قيل عن الرسام الاسباني ذي الأصل اليوناني والتربية الايطالية دومينكوس ثيوتوكربولوس الذي عرف على مدى التاريخ باسم "الغريكو" - الاغريقي ان فنه الذي جمع بين أرقى أساليب عصر النهضة الايطالية والحس الدرامي الاسباني والملامح الشخصية العميقة، كان هو الفن الذي مهد وبكل وضوح لولادة الأسلوب "الباروكي" في فن الرسم. هذا صحيح، ومع ذلك فإن فن الغريكو، كان من الغرابة والخصوصية، حيث ان السورياليين في القرن العشرين كان في إمكانهم ان يعلنوا انتسابهم اليه، وكذلك كان حال التجريديين، ولطالما أعلن الأميركي جاكسون بولوك ان الغريكو هو استاذه الوحيد، في الوقت الذي كان بيكاسو يجلّ اعمال الغريكو اكثر من إجلاله أعمال أي رسام آخر. والحقيقة اننا اذا ما تأملنا عميقاً، في أيامنا هذه، ما تبقى من لوحات هذا اليوناني - الاسباني، سنفاجأ بأنها تبدو شديدة الحداثة، خطوطاً وتلويناً، ان لم يكن من حيث المواضيع، مع ان اربعة قرون كاملة قد مضت منذ رُسمت. ويتضح في أبرز لوحات الغريكو، ان هذا الفنان، المقتلع أصلاً من جذوره والمرمي في بلدان الغربة، بحيث لم يعش طوال حياته إلا في غربات متلاحقة، كان أول فنان نهضوي يسارع تماماً بالتخلي عن "يقينات" الكلاسيكية المريحة ليغوص في التعبير الاسلوبي عن قلق انساني عميق. ومن هنا ما قيل دائماً من أنه اذا كان الفن النهضوي قد انطلق مع عودة الانسان مركزاً لهذه الحياة الدنيا، ليصور الانسان وهمومه ونظرته الى العالم حتى في اللوحات الدينية الصرف، فإن الغريكو اهتم أكثر بتصوير "ذلك اللهيب الذي في داخل الانسان" كما كان يقول الكاتب اليوناني كازانتزاكيس صاحب "زوربا" الذي كان لألغريكو من المكانة لديه ما جعله يعنون كتاب مذكراته ب"تقرير الى الغريكو". ولئن كان هذا التعبير عن القلق والتوتر داخل الانسان، في نزعة روحية واضحة، قد ساد لوحات الغريكو كلها، بما في ذلك "البورتريهات" التي ما كان من شأنها، أصلاً، ان تعبر إلا عن ملامح المرسومين فيها، فما هذا إلا لأن الغريكو عاش حياته قلقاً ما بعده قلق. وحسبنا ان نتأمل لوحات له مثل "مار يوحنا المعمدان" بيد القديس الممدودة الى أعلى وكأنها شعلة نار، أو لوحة "رؤية يوم الحشر لدى القديس يوحنا"، وحركة الشخصيات فيها صارخة وكأنها طالعة من لوحة لادوارد مونش، أو لوحة "المعاناة في بستان الزيتون"، حتى ندرك كم ان قلق الغريكو كان مبكراً وكم انه كان عنيفاً. ولعل في اختيار الغريكو التعبير عن المشاهد الرؤيوية ما يفصح عن ذلك، حيث يرسم الرسام اشخاصاً ومشاهد طبيعية يخضعها، شكلياً، لتأثير الرياح العاتية والعواصف وأشياء الطبيعة، ما يجعل المشهد كله يبدو وكأنه نتاج قوى خفية جبارة قوية لا قبل للانسان بمجابهتها. ومن المؤكد ان ثمة لوحة لألغريكو، تكفي وحدها لاختصار هذا البعد كله، معبرة عنه تعبيراً، لا يزال قادراً على اثارة حيرة المشاهد وقلقه حتى يومنا هذا. وهذه اللوحة هي "طليطلة" توليدو التي يرجح أن الغريكو رسمها بين العامين 1595 و1600. من ناحية أولى تبدو اللوحة مشهداً طبيعياً آثر الرسام ان يصور فيه المدينة من خارجها، في يوم عاصف. ولكن هذا الانطباع سرعان ما يتحول الى عالم آخر تماماً. فالحال ان الغريكو الذي صور المدينة في "بيئتها الطبيعية"، انما يبدو، من ناحية الروح، وكأنه يصورها من داخلها، من عمق أعماق روحها. انه لم يصور المدينة بمقدار ما صور "مدينته" الخاصة، المدينة التي تعبر عن غربته الشخصية وعن اقتلاعه وعن قلقه، تماماً كما راح يفعل التعبيريون الألمان بعد الغريكو بثلاثمئة سنة. فهذه اللوحة، في تركيبتها الشكلية، كما في ألوانها، الرمادية والخضراء والزرقاء، تبدو وكأنها تهدد الانسان في يقينه، تهاجم روحه. والادهى من هذا ان الخطوط والبقع البيض، التي كان يمكن أن تكون واحات أمان في لوحة كهذه تبدو الأكثر تهديداً، فتظهر عدوانية الغيوم إذ تحركها الرياح، وتبدي المدينة نفسها مثل شبح يستعد للانقضاض على الرسام وعلى المشاهد. انه عالم تفلت فيه عناصر الطبيعة من عقالها. واللون الأخضر نفسه الذي كان يجدر به أن يكون محايداً، رائع الحسن، يبدو وكأنه يخفي وراءه ألف تهديد وتهديد. لقد آثر هذا الغريكو، أن يستخدم المشهد الطبيعي استخداماً مضاداً لأي استخدام معهود. فإذا كان ما في المشهد، أصلاً، لا يتعدى كونه عنصر جمال متراكماً: مدينة يوحي سكونها بالاطمئنان، وغابات وبساتين خضر تحيط بها وسط فن تاغوس هادئ المسرى، فإن تراكم هذا كله في تلك الليلة الليلاء، إنما يأتي ليعبر عن احساس الانسان الرسام ومن ثم المشاهد بالضعف واللاقدرة أمام طبيعة حافلة بكل الاحتمالات. وفي هذا الاطار لم يكن من قبيل المصادفة، بالطبع، أن يزرع الغريكو في لوحته شخصيات بشرية: على الجسر بضعة أشخاص يسيرون، وفي النهر وعند ضفته أشخاص آخرون، وكذلك ثمة أشخاصاً قرب المنزل الى يمين اللوحة، لكن الرسام تعمد ان يكون الأشخاص من الصغر والضعف حيث يعبر من خلال رسمه لهم عن امحاء الانسان، وعدم يقين المدينة، كملجأ، في مواجهة قوة الطبيعة العاتية. عندما رسم الغريكو لوحة "طليطلة" كان يقترب من الستين من عمره، وكانت أزمته النفسية التي بدأت لديه مبكرة، قد تفاقمت، وبات غير قادر على الايمان أكثر بأن في وسع الانسان، هذا الكائن الضعيف المرمي بلا حول في وسط كون قاس ولا متناه، أن يجد خلاصه بنفسه. الخلاص، بالنسبة الى الغريكو في تلك المرحلة الانعطافية من عمره، هو في الاستسلام الى الله والاعتراف بمقدرته. وهكذا بعدما كان حقق العشرات من اللوحات التي كانت فيها السيادة والقوة للانسان، سواء أكانت لوحات دينية أو دنيوية، ها هو الغريكو يعبر في تلك اللوحة عن استسلامه. لقد ولت الأيام التي كان فيها الرسام يعطي من قوته الداخلية لشخصياته، حيث ان مؤرخي الفن اعتبروه الأكثر ذاتية بين رسامي زمنه، وربما الأزمان اللاحقة ايضاً. ولم يكن هذا غريباً عن فنان اعتبر نفسه، بالولادة في كريت العام 1541 وريثاً للفكر الاغريقي العقلاني الكبير، وبالتربية في البندقية تلميذاً للنهضوي الكبير تنتوريتو، وفي الانتماء لاحقاً ابناً لاسبانيا، حيث انتقل العام 1577 للاقامة في طليطلة التي بقي فيها حتى موته في العام 1614. لقد خلد الغريكو هذه المدينة في لوحاته، ووصل الى ذروة الابداع والمكانة من دون أن يبارحها، لكنه ظل، مع ذلك، يعتبر اجنبياً ويعامل على ذلك الأساس. ومن المؤكد ان هذا ما زاد من حدة أزمته، ولا سيما حين ازداد اقترابه الحثيث نحو شيخوخة تخلو من أي يقين.