يمكن ان نضرب مثلاً على وهن الحجج التي راح يتقدم بها، مؤخراً، بعض المدافعين عن العولمة، نشرتها "الهيرالد تريبيون"، في 14-15/7/2001 لحامل جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1998، والأستاذ في جامعة كمبريدج، أمارتيا سِن هندي الأصل تحت عنوان: "ان كانت عادلة فهي جيدة: عشر حقائق حول العولمة". وهو عنوان يحمل منذ البداية دفاعاً عن العولمة يتسم بالضعف والتناقض حين يشترط على العولمة ان تكون عادلة لتكون جيدة. أي لم يستطع ان يدافع عن العولمة القائمة، او ان يقول انها عادلة، وانما لجأ الى وضع شرط استعير من بعض ناقديها وهم يعلمون أنها لا تستطيع ان تكون عادلة إذ كيف يمكن ان يكون قانون التجارة الحرة المطلقة العنان عادلاً في حين شرطه الأساسي كسب المنافسة؟ وكيف يمكن ان يكون قانون جني اقصى الارباح هدفاً اول وتكون هنالك عدالة؟ فإذا اردتها حرة فعليك ان تأكل من العدالة، وإذا اردتها عادلة فستأكل من حريتها. اما حرة عادلة فمثل الجمع بين المستبد العادل. فالظلم والعدل متناطحان لا محالة. فالعدالة تقتضي احداث تغييرات في اسعار السلع المصنعة والتقانة مقابل منتجات الدول الفقيرة او دول العالم الثالث، وتتطلب تعديلات في النظام الاقتصادي العالمي حتى تنتزع بعض العدالة للدول الاقل تطوراً وللمؤسسات الخاصة في تلك الدول لتقوى على الصمود امام منافسة غير متكافئة. والكل يعرف ان النظرية الاساسية التي روّجت للعولمة وقنّنت لها تقول باطلاق حرية التجارة في السوق بلا كوابح، وبلا تدخل من قبل الدولة، وترك السوق يعدل نفسه بنفسه عبر المنافسة الحرة والعرض والطلب. اما عند تناول الحقائق العشر فلا نجد حقيقة واحدة تدافع عن العولمة القائمة كما تجلت واقعياً خلال العقد الماضي. فعلى سبيل المثال عندما يتحدث عن السوق يتعرض للسوق عموماً، وليس السوق بشروطه ومواصفاته كما شرّعت له اتفاقية منظمة التجارة العالمية، فيقول ان اقتصاد السوق "يمكن ان يولد عدة نتائج" وفقاً لتوزيع "المصادر المادية وكيفية تطوير المصادر البشرية، وأية قوانين هي السائدة" الحقيقة السابعة فيرى ان "في كل هذه الحالات ثمة دور للدولة والمجتمع ضمن البلد الواحد وعلى مستوى العالم"، كما لو كنا امام السؤال اي سوق نريد وليس السوق الذي حاولت العولمة فرضه في عهدي ادارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وعندما ينتقل الى الحقيقة الثامنة يقول "ان العالم تغيّر منذ اتفاقية بريتون وودز" 1944 لينتقل الى الحقيقة التاسعة مشيراً الى ضرورة احداث تغييرات في المؤسسات والسياسات في ما يخص البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهيئة الأممالمتحدة، ويصل الى القول "ان توزيع السلطة في بنية المؤسسات القائمة نفسها بحاجة الى اعادة نظر على ضوء الحقائق السياسية القائمة، فما نمو الاحتجاجات المعولمة إلا احد مظاهرها"، فإعادة البناء العولمي الحقيقة العاشرة هو الجواب المطلوب على الشكوك العولمية. اي نحن امام عولمة بحاجة الى اعادة بناء. وليس امام نظام قائم، او "سيرورة"، كما يسمّيه البعض، يستحق ان نسأل: لماذا يجب "اعادة بنائه"؟ فلنقرأ من مقالة السيد امارتيا سن: "ولكن بينما لينا السبب الكافي لدعم العولمة، بالمعنى الأفضل للكلمة، هنالك ايضاً قضايا مهمة جداً تتعلق بالمؤسسات والسياسات يجب ان تواجه، في الوقت نفسه اذ ليس من السهل تبديد الشكوك اذا لم نجب، بصورة جدية على القضايا التي يثيرها المشككون". بكلمة، كل ما ورد في الحقائق الأربع المذكورة يتناول "اقتراحات ومطالبة بتغييرات" ولا يقترب من مناقشة العولمة القائمة واتجاهها وسيرورتها بمعزل عن مقترحاته بالتغيير. لأن من غير المعقول ان يدافع عن العولمة، كما يريدها او كما يتوجب عليها ان تكون، متهرباً من مواجهة وضعها المتجلي، وبلا اقامة دليل على ان مقترحاته بالتغيير قابلة للتمثل من