
علم العدد
منذ الجاهلية وحتى العصر العباسي كان العرب يدوّنون الأعداد والكمّيات بالكلمات لا بالرموز، فيقال اربعمئة وأربعة دنانير مثلاً، وبعضهم كتب هذا العدد بالأحرف الهجائية فيكتب تد، التاء تساوي 400 والدال تساوي 4.
ترك العرب هذه الطريقة واستعاضوا عنها بنظام الترقيم بعد توحيد الأرقام وتهذيبها، واستخدموها في المسائل الحسابية جاعلين الصفر دالاً على الجزء الخالي في العدد وابتكروا الخانات. وهكذا باستخدام الارقام والصفر هان عليهم حل المسائل الحسابية وتدوين الكسور العادية والعشرية، وأمكن بناء المعادلات.
أخذ اهل الغرب الأرقام والصفر من العرب بعد ان انتشر استعمالها في الأندلس والمغرب العربي، ومنها انتقلت الى اوروبا وعرفت باسم الارقام العربية.
ومن اشهر علماء العرب في الحساب:
1- الكاشي وهو غياث الدين جمشيد واضع كتاب "مفتاح الحساب"، وفيه بحوث في العلوم الرياضية: في الارقام والأعداد والحساب والجبر والمساحة والمثلّثات والفلك والفيزياء.
2- الخوارزمي وهو ابو عبدالله محمد بن موسى الذي يرجع الفضل له في نقل الارقام واستعمالها، وكان كتابه في الحساب الأول من نوعه من حيث الترتيب والتبويب والمادة. ونقل الى اللاتينية، وظل مرجعاً للعلماء الحاسبين، كما بقي علم الحساب نفسه قروناً معروفاً باسم الغوريثمي عند الأوروبيين نسبة الى العالم العربي الخوارزمي.
وللعرب الفضل في وضع أسس صنع جداول اللوغاريثمات التي تستخدم الآن في تسهيل العمل في المسائل المتضمنة اعداداً كبيرة بأن تجعل عملية الجمع والطرح في هذه المسائل تقوم مقام عملية الضرب والقسمة.
علم الجبر
اشتغل الأقدمون بهذا العلم ولكنه لم يصبح علماً إلا بعد ان وضع العرب قواعده. فبالجبر يستخرج العدد المجهول من العدد المعلوم، والفضل في وضع قواعد هذا العلم يعود الى العالم الشهير محمد بن موسى الخوارزمي الذي عاش في القرن التاسع الميلادي. وهو واضع كتاب "الجبر والمقابلة"، ثم انتقل هذا العلم الى الغرب بلفظه العربي فصار يعرف ب"ألجبرا" بالانكليزية و"ألجبر" بالفرنسية.
ومن العلماء الذين اشتغلوا في علم الجبر: ابو الوفاء البوزجاني الذي شرح كتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي شرحين جديدين. وقام الشاعر والرياضي عمر الخيام بتصنيف المعادلات الجبرية بحسب درجاتها وبحسب عدد الجذور التي فيها، كما انه حل المعادلات من الدرجة الثالثة والرابعة بواسطة قطع المخروط، وهذا ارقى ما وصل اليه العرب في الجبر بل ارقى ما وصل اليه علماء الرياضيات في حل المعادلات حاضراً. ومن اشهر علماء الرياضيات بعد الخوارزمي قسطا بن لوقا وبهاء الدين العاملي وثابت بن قرة وابن الهيثم وغيرهم.
والعرب هم الذين استخدموا الهندسة لحل بعض المسائل الجبرية وبذلك وضعوا أسس الهندسة التحليلية، كما مهّدوا لعلم التكامل والتفاضل.
علم الهندسة
أقبل العرب على ترجمة كتاب "الأصول" لاقليدس، وهو أبسط ما وضع للمتعلمين في علم الهندسة، وأول ترجمة لهذا الكتاب كانت في زمن الخليفة المنصور. وزاد العرب على نظرياته، وألّفوا كتباً على نسقه، وأدخلوا تمارين جديدة.
