المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    بريدة: مؤتمر "قيصر" للجراحة يبحث المستجدات في جراحة الأنف والأذن والحنجرة والحوض والتأهيل بعد البتر    غارة إسرائيلية تغتال قيادياً من حزب الله في سورية    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    الجيش الإسرائيلي يحمل حزب الله المسؤولية عن إطلاق مقذوفات على يونيفيل    إسرائيل تلاحق قيادات «حزب الله» في شوارع بيروت    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    24 نوفمبر.. قصة نجاح إنسانية برعاية سعودية    موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    المؤتمر للتوائم الملتصقة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاميكازا بداية القرن
نشر في الحياة يوم 17 - 09 - 2001

استخدمت اليابان طائرات وطيّاري الكاميكازا منذ شهر تشرين الاول اكتوبر 1944 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ضد اسطول الحلفاء. وتعني كلمة كاميكازا "الريح الالهية"، وقد اطلقت هذه التسمية على الاعصار الذي دمّر اسطول منغوليا الذي هدد اليابان عام 1281.
صمّم بعض طائرات الكاميكازا خصيصاً لاغراض انتحارية بحيث لا يستطيع الهبوط بعد تحليقه، وحمل رأس الطائرة بأكثر من طن من المتفجرات نصف وزن الطائرة. كما صممت لها خزانات كبيرة من الوقود، واصطدمت الطائرة بهدفها بسرعة 970 كلم في الساعة مولّدة طاقة تدميرية هائلة. دمرت مئات هجمات الكاميكازا 40 سفينة حربية واعطبت المئات اثناء الحرب. وفي معركة اوكيناوا خسرت الولايات المتحدة خمسة آلاف جندي بفعل عمليات الكاميكازا الانتحارية، وهو اكبر عدد من الخسائر بالارواح تتكبده الولايات المتحدة في معركة واحدة في تاريخها.
وفي النهاية خسرت اليابان الحرب ونكبت بالقنبلة النووية.
فعلت جرأة طياري الكاميكازا وجسارتهم فعلها في نسج خيال الشعوب المضطهدة منذ الحرب العالمية الثانية، مع ان اليابان كانت دولة مُضطَهِدة بكسر الياء واستعمارية ومعتدية على جاراتها ومتعالية عليهم ثقافياً.
لم تكن العمليات اليابانية الانتحارية جزءاً من استراتيجية انتصار، بل بداية الهزيمة، وتعاملاً يابانياً ثقافياً دينياً مع الهزيمة، بحيث يقضي الواجب ان يتكبّد الطرف الآخر اكبر كمية من الخسائر، وبحيث تتضاءل اهمية الحياة الفردية عندما تصل الى مبتغاها بتنفيذ هذا الواجب.
لقد دمرت الطائرات الاميركية، او الاميركية الصنع، بغداد وبلغراد وهانوي وكمبوديا ودريسدن وبيروت ورفح وخان يونس. وقد دمّرت يوم الثلثاء 11/9/2001 أهم رموز القوة والسطوة الاميركية في مركز التجارة العالمية والبنتاغون، هذه هي المرة الاولى في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية التي "تقصف" فيها مدن ومواقع مدنية اميركية. فهل ادى هذا "القصف" الكاميكازي الى "فشّة قلب" الشعوب "المقصوفة"؟ هل هدأ روع المضطهدين بعد هذه الكارثة؟
لم يهدأ بال احد، بل زادت معاناة الاميركيين من معاناة المضطهدين في كل مكان في العالم. اولاً لأن المضطهدين بشر لا يبغون الانتحار، بل ينشدون الحياة الحرّة الكريمة، وثانياً لأنهم يحسّون بمعاناة الآخرين. ولا شيء يعوّض الانسانية التي هي فينا عن انكسار الروح الذي ولّده مشهد البشر، الافراد، الناس وهم يترددون بين الموت حرقاً وبين التحطّم بالقفز من ارتفاع مئات الامتار. لا شيء يعوّض الانسانية التي هي فينا عما تبقى من القلب الذي قفز اليهم ولم يعد الى مكانه عندما رأيناهم أحياء يختارون القفز الى الموت.
