أحداث الجزائر الفاجعة حرية بلفت انتباهنا الى عدالة مطلب الاعتراف بالخصوصية الامازيغية، الذي رفعه المتظاهرون بين مطالب اجتماعية وديموقراطية أخرى. أحداث مماثلة متوقعة في كثير من مجتمعاتنا التي ما زالت صمَّاء أمام المطالب الثقافية المشروعة: اللغوية، الدينية، المذهبية والاثنية التي ترفعها خصوصياتها. مخاطر انفجار هذه المطالب في مواجهات دامية تتطلب من المثقفين، الذين يلعبون بالعقل والخيال دور محطة الانذار المبكر، تبني الاعتراف بمطالب الخصوصيات في مجتمعاتنا - تلك المجتمعات التي تترصّدها حروب تفكيك نسيجها القومي لأنها لم تع بعد ضرورة احترام وترسيخ قيم الحق في الاختلاف لجميع مكوناتها الثقافية والاثنية، التي هي مدماك العيش المشترك في العالم المعاصر المستنفر ضد شتى ألوان الاختزال والاقصاء. لماذا لم تعترف مجتمعاتنا بعد بالآخر كما هو، لا كما تريد هي أن يكون؟ لأن الوعي التقليدي الاسلامي والقومي العربي، المسكون بعقدة الاضطهاد، ما يزال قروسطياً، وبالتالي متشبثاً بادراكه السلبي للآخر الذي ما يزال يسقط عليه تخيلاته في الفرقة الشريرة أو الطابور الخامس. هذا التعصب النافي للآخر ساد في تراثنا منذ انتصر هوس "الفرقة الناجية" التي تعتبر الاعتراض معارضة والمعارضة كفراً أو خيانة. اليوم أيضاً ما يزال هذا الوعي المشلول سائداً خصوصاً في الاعلام والتعليم لتوظيفهما في توعية الانسان في مجتمعاتنا: 1- بقيم الحداثة الكونية التي ترى في الخصوصيات الثقافية والاثنية رساميل رمزية في رصيد كل أمة، وفي رصيد الانسانية بتدريس تاريخ كل خصوصية للأجيال الصاعدة، لأن المعرفة مقدمة الاعتراف المتبادل، بما في ذلك تدريس التاريخ السابق على لحظة الفتح الاسلامي لصياغة وعي متجانس بهوية مشتركة. 2- بقيم الديموقراطية المتجسدة في دولة - أمة لكل مواطنيها تدمجهم جميعاً فيها بالاعتراف لهم بحقوق المواطنة السياسية، أي بالمساواة في الحقوق والواجبات مهما كانت انتماءاتهم الخصوصية. وهذا كفيل بتحرير الخصوصيات من مشاعر الاضطهاد، الدونية، الغبن، الخوف، التهميش والاقصاء السياسي الذي ما يزال يكابده في الفضاء العربي الاسلامي النساء وغير المسلمين والمسلمون من طوائف أو مذاهب أخرى. وهذه أفضل وصفة لنسف الانتماء الى الوطن بما هو أساساً قيم لتأمين العيش المشترك لا مجرد حيّز جغرافي. 3- بقيم حقوق الانسان حتى لا ينتهكها المواطن ولا يسكت على انتهاكها. ومنها قيم المساواة بين الجنسين وبين جميع الأجناس والهويات واللغات والديانات والاثنيات، احترام الحق في الاختلاف، احترام حرية الجسد، حرية التعبير، حرية التفكير، حرية الاعتقاد، حرية السفر، حرية اختيار الفرد لقيمه وتقرير مصيره في الحياة اليومية. فعدم احترام الحق في الاختلاف شكّل على امتداد تاريخنا عامل تفرقة وفصم لعرى الوحدة الطوعية، وهو اليوم ايضاً ابرز أسباب التوترات والنزاعات العقيمة التي تنخر ببطء ولكن على نحو أكيد معظم مجتمعاتنا. المثقفون، حراس هيكل القيم وخصوصاً قيم العيش المشترك، مدعوون للاضطلاع بهذه المهمات الصعبة والمثيرة في آن لطرح جميع الأسئلة المركزية التي أجّلوا طرحها حتى الآن. انه نداء مفتوح يمكن لمن أراد أن يثنّي عليه.