وتنبّه نصير الدين الطوسي الى نقص كتاب اقليدس في المتوازيات، فحاول البرهنة عليها في كتابه "تحرير اصول اقليدس"، وكذلك في رسالته "الشافية".
قسم العرب الهندسة الى نوعين: عقلية وحسّية. فالحسّية معروفة المقادير وهي ما يُرى بالبصر ويُدرك باللمس، والعقلية ما يُعرب ويُفهم، وان النظر في الهندسة الحسّية يؤدي الى الحذف في العلوم كلها، وخصوصاً في المساحة. اما الهندسة العقلية فتؤدي الى معرفة جوهر النفس التي هي جذر العلوم وعنصر الحكمة.
وضع ابن الهيثم كتاباً في الهندسة جمع فيه الأصول الهندسية والعددية من كتاب اقليدس وأبولونيوس، ونوّع فيه الأصول وقسمها، وبرهن عليها ببراهين نظمها من الأمور التعليمية والمنطقية، وقد رتب في هذا الكتاب النظريات، وبرهن عليها ببراهين متتابعة. وقد أتى ابن الهيثم على مسائل أدّت الى استعمال الهندسة في مسائل البصريات والتي يحتاج حلها الى إلمام بالهندسة والجبر، وبراعة في استعمال نظرياتهما وقوانينهما، واستعمل ابن الهيثم الهندسة بنوعيها المستوية والمجسّمة في بحوث الضوء، وتعيين نقطة الانعكاس في المرايا الكروية والاسطوانية والمخروطية.
ووضع البيروني مؤلفات فيها نظريات هندسية وطرق البرهنة عليها، وهي طرق فيها ابتكار وعمق تختلف عما ألّفه فلاسفة ورياضيو اليونان، مثل رسالة استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، ووضع برهاناً جديداً لمساحة المثلث بدلالة اضلاعه، وهو غير البرهان الذي اتى به هيرون من رياضيي جامعة الاسكندرية. ويعترف العالم سميث في كتابه "تاريخ الرياضيات" بأن البيروني كان ألمع علماء عصره في الرياضيات، وهو من الذين بحثوا في تقسيم الزاوية الى ثلاثة اقسام متساوية، كما انه يعتبر واضع أصول الرسم على سطح الكرة.
ان اعظم افضال العرب على الهندسة القديمة انهم اهتموا بها وحفظوها من الضياع وناولوها للأوروبيين في زمن باكر جداً. فقد اخذ الأوروبيون الهندسة اليونانية من العرب ثم نقلوها الى اللاتينية، وظلوا يتدارسونها حتى عثروا على مخطط من كتاب اقليدس باليونانية في القرن السادس عشر 1583م.
علم المثلّثات
عُرف علم المثلّثات عند العرب بعلم "الأنساب" لأنه يقوم على الأوجه المختلفة الناشئة من النسبة بين اضلاع المثلث، ويعتبر هذا العلم علماً عربياً كما اعتبرت الهندسة علماً اغريقياً. وللبوزجاني ونصير الدين الطوني والبيروني وأبي جعفر الخازن الفضل في وضع قواعد هذا العلم، ولجابر بن افلج والتبريزي الفضل في معرفة القاعدة الاساسية لعمل الجداول الرياضية والمثلثات الكروية.
لم تقف جهود العرب عند دراسة المثلّثات المستوية بل تناولت المثلّثات الكروية لصلتها الوثيقة بعلم الفلك، واستعمل العرب الجيب بدلاً من وتر ضعف القوس الذي كان يستعمله علماء اليونان، ولهذا اهمية كبرى في تسهيل حلول الأعمال الرياضية. والعرب اول من أدخل المماس في عداد النسب المثلثية، كما انهم توصلوا الى اثبات: ان نسبة جيوب الاضلاع بعضها الى بعض كنسبة جيوب الزوايا الموترة بتلك الأضلاع بعضها الى بعض في اي مثلث كروي.
وتوصل العرب ايضاً الى معرفة القاعدة الاساسية لمساحة المثلّثات الكروية وعملوا الجداول الرياضية للجيب، والغربيون مدينون لهم بطريقة حساب الجيب دقيقة حيث تتفق النتائج فيها الى ثمانية ارقام عشرية مع القيمة الحقيقية لذلك الجيب.