نعم هنالك فرق قسري ومفروض وغير عادل، بين الموت الذي يحظى بكاميرا وذلك يحظى بخبر عن عدد القتلى والآخر الذي لا ينال هذا ولا ذلك... لماذا يؤثِر فيها هذا التمييز ويحبطنا؟ لأننا تحولنا على رغم التمرد على العولمة، الى كائنات استهلاكية اعلامية، ولأننا بتنا نتأثر بمعاناة سكان العمارتين التوأم، اكثر مما نتأثر بمعاناة سكان رواندا وبوروندي، او نغضب على هذا الواقع، وكأن الكاميرا تمنح فعلاً قيمة للموت، وما قيمة الموت إلا مساوية لقيمة الحياة.
ولكن عندما نجري الحسابات السياسية بعد هذا الانفعال وهذا الغضب على سرعة التأثر وانعدام العدالة في توزيع الحزن، نجد فعلاً ان موت آلاف الاميركيين يؤثر على العالم وعلى مصيره اكثر ما يؤثر موت مئات آلاف الروانديين والبورنديين، وان من يعمل من اجل تغيير هذا العالم ليصبح اكثر عدالة لا بد ان يأخذ هذه الحقيقة في الاعتبار. قد يحظى التعبير الانفعالي ضد هذا التوزيع غير العادل للدموع بتفهّم وهنهنة بالرؤوس في برنامج ثرثرة تلفزيوني، ثم يعود العالم الى مسلكه وعاداته مع نهاية البرنامج.
لقد جمعت صيرورة العولمة عملية تضييق الفجوة بين الواقع الاميركي و"صناعة الاحلام" الهوليوودية مع عملية التمرد الغاضب واليائس على صناعة الكوابيس الاميركية خارج اميركا.
لماذا صرخ مشاهدو التلفزيون في كافة أنحاء العالم صرخة واحدة "لا اصدق ما اراه كأنه فيلم"، و"كأننا في فيلم". لم تبقَ شركة انتاج سينمائية اميركية الا وانتجت فيلماً عن "الارهابيين العرب" الاشرار الذين تختلط فيهم الغيبية الدينية بالجشع الى المال بالخيانة وقتل الاصدقاء الذين يخدمونهم وهم يخطفون طائرة او يخططون لتدمير نيويورك أو لتفجير ناطحة سحاب. ولكن المخططات الجهنمية احبطت دائماً في صناعة الاحلام الاميركية التي يقفز فيها شوارزينيغر او رامبو من الطوابق العليا الى جناح الطائرة وينتصر على الخاطفين الجبناء.
وُصفت عمليات الخطف والتفجير بالجبن، تعبيراً عن مفاهيم البطولة الاميركية التي تقسم الناس الى ابطال اخيار وأشرار جبناء. لا "الابطال" اخيار ولا "الاشرار" جبناء ولا الاخيار اخيار ولا الاشرار اشرار ولا الدنيا يسيرها فيلم هوليوودي.
لقد تمنينا جميعاً، لأننا قبليون ولأننا نخشى ان يتصرف العالم الاميركي بشكل قبلي، الا يكون المنفذون عرباً، وان تكون قضيتهم يابانية انتقاماً لهيروشيما او صربية انتقاماً لبلغراد او اميركية انتقاماً لكوريش او لماكفاي او طلباً لخلاص مسياني توراتي آخر غير خلاصنا. ولكننا ايضاً نخشى الاعتراف بأننا شكّكنا بقدرة عرب، اي عرب، على تنفيذ مثل هذه العمليات المعقّدة بإحكام واصرار ومثابرة، من دون ان تخترقهم الاستخبارات على رغم عددهم الكبير نسبياً وعلى رغم طول المدة اللازمة للتخطيط.
لقد ارتسمت في الاذهان صورة للانتحاري الاستشهادي ابن المخيم الذي يقوم بما يقوم به في ساعة يأس او شهر يأس واحباط في ظروف مسدودة الآفاق، ومن الصعب ان نتخيل من يخطّط لموته طوال اكثر من عام يتدرّب خلاله على الطيران، ويدرس المواقع بدقة ويعيش مع فكرة الموت فترة طويلة من الزمن يقوم خلالها بتأدية مهمات معقدة. ليست هذه حال احباط ويأس، ولا الحياة في بوسطن او المانيا حياة في مخيم. نحن نشهد حال تصميم وعناد ايديولوجيين، وحياة شخصية لأفراد ذوي مهارات وقدرات، كان في الامكان استخدامها في تحقيق نجاح شخصي في مجالات اخرى. ليست هذه حال انسداد آفاق فردية وإنما حال استغراق كامل في خدمة هدف او غاية.
