يمكن الدراس والسائح ان يعثرا في الاقطار العربية والاسلامية على الكثير من الخانات التي تشكل حلقة اساسية في تاريخ تطور العمارة العربية الاسلامية، وفي تاريخ تطور المنشأة التجارية الفندقية ونظم التجارة منذ ما قبل الاسلام حتى مطلع القرن العشرين، وفي امكان المنقّب في المصادر والمراجع ان يعثر على معلومات وافرة عن خانات كانت واندثرت لشتى الأسباب والظروف. بعض هذه الخانات، ولا سيما خانات المدن، يلقى عناية من حكومات وهيئات اهلية محلية وهيئات دولية، تتعهدها بالترميم، وتتطلع الى دور ثقافي لها، مختلف عن دورها التجاري الفندقي الذي انتهى وأخلى الساحة لدور الفنادق والمؤسسات التجارية الحديثة، فيما تُهمل الخانات الصغيرة المتداعية الباقية على طرق القوافل، لبُعدها من مراكز النشاط الثقافي، ولأنها متواضعة في احجامها وهندستها. وثمة خانات في المدن يتهددها الزوال لأن ترميمها يحتاج الى المال الكثير، او لأن ورثتها يتطلعون الى استثمار المساحات التي تشغلها في بناء عمارات حديثة. وفي المصادر والمراجع اخبار كثيرة عن خانات كانت وزالت لمصلحة شق طريق او توسيع مرفأ، وعن خانات تغيرت وجهة استعمالها ثم هدمت لاحقاً، ومن ذلك ما ذكره عصام شبارو في كتابه "تاريخ بيروت"، عن هدم خان انطون بك، وهو من اشهر خانات بيروت وأفخمها، وكان هدمه بعد سنة 1894، و"أصبح مكانه يعرف بشارع رصيف الميناء" ص214، وما ذكره حسان حلاق عن تحول الكثير من خانات بيروت الى دور سينما في عهد الانتداب الفرنسي "بيروت المحروسة"، ص95. الخان لغة يقتضينا البحث - ابتداءً - تعريفاً لغوياً بالخان يمليه ما نشأ من خلط اصطلاحي بينه وبين الفندق احياناً، وبينه وبين القيسارية او القيصرية احياناً اخرى، وهو خلط ربما نشأ عن وظائف متشابهة بين هذه المنشآت الثلاث ليست هي - على اية حال - وظائفها كلها، وإن صحّ القول - من قبيل المجاز - ان خان الأمس هو فندق اليوم. والظاهر ان مصطلح الخان لم يستقر على معنى المؤسسة التجارية الحرفية الفندقية إلا في العهدين المملوكي والعثماني، فهذا ابن منظور الذي عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين 630 - 711، يبدو متردداً في القول بوظائف الخان المعروفة، فهو عنده: "الحانوت او صاحب الحانوت، فارسي معرب، وقيل: الخان الذي للتجار". ولكن التعريف يقطع بأن المصطلح مقترض من الفارسية، في صورة ترخيم، إذ هو في الأصل "خانه" بهاء غير ملفوظة، فيما الخان رتبة يبلغها القائد انظر معاجم اللغة الفارسية. إذاً، فالمصطلح تطور مع الزمن ثم استقر، بدليل ان من اسماء الخان في القرن الرابع الهجري "التيم"، وتحديداً في منطقة "ما وراء النهر" كما يذكر المقدسي نقله عنه آدم متز في "الحضارة العربية الاسلامية في القرن الرابع الهجري": 2/387، وبدليل تدرج الخان حتى في العصرين المملوكي والعثماني "من كلمة الدار التي أطلقت في البداية على منازل المسافرين في كل من سورية والعراق في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي الى "دار الوكالة" التي ترادفت مع "سراي القوافل" في داخل المدن خلال القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي ثم الى كلمتي الفندق والقيسارية اللتين شاعتا خلال القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي حتى حلّت كلمة الخان محل كل الكلمات السابقة على أبنية المسافرين داخل المدن عاصم محمد مرزوق: "معجم