وقد اطلع العلماء الغربيون، في القرن الحادي عشر للميلاد، على مآثر العرب في المثلثات ونقلوها الى لغتهم، ولعل اول من ادخلها وألّف فيها وفي غيرها من العلوم الرياضية العالِم ريجيو مونتانوس، وكان أهم ما ألّف "كتاب المثلّثات" معتمداً على كتب العرب ككتاب "شكل القطائع" لنصير الدين الطوسي. هذا ولا يخفى ما لعلم المثلّثات من اثر في الاختراعات والاكتشافات وفي تسهيل كثير من البحوث الطبيعية والهندسة الصناعية.
علم الفلك
كان سكان وادي الرافدين من اقدم الشعوب التي اهتمت برصد الكواكب والنجوم، فربطوا ايام الاسبوع بالكواكب الخمسة: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري وزحل. وفي زمن البابليين استقرت اسماء الأبراج الإثني عشر على ما نعرفه اليوم: برج الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الخ...
وخرج اليونان بهذا العلم من نطاق التخيل الى نطاق العلم الصحيح، ومن اهم علماء الفلك اليونانيين أرسطارخوس وأبرخس الذي حسب السنة الشمسية فكانت 365 يوماً و5 ساعات و55 دقيقة و12 ثانية. ومن أشهر العلماء في الفلك وأشدهم تأثيراً في الشرق والغرب العالِم بطليموس الذي نشأ في الاسكندرية. فكان عالماً في الرياضيات والفلك والجغرافيا والعلوم الطبيعية.
ولما كانت بعض الأمور الدينية تستلزم معرفة اوقات الصلاة التي تختلف بحسب المواقع والعرض الجغرافي وحركة الشمس في الأبراج، وأحوال الشفق، وهلال رمضان، أضف الى ذلك شغف الناس بالتنجيم، كل ذلك أدى الى الاهتمام بعلم الفلك، وحدى بالعرب والمسلمين الى دراسة اعمال الاغريق والكلدان والسريان والفرس والهنود، وترجمتها الى العربية، والقيام ببعض الأرصاد الفلكية.
وعندما ازداد اهتمام الخلفاء العباسيين بعلم الفلك، أمر المنصور أبا يحيى البطريق بنقل كتاب "الأربعة مقالات" لبطليموس في علم احكام النجوم الى العربية، كما نقلت كتب اخرى هندسية وطبيعية ارسل المنصور في طلبها من ملك الروم، وصححوا كثيراً من اغلاطها وأضافوا إليها. وفي زمن المهدي والرشيد اشتهر علماء كثيرون في الأرصاد أمثال: ما شاء الله الذي ألّف في الاسطرلاب ودوائره النحاسية، والعالم احمد بن محمد النهاوندي. اما في زمن المأمون فقد ألّف يحيى بن ابي منصور جدولاً فلكياً. وقد ظهر علماء كثيرون في علم الفلك كان لهم الفضل في تقدم علم الفلك مثل: ثابت بن قرة والمهاني والبلخي وحنين بن اسحق والعبادي والبستاني وغيرهم.
وبعد ان نقل علماء العرب المؤلفات الفلكية للأمم التي سبقتهم الى العربية لم يقفوا عند حد النظريات بل خرجوا الى العمليات والرصد، فقد وضع العرب ازياجاً وجداول فلكية كثيرة. فعلم الأزياج صناعة حسابية مبنية على قوانين رياضية في ما يخص كل كوكب من طريق حركته.
كما وضع العرب اسماء كثيرة من النجوم والكواكب، وان معظم المصطلحات الفلكية نقلها الغربيون من العرب، وقد اشتهرت ارصاد العرب بالدقة، واعتمد عليها علماء أوروبا في عصر النهضة وما بعده في بحوثهم الفلكية.
