"كل تحقيق لرغبة، سرعان ما يتحول تخمة، لكن الشعور بالرضا والقناعة هو ما لم استطع احتماله قط، فآخذ في الارتياب في قيمة ما اكتب من شعر ويبدو لي المنزل وهو يزداد ضيقاً. ما من هدف بلغته كان هدفاً، كل درب اتخذته كان انعطافاً، وكل راحة كانت تلد توقاً جديداً...". هذا أسلوب شعر وحياة عبَّر عنه هرمان هيسه في كتابه "تجوال"، كأنه يُعرِّف، على نحو ما، بالشاعر قاسم حداد الوافد من بلاد "دلمون" البحرين. ربما لأن للرجلين السحر نفسه، في الكلام والحياة، كان الدخول بما قاله الأول الى عالم الثاني، على رغم بُعد الاسلوب والزمان والمكان بينهما. تكفل الوقت بقاسم حداد ثلاثين عاماً، على ما يقول، ولهذا السبب نعرفه - من دون ان نظلم آخرين أو نتجاهلهم - واحداً من أهم شعراء الخليج العربي، وأكثرهم خصوصية شعرية وشخصية ايضاً. لم يكمل قاسم تعليمه، لظروف اجتماعية ومادية خاصة، لكن ذلك كان فرصة له ليهرب من الدراسة والتدريس، لأنه لو فعل وأصبح موظفاً، لتحول الأمر كارثة، على حد تعبيره. أصدر كتابه الأول "البشارة" عام 1970، لتتوالى بعدها مجموعاته الشعرية: "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة"، "الدم الثاني"، "القيامة"، "قلب الحب"، "انتماءات"، "شظايا"، "عيشي مخفوراً بالوعول"، "النهروان"، "عزلة الملكات" و"قبر قاسم...". وتزامن عمله الأدبي مع نشاطه السياسي الذي لم يوصله، في النهاية، الى اي مكان، لكنه حوّله "أجمل الفاشلين". عن نفسه وعلاقته بالموت، عن تجربته الشعرية والسياسية وعالم الاتصالات الحديثة الذي أفاد منه في انشاء موقع "جهة الشعر" على شبكة الانترنت، تحدث قاسم حداد إلى "الحياة": لماذا يُعد اسمك وحضورك، كشاعر، طاغيين على شعراء الخليج الآخرين؟ - اذا اتفقنا على عدم اعتبار ذلك الحضور حكم قيمة في المطلق، أعتقد ان اتصالي المبكر بالأفق العربي، شعرياً وشخصياً، أتاح للقارئ العربي التعرف إلى صوت الشعر في منطقة الخليج ممثلاً في بعض الاسماء، وبينها مصادفة قاسم حداد. إلا أن هذا ليس كل شيء. ففي البحرين والخليج تجارب وأصوات شعرية مهمة لا يزال الاعلام الثقافي المحلي والعربي يخفق في التعرف إليها او الاتصال بها، لأسباب خارجة على ارادة الشاعر. ولكن ينبغي ألا نعوِّل كثيراً على شهرة هذا الشاعر او ذاك. المهم أن يكتب الشاعر نصه بصدق وموهبة ومعرفة، وهذا يكفي. اما الباقي فيتكفل به الوقت... هذا الوقت الذي تكّفل بقاسم حداد أكثر من ثلاثين عاماً. ما رأيك في التجارب الشعرية الخليجية؟ وإلى أين وصلت؟ ولماذا يربط البعض - وأحياناً كثيرون - بين كلمة شعر في الخليج، وعبارة "الشعر النبطي"؟ - إسمحي لي، بداية، أن اقترح تفادي استخدام تعبير "خليجية" عندما يجري الكلام على الشعر أو غيره من القضايا الانسانية المتحررة من المشروع السياسي والاعلامي الذي يربطونه بذيل عربة ورشة مشاريعهم. فمن سنوات وأنا أعترض على مثل هذه التوصيفات، وقلت ان ليس ثمة شعر "خليجي"، بل شعر عربي في الخليج، مثل اي شعر عربي في السودان أو المغرب أو غيرهما. وأظن أن اعتراضي، هذه المرة، سيكون مفهوماً أكثر لأنه سيعطف على الجزء الثاني من سؤالك، وهو النتيجة المؤسفة التي كرسها إعلام غبي ومتخلف يبدأ من الخليج ولا يتوقف في أصداء