مصطلحات العمارة والفنون الاسلامية"، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2000، ص92. ويبدو لنا ان الخان نفسه اختلف في المدن عنه على طرق القوافل، وأن الجامع بينهما انه مكان لإقامة المسافرين من التجار، فالخانات في المدن - كما يفهم من اضافتها الى الحرفيين والحرف كخان الخياطين وخان الصابون في طرابلس، او اضافتها الى نوع السلعة التجارية كخان الرز في صيدا - كانت لإقامة المسافرين وتخزين بضائعهم وإيواء دوابهم، كما كانت مقراً للحرفيين ومحترفاتهم ومنتوجاتهم، فيما كانت خانات طرق القوافل مأوى للتجار المسافرين ودوابهم فحسب، ففي المصطلح الأثري المعماري كان الخان "عبارة عن نزل للاستراحة على طرق القوافل المختلفة بين المدن او عند مداخل اسوارها" عاصم محمد مرزوق، المصدر السابق، ص91. كذلك اختلف المصطلح بين منطقة وأخرى، فالفندق "الذي تشابه في وظيفته وتخطيطه مع الخان ... اصطلاح شاع في الشمال الافريقي للدلالة - في معنى الخان ذاته - على نزل اعد لإقامة الانسان والحيوان، وكان يتكون من فناء اوسط تحيط به من الجهات الأربع ابنية ذات طابقين، خصص الأرضي منها لإيواء الدواب الناقلة للمسافرين وتجاراتهم، بينما خصص العلوي الذي كان يشتمل على رواق يدور حول الصحن به مجموعة من الطباق السكنية الصغيرة لإيواء التجار والمسافرين" نفسه، ص92. إن هذا النص يضعنا امام الخان لا الفندق، وإن بدا ان مصطلح الفندق ذي الأصل اليوناني او اللاتيني عرف ايام الأيوبيين، فقد "ظهرت كلمة الفندق لأول مرة في نص منقوش فوق باب مدخل فندق العروس الذي شيّده الناصر صلاح الدين سنة 577ه/ 1181م بالقرب من بلدة القطنية على طريق القوافل بين حمص ودمشق" نفسه، ص92، وفندق العروس هذا - كما يبدو لنا - اقرب الى فنادق اليوم منه الى الخانات، اذا جاز لنا ان نستنتج من اسمه انه استضاف العرائس، وإن كنا لا نملك حججاً قاطعة ندافع بها عن هذا الرأي. يبقى ان نتلمس الفروق ما بين الخان والقيسارية، وهذه الأخيرة اقرب الى ان تكون سوقاً، مع وجوه شبه في بعض التفاصيل المعمارية والوظائف بينها وبين الخان. فالدكتور عاصم محمد مرزوق يعرّف القيسارية بأنها "عبارة عن سوق تجاري يتكون من عدة عناصر معمارية تنحصر في فناء مستطيل يتم انزال البضائع فيه يتوسطه مسجد صغير لتمكين التجار من اقامة شعائرهم الدينية، وفي حواصل تدور في جوانب هذا الفناء لتخزين البضائع المختلفة، يتكون كل منها من غرفة مستطيلة يغطيها قبو نصف اسطواني، وقد تكون هذه الحواصل من طابق واحد او طابقين، وغالباً ما كانت ابوابها ذات مصراع خشبي واحد تعلوه نافذة صغيرة لإضاءة الحاصل وتهويته عند غلق الباب، كذلك كان كل حانوت من حوانيت عرض البضائع وبيعها عبارة عن غرفة مستطيلة تفتح على الشارع الذي يسلكه الناس" "معجم مصطلحات العمارة والفنون الاسلامية"، ص246. ان مقارنة هذا الوصف بالوصف الذي سنورده لاحقاً للخان، يظهر اختلافاً جوهرياً بين مؤسستين: قيسارية اقرب الى السوق وخان اقرب الى الفندق. وفي الامكان حصر اتفاق الخان والقيسارية في الوجوه الآتية، انهما: لتخزين البضائع، ولإقامة التجار، وأنهما وجدا في المدن، وكان كل منهما من طبقة واحدة او طبقتين، اما اختلافهما فيمكن حصره في ان القيسارية مجموعة عناصر معمارية فيما الخان عنصر معماري واحد، وأن القيسارية سوق او مخازن مفتوحة على سوق، فيما الخان مخازن ومحترفات، اي ان وظيفته