واعترف الغربيون ان العرب أتقنوا صناعة الآلات الفلكية التي من اشهرها "الاسطرلابات" وهي على انواع منها: التام والمسطح والهلالي والزورقي والعقربي والآسي والقوسي والجنوبي والشمالي والمتسطح وعصا الطوسي، وهناك الاسطرلاب الكروي الذي يقيس ارتفاع الكواكب عن الأفق وتعيين الزمن، كما يستعمل في حل كثير من المسائل الفلكية. ويقال ان محمد بن ابراهيم الغزاري، اول فلكي كبير في الاسلام، هو اول من صنع الاسطرلاب من العرب وأنه اول من ألّف فيه كتاباً سمّاه: "العمل بالاسطرلاب المسطح".
وبنى العرب مراصد فلكية عدة في مختلف الأماكن، منها مرصد في دمشق أمر المأمون في بنائه فوق جبل قاسيون، ومرصد آخر في الشماسية في بغداد، وأنشأت في مدة خلافته وبعد وفاته مراصد عدة منها: مرصد بني موسى في بغداد على طرف الجسر، ومرصد بناه شرف الدولة في بستان دار المملكة في بغداد.
علم الفيزياء
ثبت ان اكتشافات العرب في علم الفيزياء ليست اقل اهمية منها في علم الرياضيات وعلم الفلك، فكانت معارفهم في الفيزياء النظرية والعملية، لا سيما في البصريات والموازين وغيرها، على جانب عظيم من الدقة والاتقان مما يدل على مقدار فضلهم في هذا العلم. وهناك عدد كبير من علماء العرب مَنْ كتبوا في هذا الموضوع بعد اجراء التجارب العلمية الدقيقة، وتوصلوا الى نتائج باهرة في تحرياتهم وتجاربهم.
فمن العلماء الذين بحثوا في هذا العلم العالم الكبير محمد بن احمد ابو الريحان البيروني الذي ولد في خوارزم سنة 973م. وله مؤلفات كثيرة في الطب والرياضيات والفلك والتاريخ والظواهر الجوية والآلات العلمية يربو عددها على 120 كتاباً ورسالة، نقل القليل منها الى اللاتينية والانكليزية والفرنسية والألمانية، واعتمد عليها الغربيون في بحوثهم، كما اشتهر البيروني في الطبيعيات، لا سيما في علم الميكانيك والأيدروستاتيك، وقد لجأ في بحوثه الى التجربة وجعلها محور استنتاجاته. وورد في بعض مؤلفاته شروخ تطبيقية لضغط السوائل وتوازنها، ورفع مياه الفوارات والعيون الى أعلى.
ووضع ابو الفتح عبدالرحمن المنصور الخازن كتاباً يعرف بكتاب "ميزان الحكمة" أنجزه عام 1121م. فيه بحوث مبتكرة في علم الهيدروستاتيكا، قال عنه العالم سارتون: "انه من أجلّ الكتب العلمية التي تبحث في الموضوعات الطبيعية، وأروع ما انتج في القرون الوسطى". واعترف العالم بلتن من اكاديمية العلوم الاميركية، بما لهذا الكتاب من شأن في تاريخ الطبيعة وتقدم الفكر عند العرب.
يبحث الخازن في كتاب "ميزان الحكمة" في موضوع الهواء ووزنه، ويشير الى ان الهواء قوة رافعة كالسوائل وان وزن الجسم في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وان ما ينقصه من الوزن يتبع كثافة الهواء. واخترع الخازن ميزاناً لوزن الاجسام في الهواء والماء، وبين مقدار ما يغمر من الاجسام الطافية في السوائل. وتعتبر دراسته لهذه المواضيع الاساس الذي بني عليه البارومتر ومفرغات الهواء والمضخات المستعملة الصلبة والسائلة.
