تجلب العولمة معها - بين ما تجلب - إمكانيتين متناقضتين: وجود اشكال جديدة للتعبير والابتكار، وتهميش الثقافات الضعيفة. وبينما تتم الاستفادة من الفرص الجديدة التي تتيحها العولمة، فمن الضروري ضمان استفادة جميع الثقافات منها، إذ يمكن للعولمة أن تشجع الابداع والتفاهم والحوار المتبادل بين الثقافات والحضارات ومن ثم تساعد على الحد من التحامل الثقافي. ومن بين المخاوف من العولمة الإحساس بوجود تناقض متأصل بين حماية التنوع الثقافي وتطوير سوق عالمي. ما يجب هو العكس تماماً، أن يكون السوق قادراً على تشجيع التعبير عن الهويات الثقافية المختلفة، مثلما يكون التنوع الثقافي مصدراً للتطور الاقتصادي وايجاد وظائف جديدة، هنا نجد أنه من المهم تأكيد الروابط بين الثقافة والتنمية، وبين التنوع الثقافي والهوية القومية والديموقراطية واحترام حقوق الانسان، وفي هذا السياق تكون المنتجات الثقافية مجرد أحد جوانب التنوع الثقافي الذي يجب العمل على حمايته وتشجيعه. احترام التنوع الثقافي شرط اساسي لقيام مجتمع انساني متحضر، والتنوع الثقافي يتأثر بما يتأثر به المجتمع من عوامل كثيرة منها تطوير التقنيات المعلوماتية الجديدة والعولمة والسياسات التجارية متعددة الجوانب. وإذا كان للتنوع الثقافي أهمية في ما مضى، أتصور أن تزداد اهميته في بناء مجتمع يقوم على المعلومات والمعرفة في القرن ال21. هناك اعتبارات مهمة في ما يتعلق بالتنوع الثقافي منها: - يتم التعبير عن التنوع الثقافي في وجود وتبادل الانشطة المختلفة ثقافياً، وفي توفير واستهلاك الخدمات والمنتجات المختلفة ثقافياً. - لا يمكن التعبير عن التنوع الثقافي من دون شروط التعبير الابداعي الحر وحرية وسائل الاعلام. - يجب ان لا تضعف التطورات التكنولوجية قدرة الأجيال المقبلة على الوفاء باحتياجاتها في إنتاج وتوفير وتبادل الخدمات والمنتجات والممارسات المختلفة ثقافياً، وإنما تجب الاستفادة من هذه التطورات التكنولوجية في زيادة اشكال الخدمات والمنتجات الثقافية وتراثها. - ضرورة تكامل السياسات الثقافية التي تشجع وتحترم التنوع الثقافي والسياسات التجارية. - يلعب التنوع الثقافي دوراً اقتصادياً اساسياً في تنمية الاقتصاد المعرفي. - يجب أن يؤدي التوزيع العريض للمنتجات والخدمات الثقافية المختلفة وتبادل الانشطة الثقافية عموماً إلى تنشيط الابداع وثرائه. أذكر هنا أنه خلال المؤتمر الثاني للمائدة المستديرة لوزراء الثقافة الذي نظمته اليونسكو في كانون الاول ديسمبر الماضي في باريس، اعاد الوزراء على نحو يتسم بإلاجلال تأكيد الحاجة إلى احترام وحفظ وحماية وتشجيع التنوع الثقافي، على أساس انه المفتاح لمستقبل البشرية، وأشاروا خصوصاً إلى: - الحاجة الى التوفيق بين القوانين الاقتصادية والحقوق المدنية والاجتماعية والثقافية. - حقيقة أن السلع والخدمات الثقافية ليست مجرد سلع تجارية فقط، ولا يمكن إخضاعها لقوانين السوق على وجه الحصر. - مغزى العلاقات بين الثقافة والتجارة، مع الأخذ في الاعتبار الاسهام المهم الذي تقوم به الثقافة بشكل متزايد في اقتصاديات الدول، وفي هذا الصدد يتعين على المجتمع الدولي إيجاد بيئة تساعد على التبادل، في الوقت الذي يتم فيه تزويد كل شخص بالوسائل التي تتيح له المشاركة في ذلك. - خطر الموقف المؤيد لمذهب حماية الإنتاج الوطني بصورة زائدة، والذي يؤدي الى خنق الابداع والثقافة، وفي هذا المجال يكون الوعي العام اساسياً لايجاد استهلاك مستنير للسلع والخدمات الثقافية وبخاصة من طريق تمكين الشعب من فهم وتقدير الثقافات الاخرى. - الحاجة الى التضامن بين الدول الصناعية والدول النامية