يبدو ان قراراً ب"اعدام" معاهدة الدفاع الصاروخي قد اتخذ. ولم يبق للطرفين، الاميركي والروسي، سوى الاتفاق على تفصيلات مراسم الدفن وأكلافها. فقد اختارت كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الأميركي لشؤون الامن القومي موسكو لتعلن ان واشنطن ستنسحب قريباً من المعاهدة ولم تسمع اي اعتراض من مضيفيها الروس على رغم ان هؤلاء رسموا في الماضي سيناريوات مرعبة تنتظر العالم في حال نفّذت واشنطن نيتها بنشر شبكة الردع الصاروخي وتخلت عن بنود المعاهدة المبرمة عام 1972 والتي صارت منذئذ اساساً للتوازن الاستراتيجي. وتغيير الموقف الروسي سيكون مخيباً لآمال الاوروبيين والصينيين الذين كانوا راهنوا على "عناد" موسكو لمواجهة تعنت الولاياتالمتحدة وتجاهلها المعاهدات والمواثيق التي تعتبر واشنطن انها فصلت على مقاسات دول اخرى ولم تعد تناسب المارد الاميركي. ولا يأخذ احد على محمل الجد بيانات وزارة الخارجية الروسية التي تحاول تأكيد ان رصاصة الرحمة لم تطلق على المعاهدة. فالواضح ان موسكو اخذت قراراً مبدئياً وهي تساوم للحصول على ثمن معقول. وبعيداً عن المبارزات الاعلامية يتحدث الساسة الروس وراء الكواليس عن ضرورة الاعتراف ب"فارق الوزن" ويقولون ان روسيا التي لها 3 ثلاثة! في المئة فقط من الانتاج الصناعي العالمي لا يمكن ان تدخل سباق تسلح مع الولاياتالمتحدة التي وصلت حصتها الى 25 في المئة من الانتاج العالمي. ويؤكد هؤلاء ان الاميركيين مصممون على الانسحاب من المعاهدة سواء رضي الروس ام رفضوا. ولذا فإنهم يرون ان من الافضل الاتفاق على معادلة جديدة للامن الاستراتيجي. واخيراً فان انصار "الاستسلام المشرّف" يتحدثون عن امكان الحصول على دعم اقتصادي والغاء اعتراضات اميركية على قبول روسيا عضواً في منظمة التجارة العالمية. وفي معرض تفسير "الانقلاب" في الفكر الاستراتيجي الروسي استند الرئيس فلاديمير بوتين الى ما سمعه في جنوى من نظيره الاميركي جورج بوش عن ان الولاياتالمتحدة لم تعد تعتبر روسيا عدواً. لكن هذه الحجج لم تقنع الكثيرين في موسكو. ويرى خصوم "الانبطاح" ان قبول المسوغات المذكورة يعني الاقرار بأن روسيا لم تعد دولة كبرى. وهم يشيرون الى ان "من يعطي اصبعاً يغامر بأن تقضم يده". ويحيلون بوتين الى التجربة المريرة لغورباتشوف الذي وافق على هدم جدار برلين وانهاء حلف وارسو في مقابل وعود ظل اكثرها مجرد طنين في الآذان. والمرتابون بصدقية الولاياتالمتحدة يشيرون الى أنها تقسم اغلظ الايمان على ان شبكة الردع الصاروخي ستقام لمواجهة اخطار كورية وايرانية او عراقية، في حين تقيم واشنطن قاعدة للصواريخ الاعتراضية في... الاسكا القريبة من روسيا والصين. والارجح ان سيد الكرملين على بيّنة من هذه الاعتراضات لكنه يبني سياسته على حسابات اخرى شرحها لهنري كيسنجر حيث قال ان الاستقرار الاستراتيجي مهم، لكن الاهم هو اندماج روسيا في المجتمع الدولي. وهذه العبارة، حينما تقال الى عميد الديبلوماسية الاميركية، يمكن ان تقرأ ايضاً على النحو التالي: نقبل الغاء المعاهدة في مقابل رضى الولاياتالمتحدة واعترافها بمصالح لنا هنا او هناك.