الحب يدعوكِ: لو لم تكن قد وجدتني لما فتشت عني باسكال قلت: أتدري المرأة وهي على ليالي الأربعين انها قد تفقد الحب؟ 1. لا تزال تعيش مع الرجل - رجلها - هي له وهو لها، منزل واحد، سرير واحد... وإذا هجرته وهجرها، وكل منهما لا يزال يرغب الآخر؟ ما هم! في الحالين صارت بينهما مسافة. وَلِمَ لا تكون لغيره؟ "لا تدخلنا في التجربة". هي الثمرة المحرمة تلازم الحب، تدخل عليه بعداً جديداً هو الإمكان، تلي الذاكرة: أن تكون الأمور غير ما كانت - وما ستكون - عليه. وقد بلغت سن النضج، وهي ترفضها كبرت وقررت العودة I - 27 2 عندما تغلق الباب... يخفق قلبي للحظة هدوءٍ وحشي أعيشها حين تخونني ذاكرتي وتستحضرك طرياً أشم، أتألم، أندهش، أجرؤ ولا أجرؤ فأموت I - 64، 66 - 67 "أيطيب لكم يا سادة ان تسمعوا قصة عن الحب والموت" 3 ليس كل رجل تريستان، كل امرأة ايزولده لكأنها وحدها شربت الأكسير، فخانت الملك زوجها العتيد وقررت ان تموت. المرأة تعيش جسدها، وحين تعطيه تعطي ذاتها كلها. "لا أعرف عمقه/ الفرح الذي يعبر/ وحيدة وارتميت/ ومضة... ثم ومضة/ جلدة... ثم جلدة وجف/ حتى لم أعصره ثوبي" II - 51. المعادلة الصعبة أهوَ جوهر المرأة ان تنتظر؟ 4 ربما، على الأرجح، وما عساها تنتظر؟ وإذ تنتظر، تتذكر وتتوقع وتُسقِط، تود لو تستطيع اسقاط الذاكرة "ليس للروح ذاكرة دوماً طرية ومندهشة" وتُسقِط مع الذاكرة التجربة، كي تُحرق أصبعها مرة بعد مرات I - 5 "بلا حب/ لا يحيا المرء ينتظر/ بلا حب/ لا أنتظر" III - 39 وتلك هي المعادلة: الانتظار يحيل الى الحب والحب يحيل الى الانشطار. يوماً تفرض الذاكرة نفسها عليك، بعد الأربعين، بعد الخمسين، يعود الماضي، يجب ان يصير حاضراً "حوادث... أسرار... أسماء. موتى أحياء / أشواق شجن ابتسامة / منحتني الثقة القليلة... بالآتي القليل... الذي أنا" III - 104 - 105 ويبدو لي ان عبقرية هالا محمد الشعرية تقوم، في مجموعاتها الثلاث، على ان تُسقِط الذاكرة والذكريات لتلتقط لحظة تُفلِت منها قبل ان تحاول التقاطها. تلك هي لحظة الحب حاضرة غائبة. ليست لحظة اللذة الجسدية - لا اياها ولا غيرها - الحب هو هي وشيء آخر هو الحب. "قبلة في جنة اللذة أطفأ الحب الضوء أصغيتُ اليه بكل ما أملك بثيابي بخزانتي بنافذتي بجدراني فاحترقتِ العتمة" II - 67 - 69 لقد تبخر الحب "ذروة الحب الوداع حين العين بالعين حتى تبتل عشبة القلب" II - 78 المجموعة الثالثة بعد سبع سنوات من الأولى، الخمسينات تطل من بعيد، صارت أقدر على امتلاك جسدها، سلوكها، انفعالاتها... وأقدر على أداء حياتها. مع العمر، الرغبة بالاستقرار "كامرأة مستقرة افتح نوافذي على نوافذ الجارات اظهر قليلاً بقميص نومي خلف الستائر الشفافة أغلي قهوتي على نار هادئة" III - 101 وأيضاً، / "مبارك بيتك امرأة / تشعر كل يوم / كل لحظة / في كل غرفة فيه / على كل فراش / على كل أريكة / انها أم" III - 91 والحياة الرتيبة "مبارك بيتك / ساعة الحائط تعد الوقت / دقيقة... دقيقة بالتساوي" III - 92 تساوى عندها الرجال والأوطان "الرجال / الذين عاشرتهم/ ... كالأوطان / التي أحمل جنسياتها / ... / للجميع" III - 93 لا بد من الحب "بلا حب لا يحيا المرء ينتظر" III - 39 ولكن هل أحبت حقاً؟ "سيؤذيك قلبك من اللذة لذة لم تعرفيها أنتِ لم تحبي بعد قليل من الملذات هزَّت حياتكِ القادم منها مربك" III - 165 تلك خيبة الأمل ترافق الحب، تلحق به عندما لا يكتمل، عندما يبقى في حدود الجسد. وتلك حاله في العادة. "تعيدني الخيبة الى بيتي، تخلع عني ثيابي تنام في سريري وأنام في حضنها" II - 32 - 33 يلي الشعور باقتراب الموت "صرخ في جوفي إذ رآني متُ هزّني جسد بلا أمل" III - 50 صار الحب بقايا نرميها "خطىً ابتسامات أحاديث دموعاً حاجات" III - 136 مرة واحدة تستيقظ فيها العدوانية يغلي الشر في عروقي ينثر جسدي ارتجافات ارتجافات ترغو شتائم في فمي كتيار يتشهى تعذيب الآخرين... وتدميرهم" III - 62 تود لو تنسحب من هذه الحياة "جسد جاهز للفرار الخفيف بلا كلام، بلا أحلام، بلا قلب، بلا قصد" III - 99 ذلكم هو ثمن مغامرة الخروج من الطفولة "خرجت من طفولتي دون زوَّادة، دون قبلة، دون عنوان كمن يواجه أحلامه غداً" III - 109 الا ان الحياة ذاتها متعة "ان تجلسي أمام البحر / تسترخي كمياهه / تدعي الزرقة تقودك / ستقودك الى سعادة لم تعرفيها / خسائرك افصليها عنك / ارميها في هذا البحر / تكتملين وتهبطين الى قرارك / كائناً بلا هموم" III - 165 - 167 وتختم المجموعة الثالثة "قليل من الصبر يكفي هذا القليل من الحياة" III - 170 هل الشعر سيرة ذاتية؟ قالوا: لا يكتب المرء الا ذاته. قلنا: على الأخص في الحالات الحدِّية، فعندما اعتقد محمود درويش ان التدخل الجراحي قد يودي به، صاح: "تقول ممرضتي: كنتَ تهذي طويلاً وتسألني: هل الموت ما تفعلين بي الآن أم هو موت اللغة؟" جدارية محمود درويش، ص 67، طبعة ثانية، نشر رياض الريس قلتُ: أيوجد الحب خارج اللغة التي تقوله؟ وبمعزل عن الجسد الذي هو مطرحه؟ "ما قيمة الروح إذا كان جسمي مريضاً" المرجع ذاته، ص 65 وبدونها هي التي تبادلني الحب مع القبل؟ "مَن أنتَ يا أنا؟ في الطريق اثنان نحن، وفي القيامة واحد خذني الى ضوء التلاشي كي أرى صيرورتي في صورتي الأخرى... فمن سأكون بعدك يا أنا؟" المرجع ذاته، ص 44 - 45 قلت وأنا أراجع مجموعة هالا محمد الأولى: الحب عند المرأة هو بادئ ذي بدء صراعها مع جسدها، وعندما ينتقل الى مستوى التعبير يسقط الذاكرة التي تغذيه بالأحاسيس والصور ليعيش في الآن، طفولة المرأة، وجدها الذي لا يقاوَم. "لا الثواب ولا يوم الحساب بقادرين على شفاء امرأة غرَّقها الوجد..." I - 72 والموت الذي صار، بعد الأربعين بُعداً من أبعاد تجربة الجسد. المجموعة الثانية تعمِّق الأولى إذ تضيف اليها بعدين آخرين الحلو والواقع، الذاكرة والفعل، وثالث، المتعة وخيبة الأمل "يوقظني الحلم كل يوم تلبسني الذكرى أحلى ثيابي النجاح يمسك بيدي يعبر بي يفتح لي باب النهار وألقي بنفسي... فتعيدني الخيبة الى بيتي وتستعد للحاق بي" II - 32 - 33 ويطول انتظار لحظة الحب التي لا بد منها والتي لن تأتي أبداً... ها هو البحر يحدثني. "خسائرك أفصليها عنك، ارميها في هذا البحر فلستِ أكثر حكمة من لحظة البحر هذه، تهبطين الى قرارك كائناً بلا هموم لا تخشي وحدتكِ هي... سبب سعادتك" III - 165 - 167 تلك هي مجموعة هالا محمد الثالثة، صارت قليل من الحياة يكفيني، "طالما وددت مجرد الجلوس من وجهة نظري على شرفة انتمائي للحياة"! III - 121 الحب هو فائض الحياة عن ذاتها، معه يطل المرء على المصير. كل حياة بحث عن الحب، مع الشاعر شعراً، مع المنشد انشاداً... مع الشابة والشاب بحثاً كل منهما عن الآخر، وعن مجانية العطاء. يخبو الحب، فالحياة شحيحة. قلت: بعد الأربعين يصير الحب سؤالاً، على ليالي الخمسين؟ قرار الى الأمام. لقد ظنت هالا محمد انها وجدت في الحياة بديلاً عن الحب الذي لا بديل عنه. فمجموعتها الثالثة محطة على درب طويل ونحن في انتظار الرابعة... قال: أين الحب؟ أهو في اللغة التي تقوله؟ أم في الجسد الذي ألقاه فيه؟ أم عند المرأة التي نذرت حياتي لها فكانت هي الأكثر عطاء. قال أفلاطون: وُلد الحب يوم احتفلوا بأفروديت، فهو اله Eros خادم آلهة الحب. الحب مقيَّد، الجمال قائم بذاته. قلت: يا سيدي أفلاطون العظيم، أليس الجمال أيضاً هو في الجسد وفي الكلام الجميل الذي هو أيضاً جسد؟ المأدبة هي صراعك انت يا سيدي مع الحب بحثاً عن الجمال، تلك سيرتك الذاتية. ولكل منا سيرته هي سيرورته مع الحب يرويها على طريقته، مع العاشق عشقاً، مع المفكر فكراً... لا كما هي ولا كما يريدها ان تكون. بل كما يقولها وهو يقولها. * كاتب سوري. 1 من كلمة غلاف مجموعة هالا محمد الأولى ليس للروح ذاكرة نشر وزارة الثقافة - دمشق 1994. 2 لهالا محمد ثلاث مجموعات I ليس للروح ذاكرة. II على ذلك البياض الخافت نشر المؤسسة العربية للدراسات 1997. III قليل من الحياة نشر رياض الريس 2001. 3 بداية سيرة تريستان وأيزوت في نسختها الفرنسية تقابلها نسخة بالالمانية حيث أيزوت تصير ايزولده. 4 جان جيتون، الحب الإنساني، نشر اوبية - باريس.