وبخاصة في ما يتعلق بالبنى التحتية ذاتية النمو وآليات انتاج ونشر الثقافات القومية. - مسؤولية السلطات العامة التي تستلزم الاهتمام بالمجتمع المدني والمشاركات الموسعة مع القطاع الخاص. إن الحفاظ على التنوع الثقافي يقتضي وجود توافق بين ما هو عالمي وما هو محلي حتى يتسنى لجميع مكونات مثل هذا التنوع أن تعبر عن نفسها، في الوقت الذي يتم فيه أخذ الاختلافات الخاصة بكل منها في الاعتبار كما ينبغي، ومن هذا المنطلق يرتبط الدفاع عن التنوع الثقافي بمسألة الديموقراطية، والاعتراف بالحقوق الثقافية للأقليات والجماعات الخاضعة للتمييز والسكان الأصليين الذين قد يمثلون الاقلية. مهمة إعادة التوافق هذه تقتضي اتخاذ اجراءات ملموسة من جانب الدول النامية، وبخاصة الدول الصغيرة التي تجد انه من الصعب سماع اصواتها في المحافل الدولية، ويجب تقديم المساعدة لها حتى تتمكن من انشاء اسواق محلية قابلة للبقاء والنمو عن طريق دعم الصناعات الثقافية الوطنية، وبالتالي مواجهة التنافس الدولي بتشجيع المزيد من الفرص المتكافئة لترويج السلع الثقافية، وهذا يتضمن الدعم المالي وكذلك التعليم والتدريب ونقل المهارات وتطوير الهياكل المؤسساتية. هذا ما يجب عمله في بداية القرن الواحد والعشرين، وما كان يجب عمله في بداية القرن العشرين كذلك!. ولا ادري لماذا لم يهتم احد، سواء على مستوى الحكومات أو في وسائل الاعلام وبخاصة العربية بالفكرة التي طرحت في مؤتمر وزراء الثقافة المشار اليه آنفاً، وهي فكرة إنشاء "حلف عالمي للتنوع الثقافي". وعلى رغم أن الفكرة التي قدمت تقتصر على دول الجنوب، إلا انني أراها تهم الجميع على السواء، متقدمين، ومتخلفين، اغنياء وفقراء. فأنا لا اظن ان الفرنسيين سيسعدهم ان لا تكون هناك سمات تميزهم عن الانكليز، وحتى الانكليز عن الاميركيين الذين خرجوا من بطون الانكليز. والدول المتقدمة مثل غيرها تواجه تحدي العولمة للتنوع الثقافي، وبالتالي فعليها تطبيق السياسات التي تعترف بأشكال التنوع وتحفظ هذا التنوع داخلها بما يستتبع ذلك في وسائل الاعلام والممارسات السياسية والقضائية، كل شعب يسعى الى التميز، وما المنافسات السياحية إلا صراع بين سمات وجوانب التميز في كل شعب وكل منطقة جغرافية. وبالتالي إذا كان على الدول المتقدمة صناعياً ان تحافظ على التنوع الثقافي داخلها، فهي مطالبة ايضاً بالمساعدة في الحفاظ على التنوع الثقافي للدول الأقل تقدماً بالطرق المناسبة، وبخاصة في إطار اتفاقات تعاون دولية محترمة. وإذا كانت هناك أحلاف عسكرية في العالم، فمن باب أولى أن تكون هناك أحلاف ثقافية تحافظ على "النوعيات" الثقافية لكل دولة في الحلف، وتقترح رؤية جديدة واستراتيجية عالمية لتشجيع التفاعل بين الثقافة والتنمية والديموقراطية بصورة أكبر. الواقع ان اليونسكو قامت بجهود كثيرة يمكن الاستفادة منها في إنشاء مثل هذا الحلف، وخصوصاً مناقشات وتوصيات المؤتمر الذي عقد في استكهولم العام 1998، ووثائقه التي شملت مواضيع فرعية مهمة في هذا الاطار مثل: الثقافة، التجارة والعولمة، نحو تعددية بناءة. وكذلك هناك وسائل قانونية يمكن الاستناد عليها مثل: اتفاقية فلورنسا عام 1950، ومعاهدة عام 1970 ضد الاتجار غير المشروع في الملكية الثقافية، ومعاهدة عام 1995. من المرجح أن يؤدي موضوع التنوع الثقافي إلى مناقشات مثيرة للجدل وعسيرة خلال المفاوضات التجارية المقبلة لمنظمة التجارة العالمية، كما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطور المستقبلي للتجارة الإلكترونية. وتشهد الاحداث التي وقعت خلال عام واحد فقط في سياتل ودافوس وبانكوك وواشنطن