الآلة الجهنمية التي تفننت في مسخ الاعلام والثقافة العامة، مصوِّرة أن الخليج لا يُعرف الا بالجمل والخيمة. لذلك سيعتقد البعض أن الشعر النبطي هو فقط ما يُنشر في الصحف الشعبية والبرامج التلفزيونية وغيرها، ليبدو للجميع انه اختزل في نصوص تافهة غبية لا تتصل بالشعر الا بالوهم والمزاعم. في الخليج من الشعر ما يشكل درجة كبيرة من التنوع والاختلاف والغنى، ويجعل كتابته متاحة برحابة منقطعة النظير، إذ يمكنك ان تصادفي كل فنونها وضروبها، من الشعر الشعبي بكل انواعه الى الشعر العربي التقليدي، فقصيدة النثر وغير ذلك من التجارب الجديدة. ويمكن ايضاً ان تصادفي كثراً من المنهمكين في هذه الانواع المختلفة من الكتابة، يتحمسون لتجاربهم ويبدون استعداداً هائلاً ومدهشاً للنقاش والحوار في اعقد المسائل الشعرية والنقدية، ليس العربية فحسب بل العالمية ايضاً، حتى ليبدو ما تختصرينه في شعر النبط خصوصاً ما يكتبه كثر هذه الأيام تفصيلاً صغيراً، وأحياناً هامشياً - على رغم كثرته الاعلامية - في المشهد الشعري الواسع والشامل. بعد ذلك، يمكنك الحديث بجرأة وحرية عن التجارب الشعرية الجديدة في منطقة الخليج، وهي في المناسبة تشكل، في أفضل نماذجها، حواراً عميقاً مع التجربة الشعرية العربية على امتداد الشعر العربي في لحظته الراهنة. ثمة تجارب شعرية الآن تفصح عن مواهب شعرية متطورة وواعية بالمسؤولية الحضارية التي يعنيها الشعر في الحياة العربية والعالمية المعاصرة. قلت في احدى مقابلاتك "إن التفرغ للكتابة حلم" ولم تستطع ان تعيش من شعرك، الى اي حد ما زلت تعيش هذه الحال؟ - التفرغ للكتابة حلم الجميع، حتى القراء. ويبدو انني قلت هذا الكلام قبل اكثر من ثلاث سنوات، لأنني منذ سنتين تقريباً متفرغ كلياً للكتابة، إذ اعفيت من قيد التزام دوام الوظيفة والحضور الروتيني، ما اتاح لي انجاز الكثير من مشاريعي الشعرية، وساعدني على التفرغ لتحقيق مشروع حضور الشعر العربي على شبكة الانترنت. وأظن ان ثمة أدباء عرباً كثراً يجب ان يحصلوا على هذه الفرصة للتخلص من القيود، من أجل الاخلاص لمشاريعهم الادبية. لكن هذا كله لا يعني في الحياة العربية ان يعيش الشاعر من شعره. بالنسبة إلي لم اتوهم هذا قط، ولا اظن ان عاقلاً يمكن ان يقع في مثل هذا الوهم. الشعر لا يُطعم أحداً، لا الشاعر ولا غيره، بل ربما يطعمه "قتلة". يقول زهير غانم في عرضه مجموعتك "قبر قاسم": "القلق المُدمر ينفي الروح ويغّربها في الزمان والمكان، وقاسم يحاول استعادة ما فقده"... ما الذي فقدته في حياتك، وإلى أين أودت بكَ السياسة؟ - فقدت أشياء كثيرة. ولكن أهم من الاشياء المادية المتمثلة في الاصدقاء وحال الامان والاستقرار، حال الفقد والاحساس الروحي بها. أما التفاصيل فقد نصادفها في كثير من تفاصيل حياة الآخرين، شعراء او غير شعراء. بالنسبة إلي، ربما كنت أشعر أن هذه الحال كانت تتفجر في ثنايا تجربتي الشعرية بصفة كونها تعبيراً مباشراً أو غير مباشر عن تجربتي الانسانية الكثيفة، ومن ضمنها التجربة السياسية، وهي في المناسبة لم تؤدِّ بي الى أي مكان، وهذه هي المشكلة. ربما لأن العمل السياسي العربي، النضالي خصوصاً، لم يكن يتميز بالحس الحضاري الذي يجعله ينقل الشخص الى زمان ومكان