بهذا المعنى صدق جورج بوش عندما قال إن الولايات المتحدة تواجه عدواً من نوع جديد.... بإمكان عشرين شخصاً من هذا النوع ان ينكبوا الولايات المتحدة بما يشبه القنبلة النووية. لقد قتلت قنبلة هيروشيما 40 ألف انسان ونشرت تشوهات جسدية واوراماً سرطانية. اما "القنبلة" التي أُلقيت على مركز التجارة العالمي جنوب مانهاتن فقد ذهب ضحيتها الآلاف كما يبدو، ولا بد ان الكاميرا ستساعدها على نشر تشوهات روحية وأورام نفسية.
يمني المضطهدون انفسهم بأن هذا هو توازن الرعب الجديد مع قوة الغرب العسكرية التدميرية. وفي حين ارتكز التوازن بين المنظومتين الدوليتين حلف وارسو وحلف الناتو على قوة الردع المتبادل النووية، يحيد هذا التوازن قوة الغرب النووية، ويهدد على رغم ذلك بدمار حربي المقاييس. يقف امام حلف الناتو بعد انهيار حلف وارسو خصم لا يملك سلاحاً نووياً، ولا يملك دولة، ولا ينفع معه قصف موقع او موقعين. فهو خصم متشظّ ومنتشر، حتى في المدن الغربية ذاتها، تكمن قوته في مكامن ضعف النظام الرأسمالي ذاته. انه يحوّل القوة التكنولوجية العاتية التي تبني ناطحات السحاب، وتجعل خطوط الطيران نوعاً من المواصلات الجماهيرية، الى مقتل تسهل اصابته، ويحوّل خزانات الوقود الى قنابل نابالم والطائرات المدنية الى صواريخ وناطحة السحاب الى شرك وفخ دونما تخطيط عسكري.
هذه احلام الفقراء وامانيهم. ولكن الضعف ليس قوة الا من باب الاستعارة، ولا يمكن تحويل القوة الى ضعف الا في "معركة" او اثنتين، او حالات استثنائية، وتبقى القاعدة في الاقتصاد والسياسة ان القوة اقوى من الضعف، هذه بديهية تبدو الحاجة الى كتابتها او نصها مصطنعة وسخيفة.
"الائتلاف العالمي المعادي للارهاب"
بعدما عاد جورج بوش الابن الى تشخيص العدو الجديد الذي لن يسمح له بتشكيل توازن الرعب من مخابئه، احتفلت اسرائيل واحتفل معها المسؤولون الاتراك والروس وغيرهم ممن يصعب تعاملهم الارهابي مع "مشكلة الارهاب" في بلادهم بعملية قبولهم في "العالم المتحضّر" الذي يسعون للانتماء اليه. لم تخفِ اسرائيل سعادتها من ان اميركا ستقتنع اخيراً ان قضية العالم الاساسية هي الارهاب، وليس الاوضاع التي تؤدي اليه، ووصلت سعادتها حد النشوة عندما تأكدت ان اوروبا ستضطر للانضمام الى "المعسكر العالمي المعادي للارهاب" في حركة عالمية واحدة مع اسرائيل وروسيا وتركيا، وان الانظمة العربية ستضطر الى الانضمام الى هذا المعسكر كما اضطرت في حينه للانضمام الى "الائتلاف الدولي" ضد العراق.
ويكاد المرء يشفق على الانظمة العربية الصديقة لاميركا التي لا يعيرها الغرب اهتماماً عندما يوجه "الارهاب" نفسه ضدها، فهي تناشد الولايات المتحدة وبريطانيا التي تجول فيها اسامة ابن لادن بحرية حتى يوم غير بعيد ألا تمنح ملجأ سياسياً لاعدائها، من دون ان تجد آذاناً صاغية لدى الديموقراطيات الغربية. ولكن عندما تصاب الديموقراطيات الغربية في عقر دارها تأمر هذه الانظمة الى بيت الطاعة وتبدو اداناتها كدفاع عن النفس امام الرأي العام الاميركي، وتُستدعى استدعاءً للانضمام الى "التحالف العالمي ضد الارهاب". فيذهب المغلوبون على امرهم ولسان حالهم يقول: "ولكن من الذي اقام ودعم النظام القائم في افغانستان؟ ولماذا اصبح الارهاب عدواً عالمياً في عصر القطب الواحد، بعدما كان السؤال ارهاب نعم، ولكن لمصلحة من؟ لمصلحة الاتحاد السوفياتي أم لمصلحة اميركا؟".
