تقدم الشاب الفيتنامي هياو دين تيب بخطى ثابتة من الحارس الليلي لملهى "بارون" في وسط أوسلو، ثم أخرج، على حين غرة، مسدساً كان يحمله في جيب سترته وشرع يطلق النار على الحارس وزوار الملهى من دون توقف. لم يُقتل احد، ولكن الدماء تناثرت في المكان كله وتمدد الكثيرون على الأرض وقد اخترق الرصاص اجسادهم فأصيبوا بالجروح. كان هياو دين تيب قد جاء، قبل ساعة من الحادث، مصحوباً بثلة من اصحابه وقصد دخول الملهى. غير ان حارس الملهى رفض دخول اثنين من الرهط لأن أعمارهم تقل عن سن الحادي والعشرين، وهو السن القانوني لارتياد الملاهي. وغضبت المجموعة الفيتنامية الشابة وقررت، في ما يبدو، الانتقام. فانصرفت ثم اجتمعت وقررت "تلقين" الحارس درساً بليغاً. وأخذ هياو دين تيب على عاتقه إيصال الرسالة. وقد فعلها بفوهة مسدسه الذي جلبه في سرعة نموذجية. اعتقلت الشرطة شقيق هياو، إذ كان حاضراً اثناء عملية إطلاق الرصاص أما هياو نفسه فقد هرب وتوارى عن الأنظار. واختفى هياو مدة اسبوع كامل بحثت الشرطة عنه خلال ذلك في كل مكان. ولكنه عاد وسلّم نفسه وأقرّ بفعلته وأعرب عن الندم. وقال إنه كان تناول مواد مخدرة قبل إقدامه على ارتكاب جريمته. قبل هذه الحادثة كانت الساحة المركزية لأوسلو قد شهدت عملية اطلاق نار اخرى بدت شبيهة بما يحدث في أفلام الوسترن الأميركية. إلا ان ابطال العملية في اوسلو لم يكونوا اميركيين بل... باكستانيين. فقد وقفت وجهاً لوجه عصابتان من الشباب الباكستاني وراحتا تمطران بعضهما بعضاً، وقُتل واحد وجرح كثيرون. وقبل هذا وذاك بعام واحد كانت مجموعات شبانية من تايلاند وسري لانكا وفييتنام اشتبكت في "معركة حامية" بالعصي عصي البلياردو والقبضات في ناد للبلياردو في أوسلو. وسقطت في "المعركة" ضحايا كثيرة. هذه الأحداث، يضاف إليها ما يقوم به شبّان آسيويون مهاجرون في النروج من اعمال غير قانونية كالسرقة وتعاطي المواد المخدرة وبيع هذه المواد، باتت تشكل صورة بارزة تُلصق بالجماعات المهاجرة، من اصل آسيوي، التي باتت تغزو النروج أكثر وأكثر. ويلقي كثيرون اللوم على عاتق رجال الشرطة ويتهمونهم بالتقصير في كبح جماعات الفئات الشبابية التي تخلّ بالأمن وتخرق القانون. وللتدليل على ذلك يقول هؤلاء ان هياو دين تيب نفسه كان اقترف ستة وعشرين فعلاً جنائياً سجلها رجال الشرطة في دفاترهم وتركوه وشأنه في كل مرة. لم تكن فعلة إطلاق النار في الملهى، والحال هذا، سوى الذروة في سلسلة اعمال شائنة جعلها الشاب الفيتنامي بمثابة "هواية" يلتذ بها، بل "نشاطاً" يمارسه كمحترف. غير ان نفراً آخر من الناس يركزون الاهتمام على واقع هؤلاء الشبّان انفسهم باعتبارهم السبب وراء "تمردهم" وذهابهم في الطريق الخاطئ. فهم، انقطعوا عن جذورهم في أوطانهم الأصلية حيث تربّوا في مناخ مختلف وتشرّبوا عادات وقيم وسلوكيات تفترق عما هو متبع في مستقرهم الجديد. وقد أدى هذا الانقطاع الى إحداث تخلخل في نفسية هؤلاء وتمزق في شخصيتهم حيث بات من الصعب عليهم الحفاظ على وجهة سلوكية ثابتة ومستقرة. وآثار الماضي السلبية، التي ما برحت راكدة في اعماق هؤلاء، تظهر الى السطح وتنحو في اتجاه الانتقام مما كانت عليه الحال. وقد نشرت