يقرّ الباحث الفرنسي دينيس دي روجمون في كتابه «الحب والغرب» (ترجمة عمر شخاشيرو صدر عن وزارة الثقافة في دمشق)، بمقولة المؤرخ شارل سينيوبوس «أنّ الحب من مخترعات القرن الثاني عشر» فأوروبا لم تعرف الحب والهوى إلا بشعر التروبادور الذي ظهر في جنوبفرنسا فجأة « كأنما هبط من السماء» ثم انتشر في القارة الأوروبية فهو بلا جذور أوروبية. ظهر بداية في اللانغدوك في قصائد غيوم ده بواتييه الذي أشاد «بالسيدة» وعارض الزواج من غير حب وأنكر الفجور ودعا للتعبد بالحب. وترافقت القصائد العاشقة وقتها بالهرطقة الكاثارية (الصفاء والنقاء) المانوية التي انطلقت من بلاد فارس. تكاثرت بعدها الهرطقات في ايطاليا وألمانيا القائلة بإلوهية النفس. بعدها بقليل ظهرت رواية «تريستان وايزولدا» الأسطورية التي تعتبر مرجعية أوروبا في الحب، وفشا التعبد للمرأة المثالية وكان من ثمارها إنشاء كهنة ليون «عيد الحبل بلا دنس» سنة 1140 للسيدة العذراء. ودعا رهبانها أنفسهم «بفرسان مريم». ثم انتشرت قصائد منظمات الفروسية الكورتيزية( كلمة اسبانية تعني بلاط الملوك والأمراء) المتغنية بالشعر العذري العفيف. يجد الباحث مفتاح لغز هذا الحب بعد عشرين سنة من النقاش في الشعر العربي الذي ذاع في الأندلس في القرن الحادي عشر خصوصاً في قرطبة ابن حزم وابن قزمان والمعتمد الاشبيلي. وبرهان ذلك رحلة الشاعر غيوم ده بواتييه إلى الشرق في الحملة الصليبية وتزوجه من امرأة اسبانية هي أرملة ملك من ملوك ارغون ووريثة كونتية تولوز فإن لم يكن قد اقتبس مذهب قرطبة الشعري فعلى الأقل اقتبس طرق التعبير عنه وهي في المنزلة نفسها من الأهمية. ثم يربط دي روجمون ذلك الحب بالحب الصوفي الذي ولد في الشرق على أيدي الحلاج والسهروردي الحلبي و ابن عربي في اسبانيا الذين أفضت بهم بدعهم في الحب إلى الهلاك. فمذهب الكاثار متفرع عن المانوية التي أثرت في المذاهب الصوفية (محمد عابد الجابري يشترك مع الكتاب في هذا التعليل في سياق آخر). الحب عرف عالمين هما الشرق والغرب أما الصينيون واليابانيون والهنود فلم يعرفوا من الحب سوى اللذة الجسدية ذلك لأنها شعوب لا تعرف التوحيد، كما أنهم لا يعرفون الذات الفردية فذواتهم متلاشية في المطلق والطبيعة. أضف إلى ذلك أنّ هذه الديانات لا تعرف الملائكة التي عرفتها الديانات الشرقية، فهي تجهل فكرة المرسال، أو عبارة يا «ملاكي». تبقى أسطورة تريستان وايزولدا المثل الأعلى لقصة الحب الغربية وفيها فاز الفارس تريستان بالأميرة ايزولدا ثم تنازل عنها لمليكه مارك إخلاصاً له، فتزوجها الملك، غير أن المحبين تريستان وايزولدا عادا إلى التواصل ثم اختفيا في إحدى الغابات دون أن يحول بينهما شيء وقد نال تريستان الأميرة بعد الشراب لكنهما عند النوم يحجز بين جسديهما سيف العفة وبعد ثلاث سنوات في المنفى أعاد تريستان ايزولدا إلى الملك فكان هذا الفراق حاجزاً جديداً يذكي من نار الهوى والجوى وقد تغلب الهوى في النهاية على كل