ما من قضية تحرير اهتمت بكسب الرأي العام الغربي خصوصاً، والرأي العام في العالم عموماً، مثل القضية الفلسطينية. فقد تنبهت القيادات الفلسطينية منذ أوائل العشرينات الى هذه المسألة. وانبرى مثقفون كبار بعد النكبة 1948/ 1949 في التركيز على مخاطبة الرأي العام الغربي لإيضاح حقائق القضية الفلسطينية وعدالتها. وكان سلاحهم في ذلك الثقافة والمعرفة انظر مثلا مؤلفات كتن، وهداوي، والخالدي. وتابع هذه المسيرة في ما بعد مثقفون تكونوا في الولاياتالمتحدة والغرب إثر النكبة انظر مثلا مساهمات أبولغد، والعاروري، وسعيد بل العشرات. عندما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري كان من بواكير أعمالها مركز الأبحاث الفلسطيني برئاسة الدكتور انيس الصايغ. وكان الهدف توضيح حقائق القضية والتعمق في دراسة الصهيونية والدولة والمجتمع العبريين وكل ما له علاقة بالقضية. اما مركز التخطيط الفلسطيني فتأسس، برئاسة الدكتور يوسف الصايغ. وكان الهدف الأساسي منه وضع خطة اعلامية لكسب الرأي العام العالمي. وشكل الدكتور وليد الخالدي مؤسسة دراسات فلسطينية لخدمة الغرضين المذكورين كذلك. وتضاعفت هذه الجهود بعد 1968، وجنّدت الجامعة العربية مكاتبها في الخارج لهذا الغرض. اما اغلب فصائل المقاومة فدخلت في تلك المرحلة بما يشبه التنافس على كسب الرأي العام الغربي والعبري وكان المتاح في حينه بعض أطراف اليسار فقط وقليلا من الليبراليين المعادين للعنصرية. واعتبرت حركة فتح الأوسع نشاطاً في العمل الخارجي ان شعارها حول هدف "الدولة الديموقراطية العلمانية" سيؤثر في الرأي العام الغربي والاسرائيلي. ولكن تبين انه لم يجذب الا العدد القليل من القوى اليسارية، وعارضته أخرى، بقوة. وكان ذلك من أسباب التحول الى مشروع النقاط العشر، والذي لم يخرج الا بكسب التيارات القريبة من السوفيات وحصتها متواضعة في الرأي العام المعني الأميركي - الاسرائيلي - الأوروبي، مما دفع الى طرح مشروع الدولتين لعل ذاك الرأي العام يتفهم أو يلين. ولم يؤثر بدوره، وإن شكل جسراً الى مؤتمر مدريد فاتفاق أوسلو. وذلك بعدما نُفضت اليد من العمل من خلال الرأي العام العالمي للتأثير في السياسات الدولية والاسرائيلية، وبُحث عن دخول البيوت من "أبوابها" - بيريز ورابين وادارة كلينتون - وظُن ان ذلك سيؤدي الى كسب الرأي العام. لكن أصحاب القرار هنا لا يفتحون تلك الأبواب الا بعد ان تنتقل الى مواقعهم، وبقدر ما يكون ذلك الانتقال. ومع ذلك يظل زمام الرأي العام بأيديهم فتُفتح "فرج"، وتغلق في أية لحظة كما حصل مع السلطة الفلسطينية والانتفاضة. برزت اتجاهات في الظروف الكارثية لاتفاق أوسلو وتداعياته والرهان على الادارة الأميركية وحكومات حزب العمل، تدعو الى طرح حلول للقضية الفلسطينية تعتمد في تحقيقها على كسب الرأي العام الأميركي والاسرائيلي والغربي عموماً. أي عدنا الى تجريب المجرّب مرة أخرى، مما يستوجب وقفة، بدايةً، مع موضوع الرأي العام هذا. ثمة من يعتبر ان الاخفاق في كسب الرأي العام المعني في التجارب السابقة يعود الى خلل في السابقين أو في معرفتهم، والبعض عاد بالمشكلة الى أسباب تقنية ولغة خطاب ومهنية، وقبل ذلك الى هدف الحل. ولم يروا ان المشكلة ذات شقين الأول يتعلق بالرأي العام المخاطَب نفسه، والثاني يتعلق بالوضع الفلسطيني - العربي - الاسلامي العام في ما يخص قدرته على التأثير والفعل ومدى الحساب الذي