جديدين، بل الى زمان قديم، حتى انني اكاد اشعر بوطأة الماضي المعاصر من فرط الممارسة السياسية العربية الفاشلة. قلت مرة انني ربما كنت من بين اجمل الفاشلين، لأنني اعترف بأن فشلي في المشروع النضالي الذي قطف زهرة عمري كان نموذجاً صارخاً لقدرة الشاعر، بقوة الطاقة الشعرية، على هزم الفشل العام بانتصار الفشل الخاص، بمعنى انهم فشلوا في هزيمة الشاعر في داخلي، وهذا ما يجعلني قوياً في مواجهة الماضي. الدعوة الى المعرفة ما رأيك في عالم الاتصالات الحديثة، وأنت لديك موقع على شبكة الانترنت وتكتب الشعر على شاشة الكومبيوتر لا على الورق. فأنا ارى ان الشعر تحديداً او الفن عموماً لا يمكن ان يكون حقيقياً حين يتصل بالتكنولوجيا، لأنه يفقد صفته الاسنانية وعلاقة اليد بالقلم او الريشة، على نحو ما. ما رأيك؟ - ها انتِ تذهبين مباشرة الى الحقل الذي يقترح على الشخص الانساني ما من شأنه ان يهزم الموت بمعنى الفناء. تخيلي كائناً بشرياً يقدر في لحظة نادرة ان يتحول بفعل التقنية المفرطة في التعقيد سديماً في زرقة الفضاء الاعظم. من يقدر أن يقاوم هذه الرغبة في روح الشاعر؟ ومن يقدر على تفسير معنى أن يكون النص والشخص معاً في جزيئات هذا السديم سابحين في انتقال دائم ونهائي ممتزجين بالأبدية؟فكرة الانترنت وما يُبتكر هي وضع الانسان في مواجهة مصائر مختلفة عن مصائر الانسان المعروفة. ومثل هذه الوسائل الباهرة والفاتنة وغير المحدودة لن تكون ذات اهمية وفاعلية وجمال في المستقبل، إلا اذا تعامل الشعراء والمبدعون معها، بدرجة متقدمة ونشيطة من حريات الخيال وتجاوزه المفهوم البشري السائد. فمن ابتكر هذه الوسائل ليس غريباً عن الشعر والمخيلة المبدعة، لذلك سيكون من الخفة والاستهانة التعامل معها بحواس خاملة وثاوية وضيقة الأفق او بليدة الخيال، لذلك اجد نفسي منسجماً مع الدعوة إلى ضرورة المعرفة ببعدها التقني، خصوصاً بالنسبة إلى الشاعر المعاصر، وإلا فلن نكون جديرين بأننا نعيش هذه اللحظة الاستثنائية في تاريخ البشرية، التي تنسرب سريعاً من بين ايدينا كلما ابدينا الاستخفاف وعدم الاكتراث بما يحدث حولنا من تحولات خطيرة وجميلة في وسائل الاتصال والتعبير... وإلا كيف نستطيع ان نهيئ اولادنا وأحفادنا لمخاطبة الكائنات الجديدة التي تستعد متشوقة إلى الاتصال بنا في الكواكب الغامضة البعيدة؟ ليس لدى العرب سوى الشعر الجميل كي يرفدوا به خطابهم الانساني الشامل. انظري الآن كيف تريدين ان اقنعك بأن الاتصال بالتقنية الحديثة امر طبيعي ولا يجوز التخلف عنه اكثر مما فعلنا؟ ثم ها أنت ترفضين ترك الكتابة بالقلم لأن الكومبيوتر هو تكنولوجيا لا تليق بالفن والابداع. هل فاتك ان القلم هو ايضاً تقنية للكتابة؟ أليس في المراحل التي اجتازتها البشرية، وهي تطور آلية ادوات الكتابة، هي مراحل تقنية تتطور بفعل ابتكار الانسان؟! ألا ترين ان الفرق هنا يكمن في التسارع غير المحدود في آليات الابتكار وتطوير ادوات الكتابة وهو ما يقترح علينا تقنية جديدة تحقق قفزة نوعية خالصة ينبغي لنا الاكتراث بها وتقديرها بصفة كونها نعمة على الكاتب والكتابة لا العكس؟ إنني أسألك هنا لئلا اقترح مشاريع اجوبة تظل بالفعل قيد التحول في اللحظة التي ازعم انها معرفة ماثلة.