تعدّت التجارة الى التصنيع، وأن الخان كان لإيواء الدواب علاوة على اقامة التجار والحرفيين، وأنه كان في المدن كما كان على طرق القوافل وهو ما لم تكنه القيسارية التي وجدت في المدن فحسب. ولنا في المصادر والمراجع القريبة شواهد على ان الخان غير القيسارية، فهي غالباً ما تعطف القيسارية على الخان بما يعني وجودهما مختلفين في وقت واحد، ومن ذلك قول الأب حنانيا المنير في حديثه عن انجازات الشهابيين: "اقام الأمير ملحم خان الملاحة، والأمير يوسف قيسارية الصاغة، الخ..." الدر الموصوف في تاريخ الشوف، ص51، او قفوه في حوادث سنة 1792: "حدث حريق في دمشق الشام ... فاحترق به كثير من القواسير والخانات" نفسه، ص104. غير ان صلاح الدين المنجد يخلط في الأربعينات من القرن الماضي بين الخان والقيسارية، في حاشية على كتاب "الباشات والقضاة في دمشق" لمحمد بن جمعة المقار، فيقول ان والي دمشق اسعد باشا بن اسماعيل باشا الذي توفى سنة 1163ه "عمّر بدمشق قاسارية" ثم فسّر "القاسارية" بين قوسين بالخان ولاة دمشق، حاشية ص69. مع ذلك فأكثر المراجع يفرّق بين المصطلحين، ولكن يخطئ الدكتور عصام شبارو في تعيين تاريخ الخان عند العرب، فالخان عنده "يطلق عند الاتراك على الفندق وعنهم اخذه العرب" تاريخ بيروت، ص177، فيما يعتقد ان الخان ثمرة احتكاك بين العرب وأمم عدة منذ ما قبل الاسلام. إلا اننا نعثر - ما دمنا في حديث اللغة - على مصطلح "الخانجي" في بيروت ايام العثمانيين، وهي اضافة اللاحقة التركية "جي" الى الخان، وكان النزيل "يدفع للخانجي اجرة المقيم وأجرة دوابه" حسان حلاق، "بيروت المحروسة"، ص95. الخان ثمرة احتكاك حضاري يصعب الاتفاق مع مي مكارم "الحياة"، 24/5/1991 على ما ذهبت إليه من أن "العمارة التجارية الاسلامية التي اطلق عليها اسم "الخان" كانت النموذج الهندسي الوظيفي الذي جعل العرب سبّاقين في ابتكار هذا القطاع العمراني وتصميمه"، وربما وافقناها الرأي لو اكتفت بالقول ان الخان "كان النموذج الهندسي" من دون "الوظيفي"، وقالت بأسبقية العرب، لا بمعنى الأسبقية في الزمن، بل بالمعنى الذي نُضمّنه حديثنا عن عمارة عربية اسلامية، ندرك - مع ذلك - انها تمثلت عناصر العمارة الشرقية والغربية، وصاغتها في قالب عربي اسلامي جديد متميز. ان طريق الحرير، التي عُدّت اطول طريق تجارية في العالم القديم، تسمح بافتراض ان الخانات كانت موجودة لخدمة التجار المسافرين. والأرجح ان الخانات كانت موجودة قبل الاسلام في بعض المناطق العربية، ولا سيما المناطق القريبة من تدمر. فهذا جواد علي يشير في مفصله 3: 137-138 الى ما ذكره المؤرخ اسطيفانوس البيزنطي عن منطقة يُظن انها "البخراء" وعن خرائب "هي في زمننا خرائب تقع على ستة وعشرين كيلومتراً الى الجنوب من تدمر"، وهو ما يعارضه موسل، ويرى ان الموقع "هو المكان المسمى ب"خان عتيبة" الواقع على مسافة تزيد على مئة كيلومتر في جنوب غرب البخراء"، اضافة الى ذكر المؤرخين "خرائب خان المنقورة" و"خان التراب" و"خان ابو الشامات". ولا نبلغ القرنين الثالث والرابع الهجريين حتى نعثر على ما يقطع بأن الخانات صارت شائعة في الامبراطورية العربية الاسلامية، الأمر الذي يمكن ردّه من دون عناء الى التطور التجاري في زمن هذه الامبراطورية. فالطبري مثلاً يشير في اخبار سنة 241ه. الى ان السنة المذكورة "فيها ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد ضرب فيما قيل ألف سوط" تاريخ الطبري، طبعة مكتبة خياط: 3/1424. ويشير آدم متز الى الكثير من خانات القرن الرابع الهجري، ومن ذلك ان والي عضد الدولة على الجبل وهمذان والدينور ونهاوند وأسد آباد بدر الدين بن حسونة الكردي "استحدث ... ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء" تاريخ الحضارة العربية الاسلامية في القرن الرابع الهجري: 1/67، ثم ينقل عن ابن حوقل المسالك والممالك قوله: "وقلّ ما رأيت خاناً او طرف سكة او محلة او مجمع ناس الى حائط بسمرقند يخلو من ماء جمد مسبّل" متز: 2/277. ويتحدث آدم متز عن الانقلاب الحاصل في موقف العرب المسلمين من التجارة والتجار، إذ "أحدث القرن الثالث في هذا الباب انقلاباً كبيراً، فلما جاء القرن الرابع اصبح التاجر الغني هو ممثل الحضارة الاسلامية ... ففي اواخر القرن الثالث لم يترفع بدر بن حسنويه ورد أعلاه: بن حسونة ... عن ان يبتاع خاناً بمدينة همدان ويفرده باسمه، ويقيم فيه من يبيع ما يرد من الأمتعة المختارة في اعماله" 2/370. ويستفاد من حديث آدم متز عن الاسواق في المملكة العربية الاسلامية، وبُعد الواحدة منها عن الأخرى مسافة يوم، ان خان طوق كان يبعد مسافة ست مدن عن سوق عسكر خوزستان 2/386، كما يستفاد ان الأثر الغربي في الخانات العربية الاسلامية، التي ربما سميت فنادق ايضاً، كان لا يزال موجوداً في القرن الرابع، ففي غرب المملكة الاسلامية "لم يكن هناك فنادق إلا للتجار الغرباء، وكانت اشبه بالأسواق الكبيرة، وكانوا يضعون بضائعهم في اسفلها، وينامون في اعلاها، ويغلقون غرفهم بأقفال رومية، وكان يطلق على هذه الأسواق اسم الفنادق، من الكلمة اليونانية Pandokeion" 2/387، ونحن نلاحظ ان وصف الفندق هذا يطابق وصف الخانات الباقية في لبنان مثلاً، كخان الافرنج في صيدا او خان الصابون في طرابلس. وثمة اشارات مبكرة الى اتجاه الخانات نحو التخصص في القرن الرابع. فآدم متز ينقل عن المقدسي انه "كانت توجد خانات او مخازن كبرى، كدار البطيخ بالبصرة، حيث كانت ترد جميع اصناف الفاكهة" نفسه: 2/387، كما ينقل مصطفى جواد "في التراث العربي": 1/91-92 عن الخطيب البغدادي تاريخ بغداد، ج1، ص102 خبر ورود رسول الروم على الخليفة المقتدر سنة 305ه، وإدخاله "من دهليز باب العامة الأعظم الى الدار المعروفة بخان الخيل وهي دار اكثرها أروقة بأساطين رخام"، ولعل هذا الخان كان جزءاً من دار الخلافة، الأمر الذي يفسر قيام أروقته على اساطين رخام. وتظهر العناية بالخانات في القرون التالية، في بغداد خصوصاً، فالدكتور مصطفى جواد نفسه: 1/55-56، ينقل عن غياث الدين عبدالله بن فتح الله البغدادي قوله: "واتفق في زمان السلطان أويس في القرن السادس عمارة عظيمة لم تتفق في دور احد السلاطين مثلها، منها المدرسة المرجانية ودار الشفاء وأسواق خانات عمرها مرجان أقا"، وفي القرن السابع "ازدهر بناء هذه الخانات في العصر الاسلامي خلال القرن السابع الهجري 13 ميلادي في كل من سورية وإيران والأناضول عاصم محمد مرزوق، ص91، ولا شك في ان هذا الازدهار الذي استمر حتى مطلع القرن العشرين انما ارتبط بالازدهار التجاري، خصوصاً في عهد المماليك، وبرُقيّ العمارة العربية الاسلامية، وإن كنا نلاحظ، بالمعاينة الميدانية، ان الخانات افتقرت عموماً الى العناصر الزخرفية التي شاعت بكثرة في العمائر غير التجارية. * باحث لبناني في شؤون التراث الشعبي.