منبع الفن مجهول. الفن يعبّر عن اللاوعي اكثر من الوعي والعبقري هو الذي تعدت موهبته اعظم مرحلة عند الانسان ... وليد عوني بهدوئه الكلاسيكي، استقام جالساً وتحدث ل"الحياة" عن مواضيع عدة: بداياته، اعماله، الابتكار، مهرجان الرقص المسرحي الحديث، دار الأوبرا المصرية، استعداده لعرض اعماله في لبنان و"استديو الفن". وما ان تلفظ اسم وليد عوني، حتى تتصوّر اجساداً وأنغاماً وحركات وألواناً واقتناعاً بأن الجسد آلة الروح والراقص عبارة عن جسد وفكر حاضرين. وكي يبرع، يدخل عوني الى اعماق الراقص ليستوحي منه الحركة، والجمهور ليس مشاهداً فقط، بل يشارك الراقص بإحساسه. وليد عوني علامة فارقة في الفن العالمي. قال: "ولدت في مدينة طرابلساللبنانية، وأنهيت دراستي عام 1977 في الفن المرئي وحقل الدعاية من الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في بروكسيل، بلجيكا، ثم أسست عام 1979 فرقة "التانيت" للرقص المسرحي هناك، وخضت معها بين عامي 1980 و1989 عشرات الاعمال الاختبارية مثل "جبران وهاسكل" و"ثلاث معالجات عند فرويد" و"روميو وجولييت" و"مراسلات" و"فلاش باك" و"الرقم التاسع صوف: رابعة العدوية" و"جمهورية اسم" و"البياتي" و"مايجو: اليوم الثاني لهيروشيما". العام 1988 عرضت عمل "البياتي والأبواب السبعة" في مناسبة افتتاح معهد العالم العربي في باريس ولاقى اصداء جيدة". عن المحطات المميزة في مسيرته قال: "تعاونت مع موريس بيجار ونفذت له اعمالاً عدة كمصمم للديكور والملابس بين عامي 1983 و1990. اما نقطة التحول الكبيرة فكانت عام 1993، حين أسست فرقة الرقص المسرحي الحديث في دار الأوبرا المصرية". هكذا استقر وليد عوني في مصر، وابتكر عشرات الاعمال: "تناقضات" و"سقوط ايكاروس" و"حفريات اجاثا" و"الافيال تختبئ لتموت" و"المومياء" و"عايدة السنباطي: ام كلثوم" و"شهرزاد كورساكوف" و"خيال المآتة"، الى عشرات الاعمال لوزارة الثقافة والقوات المسلحة منها: رسالة سلام "قناة السويس" و"رسالة الأقصر الى العالم معبد حتشبسوت" و"مركب الوطن" وغيرها. أخبرنا قليلاً عن اعمالك الأخيرة؟ - العملان الأخيران كانا "اسرار سمرقند" و"سترة النجاة تحت المقعد". بالنسبة الى "سمرقند" فقد عرضت في قلعة صلاح الدين، وقد راودتني منذ ان قدمت شخصية شهرزاد. على امتداد اسرار طريق الحرير توقفت عند سمرقند لاستكشف تاريخها وعالمها لأجد نفسي امام بوابة كبيرة عظيمة لا تقل عن الحضارات العظمى الاخرى مثل بابل وأثينا وروما وقد عانت هذه المدينة من حروب كما واجهت كوارث طبيعية وبقيت حية تقريباً الى الآن. وواجهت سمرقند محاربي الاسكندر المقدوني ومرّت بها الفتوحات العربية ودمرتها جحافل جنكيز خان المغولية، وأتى تيمور لنك وحاول ان يجعل من سمرقند عاصمة الدنيا وجمع قواته المهيبة في هذه المدينة بالذات، ومع ذلك كانت هذه المدينة العظيمة تنهض من رمادها كل مرة. ارتبط تاريخ هذه المدينة بباحثي المدارس الشرقية البارزين من كتّاب ومفكّرين مثل رودكي وبابر ونافوي وألغ بك وعمر الخيام، نعم ... عمر الخيام الذي ولد في نيسابور ايران وهو حكيم فارسي وشاعر وفلكي. عاش في سمرقند في بداية عمره الرابع والعشرين، وهناك بدأ كتابة رباعياته التي لقبت ب"مخطوط سمرقند" مما شدني اكثر الى متابعة ابحاثي عن عمر الخيام للوصول اخيراً الى المؤرخ والكاتب الكبير امين معلوف والذي كتب بدوره رائعة "سمرقند" وبه اتى بكنوز سمرقند وهوائها "بوابة الشرق" وعبر مراجع عدة تبين لي ان هذه البوابة العظيمة يكمن فيها عمق تاريخي مدفون حيث رائحة ترابه مبللة بالأسرار. ماذا عن "سترة النجاة تحت المقعد"؟ - قدمناها على مسرح الجمهورية، وفكرتها المحورية يختصرها سؤال: لماذا توضع سترة النجاة تحت المقعد؟ لأننا نعيش الخوف كل يوم، ان الانسان كراكب الطائرة يشعر انه مهدد كل لحظة بالسقوط. ماذا لو لم تكن سترة النجاة تحت المقعد؟ والتساؤل على بساطته يحمل الكثير من الافكار والاسقاطات الفنية والفكرية التي تتصل بجوهر وجودنا الانساني ذاته. عالجت موضوعات معروفة لمؤلفين كبار وعلماء مثل جبران خليل جبران وفرويد وفيليب بانييه وشكسبير وغيرهم، ألا يمكن ان تنطلق في تصميم الرقص من الفراغ؟ - احب ان اعمل على هذه الشخصيات، لكنني لا اعتمد على حرفية مؤلفاتهم. ادرس شخصياتهم والحقبة التي عاشوا فيها، ثم اعود الى مخيلتي وأعطي العمل رؤية جديدة. هكذا فعلت عندما طلب مني معهد العالم العربي في باريس، تصميم عمل "البياتي والأبواب السبعة" جعلته قريباً من حالي، اذ كان منفياً من العراق وأنا بعيد من لبنان. كنت اريد القول ان تصميم الرقص مثل تأليف الموسيقى والشعر والأزياء يحتاج الى ابتكار، لماذا لا تحاول وضع مسرحية راقصة من العدم من دون الاعتماد على نص معين او فكرة مقتبسة؟ - انا لا احب كلمة "اقتباس". والابتكار والابداع لا اعرف معناهما. لكن كل فنان له اسلوب معيّن في التفكير او الابداع. الاستماع الى الموسيقى قد يوحي إليّ شيئاً احياناً او النظر الى مشهد معين قد يوحي إليّ فكرة مسرحية احياناً اخرى. ولا يمكن فصل اعمال الفنان عن الحال التي يمر بها. انا شخصياً ارتكز على السمع اكثر من النظر. سألتني عن اعمال نفذتها من العدم. يمكنني القول ان مسرحية "تناقضات" من تأليفي وهي كانت التجربة الأولى للرقص المسرحي الحديث في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي فضلاً عن "حفريات آماتا" و"الأفيال التي تختبئ لتموت" و"اغنية الحيتان" و"في ذكرى 40 الانتفاضة" وغيرها. وعلى رغم ان بعض الاعمال تحمل اسماء معروفة او مرتبطة في حقبة تاريخية، اسعى الى الابحار في مخيلتي سعياً الى اضافة تفاصيل جديدة تعكس افكاري ورؤيتي الفنية. هل تعتبر ان العمل على فكرة موجودة اسهل من الابتكار؟ - بالعكس، عندما احاول الابتكار، اكون حراً غير مقيّد. اما حين اعمل على فكرة او شخصية معروفة فأرى نفسي مقيّداً بالعوامل التاريخية ومؤلفات الآخرين. لكن في كل الاحوال، لا افكر بالنقد ولا بردود فعل المتلقي. لكنك تقدم العمل للمتلقي ولا مسرح من دون جمهور؟ - مع احترامي للجمهور، لا افكر بهذه الطريقة. انا اعمل بهدف التطور المهني. انني اؤمن بالمهنة اكثر من الفن. اذاً لست مضطراً ان تعرض اعمالك امام الجمهور، ويمكنك الاكتفاء في العمل داخل بيتك؟ - انني صادق مع نفسي، لذا لا يمكن إلا ان اكون صادقاً مع الجمهور، علماً ان الجمهور ينتمي الى طبقات وأفكار منوّعة ونظريات عدة ولا يمكن ارضاء الجميع. مع ذلك تقنع اعمالي الاكثرية والجوائز التي حصدتها دليل قاطع على نجاحي. والجدير بالذكر ان اعمالي الاخيرة، اي "شهرزاد كورساكوف" و"اسرار سمرقند" و"سترة النجاة تحت المقعد" لم ترضِ المفكرين والنقاد في مصر، اذ اعتبروها مباشرة، لكنها لاقت تجاوباً جماهيرياً كبيراً. انني احب التجديد والتغيير. نفهم انك لا تحب العمل وفق اسلوب ثابت؟ - انا افضّل التنويع ولا احب ان اضع نفسي في خانة معينة. مع ذلك، لا بد من ان يلاحظ الجمهور ان ثمة حركات او لمسات مشتركة تميز الفنان من عمل الى آخر. كيف تبدأ بتحضير اي عمل؟ - لا اجلس على الطاولة وأقول انني سأحضر عملاً الآن. كل ما افعله، استدعي اعضاء الفرقة وأبلغهم عن الخطوط الرئيسة التي افكر بها ونبدأ التجارب بغية الوصول الى نتيجة مرضية. بعد جهوز الفكرة، كم تستغرق التمارين؟ - عادة نتقيّد بروزنامة دار الأوبرا التي تحدد مواعيد العروض. لا احب ان ينتهي العمل، اذ لا اعود اليه مرة اخرى. ففي عملي الاخير "سترة النجاة تحت المقعد" وصلت الى مرحلة الاختبارات امام الجمهور. كان العمل مرناً الى درجة ارتجال الافكار الجديدة وكسر المألوف، وقد دخلت الى المسرح كراقص مرات عدة. هذا يعني انك لا تزال تحب مزاولة الرقص؟ - صحيح، انني احب الرقص، لكنني لا اقرر انني سأرقص، بل اعضاء الفرقة يحبون احياناً ان اشاركهم العرض لأننا متفاهمون الى اقصى حدود. المسرحية الراقصة هي ملابس وديكور وإضاءة وتجهيزات فنية، هل تتدخل في كل شيء؟ - افضّل عدم تضييع الوقت، لذا اصمم كل شيء بنفسي وأطلب من دار الأوبرا التنفيذ الدقيق. لا احد يعرف ما اريده اكثر مني. الى اي مدى تساعد الموسيقى على خلق لوحات راقصة؟ - غالباً ما تساعد الموسيقى. لكنني اعمل احياناً في الصمت الذي يكون دافعاً رئيساً الى خلق اللوحات، ثم اسقط الموسيقى عليها. اي موسيقى تفضّل الرقص عليها؟ - لا موسيقى معينة، انما اصبحت اكثر ميلاً الى التعاون مع مؤلفين موسيقيين منذ فترة، وكانت تجاربي ناجحة مع طارق شرارة في "اسرار سمرقند" وقبله نصير شمّة في "شهرزاد". يبدو انك تؤمن بالعمل الجماعي؟ - بدأت اؤمن بالعمل الجماعي. ارى انه من الصعب الاتفاق مع الآخرين بسهولة، لكن تجاربي الاخيرة مع المؤلفين الموسيقيين كانت جيدة. بماذا ساعدتك دار الأوبرا؟ - الأهم ان دار الأوبرا احتضنت اعمالي وأولتني الثقة، حتى اصبحت مديراً لإحدى الفرق الرئيسة التابعة لها. يجذبني العمل في الشرق وأفضّل ان اكون معروفاً في قلب الشرق والارتقاء نحو العالمية بدلاً من اكتساب الشهرة في الغرب من دون ان اكون معروفاً في الوطن العربي. ماذا اكتسبت من خلال تجربتك مع موريس بيجار؟ - تعلمت منه كيف ابني علاقة مع اعضاء الفرقة وهي من اصعب المهمات. اخراجياً، اكتسبت منه كيفية انشاء وصلات بين اللوحات الراقصة حيث لا يشعر الجمهور بالفراغ، وأعتبر ان بيجار كان بارعاً في تصميم عرض انسيابي. بماذا تميزت عنه؟ - اتميز عنه باحساسي الشرقي، وخصوصاً حين استقريت في مصر. هل اضفت حركات تعبيرية جديدة كمصمم للرقص؟ - اضيف حركات بمقدار ما يحتاج اليها الموضوع، وكل مرة تكون الحركات مختلفة. لا احب التكرار، لكن الأمور لا تقاس بالحركة، لأن الرقص المسرحي الحديث هو فكرة لا تقنية رقص. الجمهور يفرح عندما نقدم له مضموناً جديداً. لا يعني لي شيئاً اذا قالوا ان فرقتي تتمتع بلياقة بدنية عالية. كل ما يهمني ان اعطي للرقص فكرة او موضوعاً. العام 1993 أسست فرقة الرقص المسرحي الحديث في دار الأوبرا المصرية، فكيف تجاوب معها الجمهور المسرحي؟ - اسأل النقاد المصريين. احب ان اكون صادقاً مع نفسي وأطمح دائماً الى الكمال، لذا لاقت فرقة الرقص المسرحي الحديث ترحيباً كبيراً. كم راقصاً يشارك في الفرقة؟ - يشارك في الفرقة نحو 13 راقصاً، لكنني اضيف اليها كل سنة راقصين ناشئين ينتظرون فرصتهم للمشاركة في اعمال محترفة. علماً انني لا اؤمن بفكرة النجم الراقص، لذا ألزم الجميع على اداء الحركات وقبل اسبوعين من افتتاح العروض اوزّع الأدوار وأغيّر احياناً ادوار الراقصين خلال العرض. ويبقى العمل هو النجم المطلق. هل انت متشدد في التمارين؟ - انني صارم جداً. افرض على الراقصين سلوكاً ونظاماً صعباً. ويخضع جميع الراقصين الى خمس ساعات تمارين يومياً. هل تفيد الرياضة؟ - احياناً تنعكس الرياضة سلباً على الراقصين لأنها تخفف المرونة، والرقص يحتاج الى امتداد العضلات. لكن استعمال الاوزان الخفيفة مسموح، اما الاوزان الثقيلة فهي مضرّة حتماً. ولا امنع الراقصين من السباحة والركض. اخترت مصر لإقامتك الدائمة، لماذا؟ - لم اختر مصر. صحيح انني مقيم فيها، لكنني اؤمن بالمصادفة. لم اكن اعرف حين تعاملت مع موريس بيجار انني سأنتقل يوماً الى مصر. ولو لم اجد اهتماماً كبيراً من وزير الثقافة المصري فاروق حسني ودار الأوبرا لما كنت استقريت في مصر وحققت كل هذه الانجازات. يأخذ عليك البعض ان اعمالك نخبوية؟ - النخبوية سرعان ما تتحول شعبية. وتجربتي في مصر خير دليل الى ذلك، اذ بدأت ردود فعل الجمهور تتهمني بالأعمال النخبوية، ثم تعوّد عليها الجمهور وذاع صيتي في كل انحاء الدول العربية. معظم الجمهور اللبناني لا يعرف اعمالك؟ - يجب ان تسأل المعنيين في لبنان. لقد قدمت عروضاً في تونس والمغرب وسورية وسلطنة عمان، فلماذا تقدّر اعمالي هناك ولا تقدر في لبنان مثلاً. انها قلة ثقة بالجمهور اللبناني على انه لا يستسيغ اعمال وليد عوني. انا لا اتنازل عن مستواي، لكن ذوق الجمهور يمكن ان ترفعه الى مستوى راق اذا عملت بجهد ومثابرة. ما رأيك بأعمال بعض مصممي الرقص اللبنانيين؟ - المؤسف ان كثراً من الفنانين اللبنانيين يتحججون بالحرب. هذا الكلام غير صحيح، لأن بعض المصممين تخصصوا في الخارج، لكنهم لا يزالون يعتمدون على الرقص الجسماني. كنت اتمنى ان يشهد لبنان نهضة في الرقص الحديث. كيف ترى عبدالحليم كركلا؟ - احترمه كثيراً لأنه تمكن من جعل فنه جماهيرياً، وقد كان حذقاً اكثر مني. الاجيال تتغير وآمل من كركلا ان يقدم ما هو جديد. تنتقل الى لبنان اسبوعياً للمشاركة في اللجنة التحكيمية في برنامج "استديو الفن"، ما رأيك بالمواهب الجديدة؟ - كنت اتمنى ان يكون المستوى افضل على صعيد رقص الصالونات، لكنني مطمئن الى وجود معاهد فنية تهتم في هذا النوع. اما على صعيد المواهب الغنائية، فأظن ان لبنان تفوق على مصر عبر تصديره كمّاً هائلاً من المغنّين، خصوصاً ان برنامج "استديو الفن" ناجح جداً. ولكن، ثمة مغنّون يُصنعون عن سابق تصوّر وتصميم؟ - غير صحيح، لأن البرنامج يغربل المواهب، ولا يمكن ان ينجح المشترك ما لم يكن يتمتع بالموهبة. هل تفكر في الاستقرار في لبنان؟ - لا افكر يوماً انني سأستقر في بلد ما. انا اؤمن بالمصادفة ولا اطمح الى شيء. لكن مهما يكن الأمر، ثمة نداء من الأرض والجذور، احاول ألا استمع اليه كفنان. علمنا انك شاهدت مهرجانات بيت الدين وأعجبت بغناء فيروز وعزف زياد الرحباني؟ - فيروز وابنها عملاقان كبيران، استمتعت بالتناغم بينهما في بيت الدين وبدت اغنيات السيدة تحاكي كل الأجيال.