يقيمه الآخر له. ولهذا كانت كل المحاولات الفلسطينية والعربية تحرث في البحر حين كانت تطمح الى كسب الرأي العام المعني الأميركي - الاسرائيلي - الأوروبي ليعود فيؤثر بدوره على سياسات اجهزة دولته واعلامه وساسته وحكوماته. وهو ما يتكشف عن "معرفة" واهمة، قديماً وحديثاً، بمكونات تلك المجتمعات والرأي العام فيها وعلاقتها بالاستراتيجية العليا للدولة. فحسب البعض ان القضية العادلة أو الهدف الأخلاقي والانساني، أو ابراز الحقائق بصورة موثقة وصادقة وموضوعية، أو التقرب الى حد التماهي، سيفعل فعله في احداث التغيير. لكنهم نسوا انك حين تأتي الى الغرب الى "أسياد العالم" يجب أن تعلم من أنت ومن تخاطب. فأنت الذي يجب أن يتعلم ويتأثر ويتغير وليس هو، حتى لو كان المخاطَب قوة يسارية صغيرة. اذ عليك ان تأتي الى أرضها ولغة خطابها حتى تعقد معها التعاون والتحالف وتقنع نفسك بانك كسبتها. وهناك من يظن ان التماهي بالآخر واستخدام خطابه هما الطريق الى اقناعه، ولو بجزء يسير لا يدخل ضمن اهدافه ومنظومته. ولكنه سيكتشف انه واهم. ثمة مجموعة من النقاط يجب أخذها بعين الاعتبار، أو دحضها، في موضوع الرأي العام المعني: اولاً: ما هي آليات تشكل الرأي العام المذكور أو ما هي القوى والمراكز التي بيدها تلك الآليات من اجهزة الاعلام الى المؤسسات الاكاديمية الى دور النشر والتوزيع، الى القيادات النافذة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً؟ وهل يمكن اختراقها والتأثير من خلالها؟ أو هل يمكن مواجهتها بما هو أقوى منها والتغلب عليها في ميدان التأثير في الرأي العام؟ التجربة السابقة والتجربة الراهنة، وتجارب مختلف المحاولات تدل على أن كل ذلك خارج قدرتنا. فما لم ننزل الى القطبين استراتيجية فلسطينية وعربية تبطل الحل العسكري والقمع من قبل الطرف الاسرائيلي وتعطل مفعول الضغوط الاميركية، ومن ثم تحوّل الاستمرار بالحل العسكري والقمع والضغوط الى استراتيجية غير مجدية، وتجعلها مجلبة لخسائر متعددة الاوجه، فان الرأي العام المعني سيظل على ما خبرنا حتى الآن. ثانياً: كيف تفهم العلاقة بين الرأي العام ودولته في الدول الغربية والدولة العبرية؟ اي ضرورة ادراك العلاقة العضوية بينهما، مما سمح للمنظّرين بانتاج مقولة الدولة - الامة. فالعصر الحديث لم يشهد صراعاً في الدولة الغربية مع الامة - الشعب حول الاستراتيجية العليا الخاصة بطبيعة الدولة، والاهم حول الاستراتيجية العليا المتعلقة بالخارج بمعنى الاستعمار والهيمنة او التنافس الدولي وفي الحالة الاسرائيلية: اغتصاب فلسطين وتهجير الفلسطينيين والتهويد كما التوسيع بما يتعدى حدود قرار التقسيم. لقد كان الرأي العام في كل هذه الحالات في اتجاه الاستراتيجية العليا وصراعات الدولة مع من هو خارجها، بل كانت الازمات تنشأ في مراحل الاضطرار الى التراجع وليس في مراحل الاندفاع والتوسع. بل ان الرأي العام كان في اغلب الحالات امام قيادات دولته في تلك الاستراتيجية وهو ما جعل، مثلاً، عدة رؤساء للولايات المتحدة الاميركية منذ كينيدي يحجمون عن مصارحة الشعب الاميركي بأنهم يخوضون حرباً خاسرة في فيتنام، او تحمّل مسؤولية خسارتها خشية على شعبيتهم انظر مقالة دانيال السبرغ في "الهيرالد تريبيون" 30/6 و1/7/2001، ص6. هنا يجب التفريق بين التغيير في مواقف الرأي العام في قضايا داخلية لا تمس طبيعة الدولة القائمة، او قضايا خارجية لا تمس