جانبها كأنها ليست بحاجة إلا لمن يقترح عليها كيف يجب ان تكون. ثمة حقيقة لا يقف امامها السيد امارتيا سن، عند مطالبته بالتغيير في المؤسسات، وهي ان هيكلية تلك المؤسسات وطرق عملها هي سياسة، وليست مسألة ادارية وفنية، وان توزيع السلطة داخلها هو نتاج موازين قوى وله علاقة مباشرة بمصالح عليا وليس مجرد عملية تبسيطية كأن نضع هندياً، او اندونيسياً، مكان كندي في هذا الموقع او ذاك. ولا يلحظ ان اعادة بناء ظاهرة عالمية تعني، عملياً، ادخال تغييرات جوهرية في تكوينها وليست مجرد عملية تنظيمية هكيلية. وباختصار لا يريد ان يرى القوى المهيمنة في العولمة، وعلى العولمة. ومن ثم في المؤسسات وفي السياسات. ولا يلفته ان تلك القوى تعمل وفق مصالح كبرى واستراتيجيات عليا، ولا يمكن ان ينتزع منها مكسب واحد في مصلحة المتضررين، او احداث تغيير في اتجاه اكثر عدالة، إلا غلابا، ومن خلال كفاح عالمي وتدافع، وليس من خلال مقترحات تغييرية تجميلية وهمية يقدمها منظّرون او تكنوقراط اما مغفلون طيبو السريرة واما خبثاء يتناولون القضايا بصورة تبسيطية، وهم يعرفون ماذا يفعلون. على ان التهافت الفاضح في الحجج التي يتضمنها ذلك الدفاع عن العولمة فيتكشف، على سبيل المثال، في القول ان "الاحتجاجات ضد العولمة ليست ضد العولمة" الحقيقة الاولى، لماذا وكيف؟ الجواب "لأن هذه الاحتجاجات هي من اهم الاحداث المعولمة في العالم المعاصر"، ولكن كيف؟ "فالمحتجون في سياتل وملبورن وبراغ وكوبك وأماكن اخرى ليسوا مجرد فتيان محليين، وانما هم رجال ونساء تدفقوا من كل العالم الى تلك المواقع للقيام باحتجاجاتهم المعولمة". وهكذا فالعولمة والعالمية شيء واحد، والتنقل الحر داخل اوروبا، وبلا تأشيرات مسبقة على مستوى الغرب، هو العالم كله وهو العولمة. أفلا يدل هذا على التعلق بخيوط العنكبوت للدفاع عن العولمة من خلال معارضيها الذين هم من طبيعة اخرى تماماً، وحركة تنقلهم من طبيعة مختلفة عن حركة تنقل الشركات عابرة الحدود واستثماراتها ومضارباتها في العالم كله. ثم هل ينطبق على حركة الناس داخل الغرب ما ينطبق على حركة الناس جنوب - شمال. فالأسوار هنا زادت علواً وسماكة في العقد الماضي عما كانت عليه في السابق، بل ان تلك الحركة داخل الغرب نفسه ليست نتاج عشر السنوات الماضية فهي ظاهرة سابقة لما عرف بالعولمة. اما الحقيقة الثانية فهي: "العولمة ليست نظاماً جديداً وليست مجرد غربية"، كيف؟ يجيب حامل جائزة نوبل في الاقتصاد: "تقدمت العولمة عبر الاسفار والتجارة والهجرة ونشر التأثير الثقافي والتلاقح المعرفي والتفاهم بما في ذلك العلوم والتكنولوجيا". اي نحن امام تعريف للعولمة ينطبق على كل مراحل التاريخ منذ ان بدأت قوافل التجار تنتقل من بلد الى بلد ومن قارة الى اخرى. ولا يخفى ان تقويم المفهوم بهذه الطريقة يمنع من معرفة ظاهرة العولمة وسماتها وخصوصيتها باعتبارها نظاماً عالمياً يتميز حتى عن النظام العالمي الرأسمالي الذي ساد خلال الأربعين سنة السابقة لتسيعنيات القرن الماضي. وقد لا يخفى ايضاً ان هذا التعويم للمفهوم يدل على الهزال الذي اصاب حجج الدفاع عن العولمة. ومن هنا تفهم قيمة "الحقيقة السابقة" فهماً افضل. الحقيقة الثالثة: "العولمة ليست خاطئة بحد ذاتها"، كيف؟ يجيب امارتيا سن استاذ "كلية ترينتي" في كمبريدج: "فقد أَثْرَت العالم علمياً وثقافياً وأفادت منها عدة شعوب اقتصادياً كذلك"، طبعاً لا حاجة الى اثبات ذلك او الى الاشارة ان كان هذا الاثراء يقتصر على جزء من العالم، ام على اغلبيته، ام علهي كله. وهل هذا الاثراء متفاوت يحمل سمة اللامساواة التي سيجعلها محوراً ولكن ليس في هذا المقام. اما عندما ينتقل فوراً لتناول اشكالية تفاقم ظاهرة الفقر خلال العقد الماضي يذكرنا بأن الفقر المدفع والحياة القاسية والقصيرة ظاهرتان كانتا موجودتين دائماً، فيفترض ان التكنولوجيا