ضمّ العدد السادس من مجلة "الطباعة" تصدر عن نقابة الطباعة في لبنان باقة من تحقيقات ومقالات متنوعة ومنها: رحلة الى الأراضي المحررة الإعداد والتصوير: مراد مزرعاني، لقاء مع امين الباشا أجراه فردريك معتوق، الطباعة اللبنانية مطلع القرن الحادي والعشرين: أية مشكلات، أية آفاق؟ إعداد جلال الأمين، حين بدأت الطباعة العربية في أوروبا محسن أ. يمين، طبعة القرآن الكريم الأولى كمال فخري، عولمة وسائل الاتصال انطوان كرم، داود القرم: مؤسس مدرسة الرسم اللبنانية وائل كريم... وفي بحثه عن طبعة القرآن الأولى يكتب كمال فخري: متى ظهرت الطبعة العربية الأولى من القرآن الكريم؟ تصعب تماماً الإجابة عن هذا السؤال. فبعد اكثر من قرنين على اكتشاف الطباعة اواسط القرن الخامس عشر، لم تكن برزت الى العلن اية طبعة عربية من القرآن الكريم. كانت هناك الطبعة الأولى من القرآن الكريم باللغة اللاتينية التي طُبِعت في بال في سويسرا عام 1543، وفقاً لترجمة - مخطوطة - كان قد وضعها الإنكليزي روبرت كيتينينسيس قبل ذلك التاريخ ب400 عام! أي تماماً في العام 1143، وهي ترجمة لا تتصف بالكثير من الدقة. اما الطبعة الأولى بالعربية فتكتنفها التكهنات ويحيطها الغموض. فثمة كلام على طبعة اولى تمت في مدينة البندقية بين آخر القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر. ولكن لم تظهر هذه الطبعة الى العلن حقاً وليس من دليل قاطع عليها. والدليل الأوحد على وجود هذه الطبعة هو ما ذُكر عنها في كتاب صادر في بافيا في ايطاليا عام 1593، حيث يتحدث المؤلف امبروزيو تيزيو عن طبعة للقرآن الكريم بالعربية نفّذها باغانيني في المرحلة المذكورة أعلاه. والكتاب الإيطالي الذي يتحدث عن هذه الطبعة نشر بعد ظهورها المفترض زهاء 100 عام، اي اواخر القرن السادس عشر. بينما ليس من ذكر لهذه الطبعة اطلاقاً لدى الكتّاب الذين عاصروها، وهو أمر غريب. اما أن هذه الطبعة لم تكن موجودة قط، وإما تمّ رفضها من السلطات المسيحية فجرى التعتيم عليها. ولكن كيف يمكن ان يكون هذا التعتيم كاملاً، في زمن النهضة الأوروبية، حيث برز العقل النقدي ولم تعد اوروبا تحت الهيمنة الأحادية للفكر المسيحي كما كانت عليه طوال القرون الوسطى؟ مهما يكن من امر، كان لا بد من انتظار العام 1694 - أي أواخر القرن السابع عشر، وبعد مرور 239 عاماً على اكتشاف المطبعة - حتى تظهر في مدينة هامبورغ الألمانية الطبعة العربية الأولى المعروفة من القرآن الكريم. وقد تمت هذه الطبعة على يد القس البروتستانتي العالم ابراهام هاينكلمن. لماذا هذا الموعد التاريخي المتأخّر؟ لا بد من العودة الى هذه الطبعة الأولى نفسها لفهم الأسباب، خصوصاً العودة الى المقدّمة الطويلة التي وضعها القسّ هاينكلمن لتبرير إقدامه على طبع القرآن الكريم. فهو يجيب عن الاعتراضات التي يمكن ان يوجهها إليه معاصروه الأوروبيون، ويحصر هذه الاعتراضات في ثلاثة منها اساسية في نظره. الاعتراض الأول، هو ان معرفة اللغة العربية تقتصر على نفر ضئيل جداً من المتخصصين في اوروبا، مما لا يبرر الجهد الهائل المبذول لتحقيق هذه الطبعة. ولا بد من التذكير في هذا المجال بأن التعليم في اواخر القرن السابع عشر، كان محصوراً في قلة ضئيلة من الناس في مجتمعات اوروبا، وكانت تقتصر القراءة والكتابة على طبقة النبلاء والإكليروس الأعلى وبعض البورجوازية الصاعدة. اما الاعتراض الثاني الذي كان يتوقعه هاينكلمن من معاصريه، فيقوم على القول بأن طبع القرآن الكريم ليس من الأولويات التي يجب ان تبرز لدى لاهوتي مسيحي مثل هاينكلمن، فلماذا هذا الاهتمام لدى راعي مدينة هامبورغ؟ ثم الاعتراض الأخير هو ان هذه الطبعة الأولى كان يمكن ان تتحلى بفائدة حقيقية لو رافقت النص العربي ترجمة للمعاني أو تعليقات أو شروح تجعل النص مفهوماً أكثر، فتتسع دائرة الاهتمام به. وبعد ان يذكر هاينكلمن هذه الاعتراضات الثلاثة المحتملة التي ستواجهه، ينصرف الى الرد عليها في قرابة ثمانين صفحة من مقدمة طبعته. وهو يركّز في الواقع على الاعتراض الأول، اي الفائدة من طبع القرآن الكريم في بيئة لا يعرف اللغة العربية فيها إلا نفر ضئيل من العلماء. وفي معرض ردّه، يُظهر هاينكلمن ثقافته الموسوعية ومعرفته باللغات العربية، والعبرية، واليونانية، فضلاً عن معرفته باللغة اللاتينية التي كانت هي لغة المثقفين الأوروبيين آنذاك. ويذكر الكثير من الأسماء، من غريغوار دو تور الفرنسي الى فرجيل الروماني، مروراً بابن ادريس والزمخشري، ومروراً بالعالمين اللبنانيين جبرائيل الصهيوني وابراهيم الحاقلاني وهما من كبار خريجي المعهد الماروني في روما. وينحصر ردّ هاينكلمن في المقولة التالية: إنه أقدم على طبع القرآن الكريم بهدف علمي، ولأن معرفة القرآن هي شرط ضروري لمعرفة اللغة العربية معرفة دقيقة. وإذا كان من إضاءة تحملها مقدّمة هاينكلمن فهي انه حتى في اواخر القرن السابع عشر، وبعد مرور 239 عاماً على اكتشاف الطباعة في اوروبا، وبعد قرنين من انطلاق النهضة الأوروبية والعقل النقدي، لم يكن من السهل طبع القرآن الكريم في اوروبا. وأن المعوقات الثقافية واللغوية والدينية كانت لا تزال من القوة حيث تبدو طبعة هاينكلمن ثمرة جهد فردي لرجل فريد في شغفه بالعلم ومحبّته للغة العربية.