من الطبيعي أن القصور الفكري والحركي الذي يصيب الحركات الإسلامية المختلفة يدفع الى الشعور بقدر من التعاطف مع التوجهات الاصلاحية لبعض المنتمين إليها سواء كانوا أفراداً أم مجموعات وسواء استهدفت تلك التوجهات الاصلاح من الداخل أو من الخارج. المهم ألا يوقعنا ذلك في فخ التعاطف مع توجهات تم استدراجها من التمرد التنظيمي والفكري لحركة ما إلى التمرد على الأصول المرجعية للإسلام نفسه. فالخطورة الخاصة لكتاب صلاح الجورشي "الإسلاميون التقدميون" لا تتعلق بالتجربة التاريخية لمجموعة الاسلاميين التقدميين التي يصفها المؤلف نفسه بأنها "كانت تجربة فاشلة ومتعثرة لم تصمد كثيراً مقارنة بغيرها كما لم تتميز بتضخم عدد بُناتها وأنصارها" ص 16، أو بالأفكار النقدية لأطروحات سيد قطب والأطر المرجعية لحركة الاتجاه الاسلامي "الحركة الأم في تونس" أو حركة "الإخوان المسلمين" عموماً. لكن الخطورة تكمن في المنظومة الفكرية التي أجاد صلاح جورشي طرحها في الكتاب بشكل دقيق ومكثف والتي نذهب إلى أنها لا تعبر عن هؤلاء الإسلاميين التقدميين فقط وإنما تعبر عن تيار تفشى وجوده بين النخبة في أجزاء عدة من عالمنا العربي والإسلامي في ظل الظروف الضاغطة التي تتعرض لها الحركات الإسلامية المختلفة في العقدين الأخيرين. وهذا هو الأمر الذي أحسب أن رضوان جودت زيادة تجاهله في قراءته "المنحازة" للكتاب هكذا كان عنوان المقال: "الحياة" 25 آب /اغسطس الأمر الذي قد يفسر أنه ترويج مقصود لهذه الأفكار. وأهم ما يحدد معالم هذه المنظومة الفكرية هو موقفها من المرجعية الإسلامية المتمثلة في النصوص القطعية، حيث يقول الجورشي: "إن كل تفسير للقرآن هو قراءة تتمحور حول الإنسان فحاجات القارئ وثقافته ومخزونه تتدخل بشكل مباشر أو غبر مباشر لتحديد مضمون المقروء القرآن خط مسطور يتكلم به الرجال على حد تعبير علي بن أبي طالب. فالتفسير هو ما فهمه المفسر من النصوص التي بين يديه" ص 95، وتفسير القرآن "عمل إنساني غير مفارق للتاريخ فالخطيب أو الكاتب أو السياسي الذي يستعرض رؤية أو موقفاً يعتبرهما جزءاً من الإسلام ويدعمهما بآية أو حديث يقوم في أغلب الأحيان باتخاذ موقف من مسألة اجتماعية أو سياسية ثم ينتقي ما يناسبه من النصوص ليضفي الشرعية على ما رآه وتبناه" 96. وعلى ذلك يجب "تقديم العقل على النقل كلما بدا تعارض بينهما" ص 98، لأنه يجب أن يكون "النقل في خدمة العقل، والعقل في خدمة المصلحة والمصلحة قاعدة التنمية الشاملة التي يجب أن تكون في ضوء المتغيرات والتراكمات شكلاً متقدماً للعقلانية" ص 99. وفي صيغة أوضح يقول الأستاذ صلاح الجورشي في محاضرة له في المركز الدولي للدراسات في القاهرة تحت العنوان نفسه الإسلاميون التقدميون: "إذا اصطدم نص قطعي الدلالة مع المصلحة التي نقدرها، أنا أعطي الأولوية للمصلحة لأنه لا يوجد نص خارج المصلحة" ص 28. والذي نبحث فيه الآن هو الفرق بين الوحي والتراث الفكري البشري في فكر هؤلاء الإسلاميين التقدميين. فإذا خضعت كل النصوص القرآنية للتفسيرات النسبية فإن ذلك يفقدها أي دلالة قطعية والفارق بين الفكر البشري والوحي هو حمل الوحي صفة اليقين وقبولنا لذلك يحتم علينا الخضوع لما يقرره الوحي بوجود الآيات المحكمة بين نصوصه والآيات ذات الدلالات النسبية "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات مُحكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"، "فإذا أنزلت سورة مُحكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت"، والنسبي في التفسير يكون في غير المحكم من النصوص ومع ذلك فهو ليس نسبياً نسبية مطلقة ولكن نسبية مقيدة بدائرة المحكم من النصوص فإذا كان جلد الزاني والزانية مئة جلدة من المحكم فلن يتفق مع هذا المحكم على سبيل المثال أي تفسير يذهب الى كيفية للجلد لا تؤدي إلى الإيلام. والنسبية المطلقة هي نقيض للوحي والمقدس وادعاؤها في فهم النصوص نفي له فهي تجد مصدرها على الأرضية العلمانية للفكر البشري. وتمثل فكرة القراءات المختلفة للنص احدى تجلياتها التي برزت مع تنامي الفكر ما بعد البنيوي من هيدغر إلى دريدا. فمنطوق الكلمة الواحدة له انطباعاته المختلفة ومن ثم فللأفكار مدركات مختلفة في أذهان الناس. ولكن السؤال هنا اذا كان المقدس غير قادر على توحيد مدركات الناس للقضايا الأساسية فما قيمته؟ وما هو إعجازه؟ وعلام يكون التكليف إذاً؟ وهذا ما يعني أن قبول ذلك هو هدم لكل أركان الدين. واختلاف مدركات الناس للكثير من الأفكار - أو ما يعلنونه عن ذلك - لا يعدو فقط من منظور الإسلام وهو ما تؤيده الخبرة الإنسانية إلى التباين في المخزون الثقافي لهم وإنما ايضاً للتأثر بالهوى والغرض. فالمدركات قد تأتي تبعاً للمصلحة، وإرادة الاعتقاد التي يدعو اليها وليم جيمس رائد البرغماتية تحدث في الواقع بالفعل. ومن هنا يأتي تفسير قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه القرآن خط مسطور يتكلم به الرجال فما يقصده الإمام أن مصدر الخلاف هنا هو الهوى والغرض وليس الإدراك والتفسير وإلا لاستوى في النزاع مع معاوية من منظوره هو نفسه - فكلاهما بحسب التأويل الجورشي للمقولة له الحق في التفسير. وكون الحق مطلقاً لا ينفي أن له جوانبه المختلفة التي قد تتطلب بعضها وقائع من دون وقائع أخرى وهذا ما يفعله الكاتب أو السياسي أو الخطيب عندما يعمل على تأييد موقفه من قضية ما بآية أو حديث. وتبقى المسألة هنا متعلقة بالموقف نفسه الذي يتخذه: هل أراد به الحق أم الضلال؟ ولا يستوي الاستدلال في الحالتين بالآية أو الحديث لأن التلبيس في الاستدلال الذي يحدث في الحالة الأخيرة يتم الكشف عنه بالتدقيق العلمي. أما القول بتقديم العقل على النقل كلما بدا تعارض بينهما وأنه يجب أن يكون النقل في خدمة العقل فهو قول لم يقله أحد من أهل الشريعة ولا يمكن التعويل على المعتزلة في ذلك لأن تقديم المعتزلة للعقل على النقل هو في باب المتشابهات من العقائد في الموافقات. أما في مجال الشرائع فكما يقول الشاطبي في الموافقات: "قد جعلوا الشرع كاشفاً لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان، فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة وإنما اختلفوا في المدرك"، ولم يشتهر عن المعتزلة إلغاء أي تشريع إسلامي قائم بدعوى اصطدامه بمقتضيات العقل، لأن النقل اذا كان في خدمة العقل فما الجدوى منه. إذاً فالعقل قائم لدى الإنسان من الأصل ومن غير المعقول أن تكون الغاية من الرسالات الإلهية أن تأتي لتبريره. وإذا كان المرجع هو العقل فهو نسبي. وقيام النصوص بتبرير النسبي يعني إفقادها للثبات واليقين. أي إفقادها للقداسة، الأمر الذي يعني الإلغاء العملي للوحي، وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى القول باعطاء الأولوية للمصلحة التي نقدرها اذا اصطدمت مع النص القطعي الدلالة، لأن السؤال هو: ما الجدوى إذاً من النص القطعي وإذا كان الحاكم لكل الأمور هو المصلحة التي نقدرها فما الفارق المائز بين فكر هؤلاء الإسلاميين التقدميين والفكر العلماني؟ وكلاهما يجعل مرجعه الأساسي هو المصلحة التي يقدرها العقل؟ أقول إن الفارق الوحيد هو أن تلك الاتجاهات تحتاج الى النصوص لتبرير تلك المصلحة العقلية أما العلمانية الصريحة فلا تحتاج الى ذلك. ومن هنا كانت المرجعية التي يحتكم اليها الكاتب دائما هي الديموقراطية الغربية وحقوق الانسان ومصالح الجماهير وإلغاء الطبقات والمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، وهي نفس الشعارات الليبرالية نفسها مضافاً إليها بعض الأبعاد الماركسية. وعلى امتداد صفحات الكتاب نرى استناد الكاتب الى مقولات حسن حنفي ومحمد اركون ومحمد أحمد خلف الله، الأمر الذي يعني تقاطع فكر هؤلاء الاسلاميين التقدميين مع تيارات فكرية مختلفة في نقطة التقاء تدور حول العقلانية العلمانية والتمرد على المرجعية الإسلامية والاستخدام الذرائعي للنصوص. * كاتب مصري.