العقبات (الأخلاق، والحق الزوجي، وحق المتبوع على التابع، والغيرة) ولم يبق سوى الموت الذي اجتازاه فجعلا حبهما خالداً. لا تاريخ للشعوب السعيدة، ولا حب من دون عوائق. لكنّ عقبات حضارة الشعر التروبادوري كانت كبيرة فالحملة الصليبية سحقتهم وتابعتها محاكم التفتيش و لولا تلك الحملة الدامية لما فاز هذا الحب بهذا النفوذ العجيب حتى أن الأدب المكتوب في أوروبا اعتنق الأسلوب التروبادوري وسمى دانتي صاحب «الكوميديا الإلهية» وأصحابه أنفسهم «بالأوفياء للحب» بل إنّ «منظمات الفروسية» طابقت بين أصول الحب وأصول الحرب، فالحب العذري تقابله المبارزات والحب العادي تقابله «حرب الدانتيل» في القرن الثامن عشر، وهوى الرومانسية الجامح تقابله المعارك الثورية التي قام بها نابليون وبقية الحروب القومية في القرن التاسع عشر، أما حروب اليوم الشاملة فليس له ما يقابله من أصول الحب. لقد انتهى الحب في عصر حروب الديجيتال. يحاول الحب دائماً أن يخترع لنفسه وسائل للتعبير عن جراثيمه، ففي عهد لويس الرابع عشر عبّر عن نفسه بالمسرح وفي القرن الثامن عشر عندما زالت الحواجز الأخلاقية احتلت شخصية دون جوان المسرح. ودون جوان نقيض تريستان. إن دون جوان هو بطل العصر الخلاعي الذي ظهر فيه روسو برواية «ايلويز الجديدة» التي هجا فيها عصر الخلاعة واستعاد عصر تريستان وبشرّ بالرومانسية في القرن التاسع عشر عندما سيطرت البورجوازية ورجحت كفة الجموع على الأفراد وسادت الآلة بأبشع مظاهرها فعاد الشعراء الألمان والإنكليز إلى التغني بالليل وتباريح الهوى من جديد (أوبرا تريستان لفاغنر). فيلسوف البورجوازية الجنسي فرويد رأى أنّ كبت الغريزة خطر على المجتمع، فتقهقرت بنظريته الرقابة على المجتمع وانتشرت الحوافز الشهوانية وعلى رغم أوقات الفراغ في المجتمع البورجوازي والتي يحتاجها الحب فإن الحب تراجع بسبب إهمال الروح فلا بد من أفق روحاني للحب. الديكتاتورية الهتلرية العرفية العسكرية تنطعت للقضاء على «الأزمة الأخلاقية» بالتطلع إلى فكرة الوطن الذي يرمز له الفوهرر فتّم تجريد المرأة من هالتها الرومنطيقية وأعيدت إلى وظيفتها الزوجية وولادة الأطفال وتربيتهم للحزب خلال أربع سنوات أو خمس ثم لجأت الهتلرية إلى تدابير تناسلية ففتحت «مدارس للخطيبات» لتزويجهن من مخابرات النظام ، والخطيبات شقراوات من دم آري بقامات طويلة لا تقل عن 173 سنتيمتراً فتكوّن في ألمانيا النازية نموذج للمرأة ترعاه «وزارة الدعاية». يقرر الكاتب أنّ تحرر المرأة (دخولها مجال العمل ومطالبتها بالمساواة) كان عاملاً كبيراً من عوامل الأزمة، وتدل إشارات إلى أن الأزمة تزداد عمقاً مع أبحاث يونغ الجديدة والإشادة «بالمرأة – الطفل» وأنّ التبشير المتكرر بثأر «الجوهر الأنثوي» على الأبوية وإعادة المجتمعات الاهتمام بالكاثارية ولكن بالمقلوب ومظاهر تكريم العذراء الجديدة في الكنيسة الكاثوليكية ، كل هذه علامات ، تمدد أزمات مجتمع مقهور ومريض بغياب الحب.