وبراغ واخيراً في جنوى، على زيادة الوعي العام، وبخاصة في المجتمع المدني بالعولمة. وعلى رغم أن العولمة تتيح فرصاً جديدة ومذهلة للحوار الثقافي، مثلما نرى على شبكة الانترنت، إلا أنه غالباً ما ينظر اليها على أنها تهديد للهويات الثقافية، وكاتجاه من شأنه فقط إفادة بضع كتل مختلطة ومتحدة تتخذ من بضعة بلدان صناعية قاعدة لها، بينما لم تتراجع مؤشرات الفقر في كثير من دول العالم الثالث، ولم يتوقف كثير من الحروب الاهلية بل والصراعات الاقليمية مثل الصراع العربي - الاسرائيلي، والصراع الهندي - الباكستاني، في ظل العولمة، واصبحت الحاجة إلى التوفيق بين المصالح العالمية والمحلية أمراً متكرراً في جداول المؤتمرات الدولية المختلفة. فهل يمثل "الحلف العالمي للتنوع الثقافي"، أملاً في هذا الاتجاه، أو حلاً لمشكلة الصراع بين العولمة والتنوع الثقافي؟ يركز مشروع الحلف العالمي للتنوع الثقافي على السلع الثقافية خصوصاً، ويشتمل على مشاركة مرنة بين القطاعين الخاص والعام نحو تشجيع التنوع الثقافي والدفاع عنه على نطاق عالمي، والمشروع مهيأ بصورة خاصة لتشجيع تعاون الشمال - الجنوب، والجنوب - الجنوب، ويمكن ان يصبح أداة فاعلة نحو التخفيف من حدة اللاتناسقات الحالية في التدفق التجاري للسلع الثقافية. الفكرة الرئيسة الكامنة وراءه بسيطة: شبكة من الشركات والجمعيات والمؤسسات والاتحادات المهنية المعنية بالمشاركة في تطوير الصناعات الثقافية في بلدان الجنوب، تقوم بأعمال مثل: - فتح اسواق للسلع الثقافية التي يتم إنتاجها في الجنوب. - العمل على تمويل المشاريع الانتاجية الثقافية في البلدان النامية. - رعاية تدريب الفنانين والمهنيين والحرفيين. - توفير نقل المهارة المهنية المناسبة لدعم تطوير الصناعات الثقافية الناشئة في البلدان النامية. - أخذ أية مبادرة أخرى لمصلحة التنوع الثقافي في هذا المجال. وبروح المشاركة الحقيقية، يمكن لحكومات البلدان المعنية ان توافق على سن وتنفيذ القوانين الخاصة بحقوق النشر والتأليف والملكية الفكرية على نحو ملموس، سواء في التجارة التقليدية أو لأغراض التجارة الالكترونية. وتكمن الفكرة هنا في ضمان حماية قوية ومتوافقة لهذه الحقوق في البلدان كافة، وهو ما يؤدي الى احداث تطور مناسب للتجارة التقليدية والتجارة الالكترونية للسلع الثقافية على المستوى العالمي، ومن المفترض ان تعنى اليونسكو بالأمر حتى يتم تنفيذ مثل هذه الاتفاقات، والقيام بدور الوسيط إذا ما نشأت أية مشكلة أو لم يحترم أحد الاطراف الحلول الوسطية المتفق عليها طواعية، ويمكن دعوة منظمة التجارة العالمية في نهاية الأمر الى الانضمام الى اليونسكو في بذل هذا الجهد. في إطار هذا الحلف تجب دعوة اصحاب المشاريع التجارية النشطة في قطاع الصناعات الثقافية المعنيون بالسينما والصناعات السمعية البصرية والموسيقى والنشر والوسائط المتعددة والانترنت وبرامج الكومبيوتر، للتعبير عن مشاكلهم واقتراح ما يرونه من حلول والمشاركة في مناقشات مستمرة وفاعلة لنجاح فكرة الحلف، كما تجب دعوة الحكومات لدعم الأنشطة وتشجيع الإبداع في البلدان النامية المشاركة في الحلف، ودعم علاقات الزمالة بين الفنانين والمبدعين، وتيسير مشاركتهم في المهرجانات العالمية الكبرى والتجارب عالية التقنية في الشمال. مثلما يجب على الدول المعنية العمل على إيجاد بيئة تساعد على تطوير صناعاتها الثقافية، والمشاركة في مقاومة فاعلة للقرصنة والتزوير في المنتجات الثقافية، ومشاركة القائمين على المشاريع التجارية المحلية أو جمعياتها والمستفيدين في ترويج المنتجات الإبداعية الوطنية. ومن الطبيعي ان يكون هناك