الحديثة والعلاقات الاقتصادية المتبادلة تلعبان دوراً مؤثراً، لأن ورطة فقراء العالم لا يمكن معالجتها من خلال حرمانهم من "التكنولوجيا الحديثة والكفاءة العالية التي تدير التجارة العالمية، والتبادل والفوائد الاجتماعية والاقتصادية عبر العيش المفتوح بدلاً من المجتمعات المنغلقة، فالذي نحن بحاجة اليه هو "توزيع اكثر عدالة لثمار العولمة". لا يصعب ان يلحظ ان هذا الدفاع عن العولمة يعتمد على افتراضات وليس على حقائق ملموسة فهو لا يريد ان يرى ان التكنولوجيا الحديثة كما تجلت، على الخصوص، في العقد الماضي، اصبحت اكثر بعداً من متناول فقراء العالم من اية مرحلة سابقة. ويكفي ان يذكر التشدد في موضوع براءات الاختراع وحقوق الملكية الصناعية والفكرية، ووضع اغلى الاسعار للوصول الى المخترعات والتكنولوجيا الحديثة فالمتوفر هو المنتجات الاستهلاكية، وهذه ليست تلك، وقد زادت اعباء الفقراء حين اغرقوا في استهلاكها. ولعل مثل لجوء اميركا الى منظمة التجارة العالمية، فضلاً عن ممارسة الضغوط المباشرة، لمنع البرازيلوجنوبي افريقيا من انتاج بعض الأدوية المكافحة للايدز خصوصاً المصل الذي قد ينقذ ملايين الاطفال. وذلك من اجل اجبارهما على شراء الدواء من الشركات التي تحتكره وهو ما لا طاقة لهما على اسعاره عند استخدامه لمعالجة الملايين، ليكشف عن حقيقة الوهم الكبير الذي يتحدث عن التكنولوجيا الحديثة التي اصحبت في متناول الجميع، او عن دورها في معالجة تفاقم ظاهرتي الفقر والمرض في زمن العولمة. اما طرح موضوع العيش المنغلق مقابل العيش المفتوح فهو هرب من السؤال: ما هو نوع الانفتاح المطلوب؟ وهل هنالك نتائج مختلفة للانفتاح تتوقف على شروطه وقوانينه؟ الحقيقة الرابعة التي يوردها السيد سن تقول: "القضية المركزية هي اللامساواة" سواء كان ذلك في ما يبين الأمم أم داخل الأمة الواحدة. اي ان المشكلة ليست في العولمة باعتبارها عظّمت، وراحت تُعظّم، الى احلد الاقصى اللامساواة، وانما هي في ظاهرة اللامساواة نفسها وبحد ذاتها. فالتركيز يجب ان ينصب عليها. لماذا؟ لأن اللامساواة كانت موجودة دائماً. فالمهم لا تتحدثوا عن اللامساواة المتفاقمة بسبب نظام العولمة او في ظله. ثم يواصل تدعيم هذه الحجة من خلال الحقيقة الخامسة فيقول "الاهتمام الاول يجب ان ينصب على مستوى اللامساواة وليس على تغيّراتها الكمية او في الهوامش" ولهذا عندما تجبه العولمة من قبل منتقديها بان "الاغنياء راحوا يزدادون غنى والفقراء فقراً" يكونون قد اختاروا الميدان الغلط للصراع، كيف؟ يجيب: "بالرغم من ان قطاعات كثيرة من الفقراء يقصد الدول الفقيرة اخفقوا في الاقتصاد العالمي اخفاقاً كبيراً الا ان من الصعب الخروج بتحديد اتجاه قاطع كلي من ذلك". اما لماذا من الصعب تحديد الاتجاه، وقد تحدد فعلاً خلال عشر السنوات الماضية، وما زال يحفر في القناة نفسها، فليس لديه دليل واحد يسوّغ القول "يصعب الخروج بتحديد اتجاه قاطع كلي" الا اذا كان علينا الانتظار عشر سنوات اخرى يزداد الاغنياء فيها غنى والفقراء فقراً، او اذا كان ثمة شكوك حول مستقبل العولمة نفسها، وهذا اكثر مدعاة للتوقع. ومع التوقف امام الحقيقة السادسة، وهي آخر تلك الحقائق العشر التي هي كما لحظنا ليست بحقائق، يعتبر السيد سن ان السؤال الأساسي يتعلق "بما اذا كان توزيع المكاسب عادلاً". وهنا لا يجد ما يقوله سوى وضعنا امام خيارين "اما التعاون واما اللاتعاون" فاذا اعتبرنا التعاون هو الجواب فسيكون هنالك عدة اجراءات بديلة يمكنها ان تفيد كل طرف. اي نحن، مرة اخرى، امام هرب من مواجهة العولمة في تجليها العملي من خلال طرح اسئلة لو ارتبطت بالعولمة الواقعية او اجيب عنها وحُدّق في العولمة لما خرجت من قفص الاتهام إلا بالادانة، لو كان كل ذلك الحديث عن العدالة جاداً وصادقاً. وهذه الحقيقة تجُبّ كل ما دافع به السيد امارتيا سن عن العولمة.