الصحف النروجية صفحات كاملة عن طفولة هياو دين تيب والحياة التي عاشها قبل قدومه الى النروج وحصوله على إذن الإقامة فيها إثر التقدم بطلب لجوء سياسي مع عائلته. لقد سجن الشيوعيون والده بتهمة التعاون مع قوى الاحتلال الأميركي وصادرت السلطات ما كان بحوزة العائلة من مصادر للرزق. واضطر هياو وأخوه، صغيرين، الى العمل كحمّالين في الموانئ يفرغون السفن من حمولاتها الثقيلة. ولم يتلق الأطفال التعليم كما لم يعرف اي منهم طعم الراحة ومسرات الطفولة ومباهج الحياة. كان العيش أشبه بالصراع في جحيم قاس. في النروج بدّلت الدنيا وجهها، وأصبح العيش شيئاً جميلاً. لقد حصلت العائلة على بيت وأثاث وكل المستلزمات التي تجعل الحياة رغيدة وميسورة. ولم يعد الأطفال، الذين صاروا شباناً مضطرين الى حمل الأثقال على ظهورهم. ولكن بالمقابل كان ينبغي على هؤلاء الدخول في مجتمع غريب والتفاهم بلغة لا يتقنونها والتعامل مع اناس يختلفون عنهم في الطباع والأفكار والقيم. هذا هو شأن اغلب هؤلاء الشبان المهاجرين والمنتمين الى قوميات مختلفة. ولكن لماذا يعمد هؤلاء الى خرق القانون وارتكاب الجرائم والظهور بمظهر فئة شيطانية تسبب الفوضى وتخلف الخراب؟ أليس الأولى بهم الانخراط في المجتمع الجديد الذي استقبلهم ووفر لهم المأوى والعيش الآمن؟ أليس الأفضل لهم، ولأسرهم وللمجتمع ككل، التكيف مع الواقع الجديد بدل رفضه وتقبل القيم والوقائع الجديدة عوض التمرد عليها؟ يقول الخبراء النفسيون، الذين امتلأت صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون بهم، ان ما يقوم به هؤلاء الشبان هو بمثابة نزوع في التأكيد على تمتعهم بشخصية مستقلة رداً على ماضيهم الذي كانوا فيه مسحوقين ومن دون شخصية. ويتخذ هذا النزوع مظهر العنف والإيذاء إزاء مجتمع يتردد في الإصغاء إليهم ويشك في أهليتهم للانسجام في نسيجه. والحال ان الجماعات الآسيوية وغير الآسيوية كذلك، المهاجرة الى النروج لجأت الى الاستقرار في مستقرات شبه خاصة تبدو فيها كمن يقطن في غيتوات معزولة. وبات الباكستانيون أو الفييتناميون أو السريلانكيون، وغيرهم، يملكون احياء خاصة بهم على وجه التقريب. ومن ينتقل الى حي غرونلاند في اوسلو يبدو كمن يدخل بلداً آخر لا يربطه رابط بالنروج. فالمحلات والأزياء والمطاعم والمآكل واللغات تنتمي الى عالم آخر غير ما يعرفه اهل النروج وفي كل زاوية ترتفع اللافتات بلغات اخرى مكتوبة بحروف غريبة. وأمام كل مطعم أو محل بيع اللحوم إشارة تؤكد ان "اللحم حلال". وتغزو العين والأنف ازياء وروائح صاخبة آتية من بلاد حارة وقاسية. ولن يعدم المراقب رؤية شبان يقيسون الشوارع طولاً وعرضاً أو يجتمعون في الزوايا يتداولون ما يعنيهم. وهؤلاء الشبان، بدورهم، علامة على الافتراق في الطبع والذوق عما هو سائد. فعلى رغم ارتدائهم ملابس تناسب الموضة السائدة واختيارهم اشكال شوارب وسوالف وخطوط اللحية الرفيعة فإنهم يضيفون الى ذلك ازياء تشير الى منابتهم وتفصح عن جذورهم. ولن يصعب على أي كان ان يحدد "الموطن الأصلي" لهؤلاء من شكل سراويلهم وطريقة "تضبيط" هندامهم. فيبدو كما لو ان لسان حالهم يقول ان ما في داخلهم من ماض راكد لا يريد تركهم في حال سبيلهم