الاستراتيجية العليا، والتغيير في قضايا تمس تلك الطبيعة او هاتيك الاستراتيجية. ولهذا كانت تُصدم وتعود خائبة كل المحاولات الفلسطينية والعربية كلما حاولت الاقتراب من مسألة تدخل في نطاق الاستراتيجية العليا للدولة. ثالثاً: ثمة اتجاه لمقاربة حركة الرأي العام في قضايا التحرر مثلاً فيتناموالجزائر او الكيان العنصري في جنوبي افريقيا مع الحالة الفلسطينية. وهي مقاربة لا تأخذ في اعتبارها ان الغرب نفسه في كل الحالات المذكورة، عدا الفلسطينية، كان منقسماً دولاً ورأياً عاماً ومن ثم كان على الدولة المعنية ان تقلع شوكها بيدها وحدها، وتُطعن من الخلف والجنب من الدول الغربية الاخرى واعلامها. اما الحالة الصهيونية فتحشد من تأييد الدول الغربية ما لم تحشده فرنسا وراءها في الجزائروفيتنام، او اميركا في فيتنام، او الكيان العنصري في جنوبي افريقيا. وهذا ما لا يجوز القفز عنه عند المقاربة، او فهم خصوصية الحالة الفلسطينية وخصوصية الموقف الغربي الام من الدولة العبرية وسياساتها. ويمكن ان يضاف الى ما تقدم خصوصية الامتداد الصهيوني ونفوذه الاعلامي والسياسي والانتخابي على مستوى مختلف الدول الغربية، مما يجعل التغيير في الرأي العام في الموضوع الفلسطيني يختلف بصورة اساسية عن التغيير فيه بالنسبة الى اي نموذج عرفته تجارب حركات التحرر ضد الاستعمار، او ضد الكيانات الاستيطانية العنصرية. فهل من مقارنة مثلاً بين القوى الاعلامية المجندة للدفاع عن الدولة العبرية وسياستها، وتلك التي وقفت، إن وجدت، الى جانب الكيان العنصري في جنوبي افريقيا؟ وهل من مقارنة على مستوى الدول والمؤسسات المالية والفنية والاكاديمية والماكينات الانتخابية في الموقف من الكيانين اللذين تجمعهما العنصرية ويفرقهما كل شيء آخر؟ رابعاً: ان كل الحالات التي تغير فيها الرأي العام في دولة استعمارية تواجه حركة تحرر وطني، او في كيان عنصري يواجه اغلبية شعبية، جاء بعد انهيار استراتيجية الدولة او فشلها في امكان سحق حركة التحرير في الغالب مقاومة مسلحة واخضاع الشعب من خلال الحل العسكري والقمع. فعندما كان يتم التأكد من استحالة القضاء على المقاومة وعلى الصمود الشعبي يصبح الاستمرار في تلك الاستراتيجية ضرباً من العبث وخسائر بلا طائل. هنا كانت الفئات الحاكمة تبدأ بالتصدع لتتهيأ ظروف التحرك الاوسع فالاوسع من قبل نخب وقوى كثيرة، بعضها ينتسب الى الفئات العليا المتداولة على السلطة، من اجل التأثير في الرأي العام ليتقبل "خسارة الحرب". اما قبل الوصول الى تلك النقطة، فغالبية الرأي العام في الدولة الاستعمارية والكيان العنصري تظل مؤيدة لاستراتيجية الحل العسكري والحسم من خلال القمع. ولا يكون من نصيب القضية العادلة الا قلة قليلة من الشرفاء ممن يلعبون خارج ساحة الملعب. وبهذا لا تكون المفاوضات في بعض الحالات، او مطلب الانسحابات بلا قيد او شرط في حالات اخرى، او الاحتكام لصوت العقل، او الانتصار لعدالة القضية، او تشكل رأي عام ضاغط يأتي في آخر المراحل سبباً للنصر، او حتى العنصر الاهم فيه. وانما يجيء كل ذلك لتسهيل اخراج النتيجة بالنسبة الى هزيمة سياسية وميدانية منيت بها الاستراتيجية الرسمية. فالدور الرئيسي في الوصول الى تلك النتيجة هو للاستراتيجية المقابلة وقدرة المقاومة على البقاء وصمود الشعب في وجه الحل العسكري والقمع، ثم تشكّل رأي عام عالمي خارج الرأي العام المعني يكون ضاغطاً عليه.