وقد يخير "الائتلاف الدولي ضد الارهاب" عضوية اسرائيل كدولة عظمى في هذا السياق السلطة الفلسطينية بين الانضمام الى احد المعسكرين كما سعى شمعون بيريز ان يفعل في شرم الشيخ عام 1996. ولا يوجد دول عدم انحياز في هذا الصراع. هذا ما يفسّر السعادة الاسرائيلية الغامرة التي لم تخفها دموع التماسيح والشموع التي تُضاء امام الكاميرات على ارواح الضحايا.
سارع المواطنون الاميركيون من مختلف الثقافات والاصول والالوان للتبرع بالدم ليس فقط في محالة للمساهمة في الدراما الانسانية الجارية على شاشات تلفزيوناتهم، وانما ايضاً للتأكيد والتأكد ان لوم الدم الواحد يختزل الفروق بين الوانهم كأبناء امة اميركية واحدة. لكن التبرع بالدم في اسرائيل هو تأكيد على ان اسرائيل واميركا ضحيتان لنفس العدو.
اذا ما قام "التحالف الدولي ضد الارهاب" فسيكون هذا التحالف هو النتيجة الكارثية الثانية للعملية الكارثية في نيويورك وواشنطن بعد الضحايا. فلا بد ان يقوي هذا التحالف في المدى المنظور على الاقل موقف اسرائيل وموقعها الدولي، ويحرر ايديها كما شهدت جنين في الايام الاولى التي تلت العملية، اكثر حتى من السابق، بحجة مكافحة الارهاب... وقد باتت هذه الحجّة مكوناً اساسياً في العلاقات الدولية الجديدة التي ستحاول الولايات المتحدة تنظيمها.
ولكن الكارثة الثالثة قادمة، لا شك في ذلك. فاذا اختارت الولايات المتحدة استراتيجية "مكافحة الارهاب" الاسرائيلية على المدى البعيد، واذا لم تكتف به كرد فعل اولي تحكمه التداعيات، فلا بد ان تنتج هذه الاستراتيجية المدمرة ردود فعل ارهابية مستمرة ضدها وضد اوروبا على اراضيها وفي الخارج، فمكافحة الارهاب لا تنتج الا ارهاباً. الارهاب هو مجموعة عوارض لحالات عديدة من انعدام العدل والفقر والاحتلال والاضطهاد بأشكاله المختلفة. وهو تمرد معولم على حداثة معولمة ادارت ظهرها لشعوب بكاملها. انه سلاح الضعيف الذي لم يمسك بتلابيب الحداثة والتقدم والتطور، وتمرد على عقلانيتها بالمس مباشرة بالبنية التحتية اللاعقلانية للعقلانية، ببنية القوة. انه لا يستطيع ان يخاطبها ويحاورها عبر عقلانيتها من موقع الندية، ليس فقط لأنه لا يستطيع بأدواته السياسية والثقافية والحضارية القائمة التأثير على عملية صنع القرار فيها، بل لأنه بات مقتنعاً من التجربة، ان البنية التحتية للعقلانية الغربية هي بنية المصالح الاقتصادية والقوة التنظيمية الادارية ومؤسساتها، وهي صاحبة الحجة الاقوى.