دور فاعل للمنظمات الحكومية وغير الحكومية التي تمثل المؤلفين والفنانين والجمعيات والناشرين وصناعة الاسطوانات ومنتجي الاجهزة السمعية - البصرية وبرامج الكومبيوتر. وتضمن المشروع اجراءات تمهيدية مهمة يمكن أن تقوم بها اليونسكو حتى ينشأ هذا الحلف مثل: - تنقيح المشروع بصورة أكبر من خلال المناقشات غير الرسمية مع بعض المشاركين الأساسيين المحتملين، وكذلك مع منظمة التجارة العالمية لاستكشاف الاعمال المشتركة الممكنة. - تسجيل الحلف العالمي للتنوع الثقافي كعلامة تجارية واسم لمجال اختصاص. - تصميم وإنتاج ونشر النشرات الاعلانية والمواد الترويجية المناسبة وإيجاد موقع مخصص لهذا الغرض على شبكة الانترنت. - تأييد وترويج المفهوم الذي يستهدف الدول الاعضاء على أعلى المستويات بشكل مباشر ومن خلال الوفود الدائمة واللجان الوطنية والاتحادات المهنية في مجال الصناعات الثقافية من طريق تعبئة المكاتب الميدانية لليونسكو والشركاء الدائمين. - تقويم النتائج التي تم الحصول عليها. - مساعدة الدول الاعضاء في وضع السياسات الوطنية والاستراتيجيات الاقليمية المناسبة في شأن حقوق التأليف أو النشر والملكية الفكرية والصناعات الثقافية. وهناك تصور بأن يستغرق المشروع 7 سنوات. 2001 للبدء، والتأييد وتطوير المشروع والتفاوض في شأن الاتفاقات. 2002 - 2006: التنفيذ العملي للاتفاقات التي أقرها أعضاء الحلف 2007: تقويم الأثر. إلا أن الصمت العميق الذي يلف المشروع حتى الآن منذ طرحه في اجتماعات مغلقة في باريس في نهاية العام المنصرم، لا يوحي بالخير، فلقد مضى نصف العام الحالي ولم نسمع عن افكار للتطوير ولا تفاوض على اتفاق، بل كان من المأمول ان يعطي المدير العام لليونسكو إشارة بدء الحلف في الربيع الذي مضى. وربما يصبح المشروع اثراً بعد عين. لكن علينا الاستمرار في الحلم إذ ربما يتحقق، وفي تحقيقه جملة من الفوائد منها: - فهم افضل للفوائد المحتملة للعولمة في مجال حساس بصورة خاصة وهو التنوع الثقافي في المنتجات والخدمات. - إنتاج وتسويق فرص جديدة للمبدعين والفنانين في البلدان النامية محلياً، ويجب أن يسهم تشجيع الإبداع في الحد من استنزاف العقول في هذا المجال. - عرض اوسع ومنوع للمنتجات الثقافية على مستوى العالم. - زيادة انتقال المهارة والتكنولوجيا في الإنتاج والتسويق وتوزيع المنتجات الثقافية بين الشمال والجنوب وتشجيع المشاركات التجارية. - توازن افضل بين المنتجات الوطنية والاجنبية ذات الطبيعة الثقافية والترفيهية المتاحة في السوق من خلال تطوير صناعات ثقافية قابلة للبقاء والنمو. - تحسن كلي ملحوظ في تنفيذ حقوق النشر والتأليف والملكية الفكرية لفائدة كل من المبدعين الوطنيين والاجانب، والصناعات الثقافية الوطنية والاجنبية، ومن ثم ايجاد اسواق ثقافية جديدة ومتوافقة وآمنة. - إمكانية أكبر لجذب الاستثمار الاجنبي للحكومات التي نجحت في القضاء على القرصنة الثقافية. - تدعيم بناء الثقة بين الحكومات والقطاع الخاص. - إيجاد صلة متجددة بين معاهدتين دوليتين حاكمتين حالياً وفي المستقبل المنظور. - TRIPS وGATS وبخاصة أنه ما زال يجري التفاوض في شأنهما والتعامل معهما في شكل منفصل على رغم العلاقة المتبادلة الواضحة بينهما. - تعبئة عالمية لمصلحة التنوع الثقافي وسلاسة معينة في المفاوضات التجارية العالمية المقبلة حول السلع والخدمات الثقافية. - تراكم خبرة متجددة في دول الشمال والجنوب، وفي القطاعين الخاص والعام، تقوم على التنظيم الذاتي وعلى مشاركة حقيقية تفيد كل الاطراف المعنية، تتجاوز برامج المساعدات الحالية. * رئيس مجلس إدارة دار الكتب المصرية.