اما الفيلسوف يعقوب الكندي الذي ولد في الكوفة، وكان ابوه اميراً فيها، درس الكندي في البصرة، وانتخبه المأمون لترجمة مؤلفات ارسطو وغيرها، وكان الكندي مهندساً قديراً وطبيباً حاذقاً، ترك آثاراً جليلة جعلت الكثير من العلماء يعترفون بأنه مفكر عميق من الطراز الأول. وأخرج رسائل في البصريات والمرئيات، وله فيها مؤلف لعله من أروع ما كتب مادة وقيمة، وكان له تأثير كبير على العقل الأوروبي. وكتب الكندي في الموسيقى، ووضع رسالة في اسباب زرقة السماء، ترجم الى اللاتينية. وله رسالة في المدّ والجزر، وأنتج مصنّفات عدة تزيد على 230 كتاباً ورسالة، منها 12 كتاباً في الطبيعيات و7 في الموسيقى. وكان الحسن بن الحسن بن الهيثم البصري من عباقرة العالم الذين قدموا خدمات لا تثمّن للعلوم، ومن يطلع على مؤلفاته ورسائله تتجلى له المآثر التي اورثها للأجيال، وان التراث القيم الذي خلفه للعلماء والباحثين ساعد كثيراً في تقدم علم الضوء الذي له اتصال وثيق بأهم المخترعات والمكتشفات. اشتغل ابن الهيثم في البصريات فترك تراثاً ضخماً مليئاً بالابتكارات التي كانت اساساً لبحوث علماء القرون الوسطى، كما كانت اساساً لكتاب وضعه العالم بيخام في البصريات.
بحث ابن الهيثم في كتابه عن الضوء وامتداده ونفوذه وانعكاسه وانعطافه، وعرف النسبة التي يكون بها التبدل في اتجاه الضوء وفي سرعته، ووصف العين، وبيّن اجزاءها المهمة وطبقاتها وكيفية عملها في نقل صور المرئيات الى الدماغ، وكيف يتم انطباع الصورة وانسلاخها، وأخطاء البصر، ثم كيفية امتزاج الألوان، وشرح كيفية تكوين قوس قزح وألوانه.
علم الميكانيك
ظهر في زمن المأمون موسى بن شاكر وشعّ في سماء العلم، لا سيما في الهندسة، لكنه مات شاباً وخلّف ثلاثة اولاد هم: محمد وأحمد والحسن، وكانوا محل رعاية المأمون، فأمر اسحق المصعبي بالاهتمام بهم والمحافظة عليهم، فنبغ محمد في الفلك وأحمد في صناعة الميكانيك والحسن في الهندسة. ومن مؤلفاتهم كتاب يعرف ب"حيل بن موسى" الذي يحتوي على مئة تركيب ميكانيكي، عشرون منها ذات قيمة علمية، وفيه بحوث عن مراكز الثقل، وفي فن الآلات الروحية وغيرها من آلات الشراب. واشترك احمد مع اخيه الحسن في صنع ساعة نحاسية كبيرة وساعات مائية، ومن الآلات التي اخترعوها الأرغن المائي. وقد زار مرصدهم في سامراء الطبيب المعروف عبدالله بن سهل الطبري واطلع على آلة عجيبة قال عنها: "في مرصد سامراء رأينا آلة بناها الأخوان أحمد ومحمد ابنا موسى، وهي ذات شكل دائري يحمل صور النجوم ورموز الحيوانات في وسطها، تديرها قوة مائية، وكان كلما غاب نجم في قبة السماء اختفت صورة هذا النجم في اللحظة ذاتها في الآلة، وإذا ظهر نجم في قبة السماء ظهرت صورته في الخط الأفقي من الآلة". واشتهر بديع الزمان ابو العز اسماعيل في علم الميكانيك، ويعتبر كتابه "الآلات الروحانية" او "كتاب الحيل الجامع بين العلم والعمل" من اهم الكتب العربية في موضوع الميكانيك. اشتغل ابو العز اسماعيل في خدمة العائلة الارتقية في ديار بكر، وفي كتابه عشرة انواع من الساعات وتفاصيل لأجهزة ترفع المياه من الآبار، وشرح لعلم النافورات، وكل ذلك موضّح بالصور والرسوم الملوّنة.
مما تقدّم يتضح لنا ان العرب في القرون الوسطى كانوا قوّامين على علوم القدماء، وأنهم لم يكتفوا بدراسة تلك العلوم والاحتفاظ بها، بل اضافوا اليها اضافات جليلة تناولوها بأسلوب علمي بعيد من الخرافات والأوهام، ثم بثّوها الى العالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.