ولذلك تنتشر في اوساط الضعفاء مقولة "المسّ بالمصالح الاميركية والغربية". ولكن الضعيف سيكتشف بعد عملية نيويورك الدراماتيكية التاريخية ذات الابعاد الكارثية، انه بهذا المنطق الانتحاري، لا يمس ب"المصالح الاميركية" بل برموزها فحسب، وليس صدفة ان توجه الضربة الى رموز القوة والسطوة الاميركية: مركز التجارة العالمي والبنتاغون، وليس صدفة ايضاً الا تمس هذه الضربة لرموز المصالح بالمصالح ذاتها، بل بآلاف المواطنين الابرياء فقط، فليست المصالح بناية او اثنتين ولا هي مجموعة مكاتب للشركات الكبرى التي تضررت فعلاً وتضرر بعض اصحابها انفسهم جسدياً، وإنما المصالح في نظام عاتٍ كالنظام الاقتصادي والسياسي الاميركي هي مجموعة حسابات "عقلانية" للعوامل اللازمة لإعادة انتاج هذا النظام والحفاظ على بقائه على المستويين العالمي والمحلي، وان عملية المسّ بالمصالح لا يمكن ان تتم من دون اقناع صنّاع القرار باعادة تغيير حساباتهم، وهذا لا يتم بالحوار العقلاني معهم ولا بالعمليات الانتحارية، وانما بالتأثير عبر مجموعة قوى ومؤسسات يتألف منها النظام الاميركي، ولا بد ان يستند التأثير الى القوة كما يستند الى القدرة على ترجمة هذه القوة الى لغة سياسية مفهومة.
الرد على "التحالف ضد الارهاب"
سيكتشف العرب والمسلمون في الولايات المتحدة ان مسلك البحث عن الانتقام الذي يعمّم "التهمة" على ابناء القومية الواحدة او الدين الواحد او المظهر الخارجي الواحد ليس حكراً على الدول والمجتمعات المتخلفة التي خلفوها وراءهم، وان هذا المسلك قائم في اميركا وفي اوروبا، اما في اسرائيل فحدث عن العنصرية، ولا حرج. وسيضطر المواطنون العرب في اميركا كما في اسرائيل الى البحث عن حلفاء ضد العنصرية، والى الدخول في حوار مع المجتمع الاميركي، والى الدفاع عن الديموقراطية وقيمها امام الرعاع الذين يعتدون عليهم وعلى ممتلكاتهم، وحتى الجمعيات الاسلامية ستلجأ الى التأكيد على قيم التعددية والتسامح وحرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم مستندة الى فهم المجتمع الاميركي لذاته كما هو منصوص عليه دستورياً. اي انهم سيضطرون الى أخذ الديموقراطية الأميركية بجدية أمام الهجمة. وسيؤكدون أنهم أميركيون، كما أكد اليابانيون الأميركيون في حينه عندما زجوا في معسكرات اعتقال أميركية اثناء الحرب العالمية الثانية. وهو أمر لن يتكرر بالطبع... ولكن النمط الذي سيتكرر هو الرغبة في الانتماء إلى نمط الحياة الديموقراطي أمام هجوم الرعاع عليهم لمجرد أنهم عرب، وأمام التنميط والآراء المسبقة، وقد يرافقه التأكيد على الهوية العربية على رغم كل شيء. ولكن ماذا تفعل شعوبنا ازاء هجمة الرعاع الدولي وحلفائه المحليين تحت شعار مكافحة الارهاب؟ فنحن لا نستطيع تأكيد الانتماء لا إلى ديموقراطية محلية ولا عالمية.
لم تكن الشعوب العربية في الماضي القريب، الذي يبدو اليوم سحيقاً، معادية لأميركا. إذ لم يكن لأميركا ماضٍ استعماري في المنطقة. وبالعكس تأثر مثقفو وسياسيو مرحلة العداء للاستعمار بالولايات المتحدة وقيمها، واعتقد حتى بعض الانقلابيين العسكريين مثل الضباط الأحرار في مصر بإمكان التحالف أو التلاقي مع أميركا ضد بريطانيا وفرنسا في مرحلة تصفية الاستعمار التقليدي. ولكن الولايات المتحدة الأميركية حازت بجدارة على العداء العربي، لأنها ورثت المصالح الاستعمارية في المنطقة، ولأنها ثبتت حلفاءها في الحكم بالدوس على كل القيم التي تدعي تمثيلها في ما يسمى ب"نمط الحياة الأميركي"، ولأنها غيرت تحالفاتها حسب مصلحتها الآنية، ولأنها دعمت إسرائيل في صراعها مع العرب وفي نفيها الكامل لوجود الشعب الفلسطيني من دون قيد أو شرط، وبتبنٍ شبه كامل للاهوت السياسي الإسرائيلي الغيبي.
و"مكافحة الارهاب" ستعمق هذا العداء فقط - بالإمكان شرح هذا الكلام، ولا بد من شرحه - ف "مكافحة الارهاب" تعني تهميش حال الظلم التي يعيشها الشعب العراقي والشعب الفلسطيني، وتعني تهميش الاستغلال والظلم بنظر العالم.
