يبدو ان عدوى المحاكمات الدولية والدعاوى المرفوعة على مسؤولين سابقين وحاليين في دول عدة لتورطهم في جرائم حرب... انتقلت الى كمبوديا. اذ صادق المجلس التشريعي أخيراً على مشروع قانون لإقامة محكمة خاصة تتولى محاكمة المسؤولين عن مقتل نحو 1.7 مليون كمبودي بين عامي 1975 و1978 في ما بات يعرف ب"حقول القتل". ووقع الملك نورودوم سيهانوك القانون، فأصبح سارياً، ولكن ليس واضحاً بعد متى تبدأ اجراءات المحاكمة التي ستنعقد تحت اشراف كمبودي - دولي، فيما أشار رئيس الوزراء هون سين الى ان المحكمة المؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين وقاضيين دوليين قد تصدر مع نهاية السنة الجارية أوامر باعتقال متورطين في المجازر الجماعية. وعلى رغم ان الأممالمتحدة حذرت فنوم بنه من أنها ستنسحب من المحاكمة اذا ما استُثني منها أي مسؤول بارز في تنظيم "الخمير الحمر" الذي ارتكب المجازر، يعتقد مراقبون أن المحاكمة ستكون شكلية، اذ ان معظم قيادات هذا التنظيم منحوا عفواً في التسعينات بموجب اتفاق أنهى الحرب الاهلية المديدة في هذا البلد، فيما توفي زعيمهم الأبرز بول بوت عام 1998. وكانت المساعي لانشاء المحكمة بدأت منذ منتصف التسعينات، إلا ان عوائق عدة اعترضتها ليس أقلها ان مسؤولين سابقين في التنظيم الحديد يتولون الآن مناصب حكومية، ثم ان الصين، الجارة الكبرى التي دعمت "الخمير" بقوة ابان حكمهم الدموي، عارضت في شدة تشكيل محكمة دولية. وبعد أخذ ورد تم الاتفاق بين فنوم بنه والأممالمتحدة على أن تجرى المحاكمة على التراب الكمبودي وفق المعايير والقوانين الدولية. لكن المسألة الأكثر اثارة للانقسام هي هل تؤدي المحاكمة الى زج متورطين في المجازر وراء القضبان، ما يعيد كمبوديا بالتالي الى أجواء ترغب في عدم استحضارها؟ وتبدى ذلك جلياً في تحذير هون سين من ان المحاكمة، اذا ما أُسيء التعامل معها، قد تعيد تفجير الحرب الاهلية. وكان "الخمير الحمر" استولوا على حكم كمبوديا في "العام الصِّفر"، اذ ان الزمن في عرفهم بدأ بوصولهم الى السلطة في بلد حكموه بقبضة من حديد، وقامت ايديولوجيتهم فيه على رفض الدين والمال والملكيات الخاصة، فأقدموا على افراغ المدن من سكانها وتهجيرهم جماعياً الى الارياف وتسخيرهم لاقامة مجتمع زراعي نقي. وتميز هذا التنظيم بنظام حديد غامض، حتى ان اسم "الخمير الحمر" أطلقه عليهم أعداؤهم، بينما كانوا طوال وجودهم في السلطة يعملون تحت اسم "انغكار" او "المنظمة"، وعرفوا بصفة كونهم قوميين متشددين ومعادين في شدة للفيتناميين الذين كانوا يرون فيهم مضطهدين لشعب "الخمير". وعام 1987 تمكن الفيتناميون الذين غزوا كمبوديا من اطاحة حكم "الخمير" ليلتجئ هؤلاء الى الغابات الجبلية قرب الحدود مع تايلاند. وعام 1996 انشق أكثر من نصف عديد قواتهم والتحقوا بقوات فنوم بنه، وكان عدد كبير منهم بقيادة وزير الخارجية الحالي اينغ ساري. وفي السنة التي تلت، دخل الجنرال تاموك المعروف ب"الجزار" في اتفاق مع الحكومة الكمبودية تاركاً الزعيم بول بوت وحيداً، قبل ان يسدل الستار نهائياً عام 1998 ب"محاكمة شعبية" لبوت قضت بابقائه قيد الاقامة الجبرية قبل ان يقضي وسط أنباء كانت تتردد آنذاك عن امكان محاكمته دولياً بتهمة التطهير العرقي. وبعد أكثر من عقدين من خلعهم من السلطة، لا تزال ذكريات الموت والجوع والمعاناة ابان حكم "الخمير" حية في أذهان الكمبوديين، وتتجلى في أماكن خاصة أقاموها في أنحاء البلاد لأكداس من العظام والجماجم البشرية من ضحايا "حقول القتل"، كما في حقول الألغام التي لا تزال تحصد حياة الآلاف.