والعيش بموجب الفضاء الذي هم فيه في حاضرهم. ومن جهة اخرى، يبدو كما لو ان فئات الشبان من الجماعات المهاجرة المختلفة تنافس بعضها بعضاً في إثبات ذاتها والتشديد على أفضليتها للاستحواذ على الشارع. ويدخل الباكستانيون والأفغان في صراع الأولوية، مثلما يتبارز الفييتناميون والتايلانديون. بل ان في قلب الجماعة نفسها تنهض عصابات تتناهش وتتبارز، وهذا حال عصابتي "أ" و"ب" الباكستانيتين واللتين تخوضان صراعاً دموياً رهيباً. ويقوم هؤلاء بفرض إتاوات على اصحاب المحال من خلال ابتزازهم أو تهديدهم بعواقب الأمور. ولا تذهب هذه الاقترافات من دون ان تنعكس على مزاج النروجيين ومواقفهم ونظراتهم الى الأشياء. والحال ان اسوأ الانعكاسات تكمن في المظهر السلبي الذي بات لمجموع المهاجرين في أعين النروجيين. إذ يبدو لهم كما لو ان هؤلاء لم يأتوا سوى لبث الفوضى وتعميم الشرور ونشر الآفات وتوزيع الخراب. ويسهم هذا في انتشار وتقوية المواقف العنصرية الكارهة للاجئين اجمالاً. ويدفع اللاجئون والمهاجرون، في مجموعهم، ثمن السلوكيات الشائنة للمجموعات الشبابية الطائشة تلك. ويبدو الجميع في حيرة، وينهض امام الأنظار السؤال الكبير المتعلق بالكيفية التي يمكن من خلالها وقف هذه العصابات عن الاستمرار في ممارساتها وصولاً الى تفكيكها بالكامل وتخليص الناس من شرورها. وخاض المسؤولون في الحكومة النروجية في نقاشات طويلة للوصول الى صيغة مقبولة من شأنها ان تقضي على الظاهرة. واقتراح وزراء ونواب اصدار قانون يصار بموجبه الى طرد كل من يقدم على ارتكاب اعمال اجرامية حتى ولو أتى الى النروج منذ السنوات الأولى من حياته. ودخل رجال الدين في الجماعات المهاجرة، من مسلمين وبوذيين وسواهم، على الخط. وتظاهر خلق كبير من المسلمين باكستانيين وأفغان وعرب، ورفعوا عقيرتهم بالقول ان الإسلام ضد العنف والإجرام. ولكن احداً منهم لم يحر جواباً عن السؤال في كيف يلجأ هؤلاء الشبان الى الجريمة والعنف وهم ينتمون الى عائلات مسلمة. ولماذا لا تفعل عائلاتهم شيئاً إزاء سلوكهم الإجرامي. أو لماذا لا تعمد، على الأقل، الى التعاون مع الشرطة من اجل الحيلولة دون ذهابهم اشواطاً أبعد في ما يقومون به. وتبدو النروج في حال صدمة. وهي ترى ان ما باتت شوارعها تشهده من ممارسات عنيفة واقترافات جرمية لا تنسجم مع حجم المهاجرين واللاجئين الموجودين فيها. ومقارنة مع البلدان الأوروبية الأخرى ألمانيا، السويد، بريطانيا، فرنسا... تبدو النروج الأقل اكتظاظاً بهؤلاء. ومع هذا فإن انتهاكات القانون، التي أشرنا إليها وغيرها مما لم نأت على ذكرها، تتجاوز ما هو سائد في البلدان الأخرى. وهذا الأمر يدفع بالمسؤولين فيها الى تلمس الأسباب وشرح الدوافع، كذلك يدفعهم الى مراجعة القوانين السائدة. ورجال الشرطة انفسهم باتوا يتساءلون عما إذا كانت معاملتهم للمارقين لينة ومتسامحة اكثر من اللزوم. أما المنظمات المناهضة للعنصرية والمجموعات غير الحكومية فإنها تحذّر من ازدياد النزعات العنصرية بالترافق مع النشاطات الإجرامية والسلوكيات العنيفة التي يقوم بها الشبان المهاجرون. إن الجميع يبدون كما لو انهم يدقون ناقوس الخطر: من اجل ألا يظهر هياو دين تيب آخر.