لقد ثبت أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تبقى آمنة أمام انعدام الأمن لشعوب العالم. وليس الحل بزيادة انعدام الأمن في بقاع العالم التي همشتها عملية العولمة.
يعرف الأميركيون تمام المعرفة ان الكاميكازا لا تنتهي هذه المرة بهزيمة دولة، ولا يمكن محاصرة "العدو الجديد" عسكرياً، والقنابل النووية لا تجدي هنا نفعاً، فالتعاسة العالمية متشظية تفتقر إلى العنوان الجغرافي أو السياسي. ولا يمكن معالجتها إلا بمخاطبة أسباب التعاسة.
ولكي نستطيع مخاطبة الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية بهذا الكلام، يجدر بنا ألا نعاديها ونعادي ثقافتها بعد ان نقوم نحن بتنميطها ونشر الآراء المسبقة عنها. لا نستطيع مخاطبة الحداثة بخطاب ردة الفعل عليها، أو نفيها، أو بخطاب ما قبل الحداثة.
لم يحتفل العرب ولا الفلسطينيون بمأساة المواطنين الأميركيين، ولكن المسلك الاحتفالي لدى أقلية صغيرة من الفلسطينيين التلفزيونيين، تحول إلى فيديو كليب رائج في محطات البث الغربية كافة. لماذا؟ لأنهم لا يريدوننا أن نصل إلى حال حوار مع الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية. ونحن نوفر لهم الأدوات لذلك لأن لدينا من يتصرف من دون رادعٍ كما يتصرف سائبة العنصريين الذين يهاجمون العرب لأنهم عرب في الولايات المتحدة. ولا أحد يجرؤ على ردع حال تخلف ثأرية انتقامية تفرح لسقوط مدنيين من دول تعادينا، خوفاً من المزاودة الغوغائية المتخلفة.
ومجتمعاتنا لم تبدأ بعد الحساب السياسي والاخلاقي مع تحول الثقافة السياسية الانتقامية ثقافة الكاميكازا الجديدة، إلى ايديولوجيا، لا تفرز استراتيجية تحرير، ولا ينجم عنها تيار معارضة إصلاحي أو انقلابي يغير أحوال شعوبنا وبلداننا. لم تعد القضية قضية انعدام مخارج سياسية لدى شعب تحت الاحتلال يناضل بكل الوسائل بما فيها الموت ضد المحتلين، بل أصبحت ايديولوجيا لا تطرح بديلاً لا على الصعيد العالمي ولا على الصعيد المحلي. لا يوجد مجال لمقارنة هذه الايديولوجيا بالمقاومة المشروعة ضد الاحتلال.
لم توصل العملية الانتحارية المجتمع الأميركي الى التفكير بأسبابها، والأوضاع التي أدت إليها، وربما وفي أفضل الحالات يبدأ حوار أميركي داخلي بعد أشهر طويلة حول سياسات أميركا الخارجية التي أدت إلى انتقال العنف السياسي إلى أراضيها... ولكن عند ذلك سيقوم معلقون وخبراء أميركان بشرح ونص أوضاعنا، ولن تكون هذه لغتنا ولا نصنا.
يطالبنا "التحالف الدولي ضد الارهاب" بإدانة العملية فوراً ومن دون تأخير، وليس بمعارضتها سياسياً واخلاقياً. فالمعارضة تؤدي الى تفصيل الحجج والاسباب الى التكلم بلغتنا السياسية والى طرح نصنا. اما الادانة الفورية والمباشرة بمثول زعماء العالم الواحد تلو الآخر لتنفيذ هذا الواجب، فهو تدليل على موقف ازاء توازن الرعب الجديد، انه اجابة على سؤال، لأي معسكر تنتمي؟ من دون ان يكون لديك نص، او تصور او برنامج عن شكل العالم الاكثر عدالة. هكذا ينقسم النظام الدولي بين "التحالف المعادي للارهاب" والمنضمين اليه خوفاً، وبين من يستخدمون الرؤوس لمناطحته، لا لمعارضته، ولا لتغيير واقعهم التعيس.
* كاتب فلسطيني، عضو في الكنيست الاسرائيلية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.