كنا، معشر الصحافيين، نعمل في بيروت ليلاً، وننتهي من العمل في حوالى منتصف الليل، ونقصد المقاهي المعروفة، في الحمراء أو الروشة وأماكن اللهو، ولا نعود الى بيوتنا إلا مع تباشير الصباح. وعندما عملت في المملكة العربية السعودية، وجدت ان التقليد الصحافي هناك هو نفسه في بيروت ولكن من دون اسباب اللهو، وأعرف انه هو هو في كل بلد عربي. في لندن اصبحنا نعمل كموظفين بدوام رسمي، فالعمل يبدأ في وقت متأخر من الصباح، وينتهي في حوالى السابعة او الثامنة مساء، وهو موعد بدء العمل في صحف بلادنا. وأبرز ما في هذا التغيير اننا لم نعد ننام بعد الظهر، فأهم جزء من العمل موعده ساعات القيلولة التقليدية في بلادنا، وربما فسّر هذا لماذا تقدموا علينا، فهم ينشطون ونحن نيام. قبل أيام اعددت ابريق قهوة تركية، ولم أجد من يشرب معي، فشربت اربعة فناجين أو خمسة، وفوجئت بأنني لا أستطيع النوم. وتقلبت في الفراش حتى الثانية صباحاً، ثم نهضت وارتديت ثيابي، وخرجت امشي في شوارع لندن، وقد عادت إلي ذكريات بيروت التي عرفتها في الليل بقدر ما عرفتها في النهار. كانت الحرارة معقولة ولا مطر، فسرت بلا هدف في شوارع شبه خالية حتى وصلت الى ميدان بيكادلي، حيث كثر الناس، فعلى رغم إغلاق دور السينما والمسارح قبل ساعات، فإن هناك من أسباب اللهو ما يجمع طلابه في المنطقة كل ليلة. وبما انني لم أعد أتقن من أسباب اللهو غير لعب الطاولة، فقد وجدت نفسي أفكر في الناس الذين يعملون ليلاً، مثل موظفي كازينوهات القمار والملاهي الليلية وبعض سائقي التاكسي الذين يفضلون العمل ليلاً لقلة الازدحام وغيرهم. لم أفكر كثيراً، فقد ضايقني وجود مخمورين كثيرين ومشهد المشردين ينامون عند أبواب المتاجر المغلقة، وعدت عبر شوارع فرعية، وفوجئت بمقهى إنترنت مفتوحاً، والساعة حوالى الرابعة، ورأيت عبر الزجاج عدداً من الشبان والشابات يعملون امام الشاشات الصغيرة. وأعرف ان التكنولوجيا الجديدة نوع من الإدمان، إلا أنني أرجح ان استخدام خدمات الإنترنت المختلفة ارخص ليلاً. كانت العتمة بدأت تنجلي في حوالى الخامسة أو بعدها، ووجدت انني أقف امام "سوبر ماركت" من النوع الذي يفتح 24 ساعة في اليوم كل ايام السنة، فدخلت وأنا أسأل نفسي أنه إذا كان "السوبر ماركت" مفتوحاً دائماً فلماذا يحتاج الى أبواب وأقفال. فوجئت بوجود زبائن، ولم أفهم كيف يستيقظ انسان في الخامسة صباحاً وقد تذكر انه بحاجة الى شراء باذنجان أو سكّر من "السوبر ماركت". ولم أشتر شيئاً لأنني اخترت ألاّ أحمل اكياساً وأنا أمشي، وعدت الى البيت حوالى السادسة صباحاً، وقد عادت باصات النقل العام الى الحركة. كان ذلك قبل ايام، وقد فتشت بعد ذلك عما قد يفعله العربي من زوار لندن وهم كثر في الصيف، إذا لم يستطع النوم لأنه شرب ابريق قهوة، أو لأنه عاشق. أغرب ما وجدت ان ثمة خدمة على الإنترنت تؤمن للراغبين زيارة البيوت المسكونة ليلاً. غير انني لا أفهم ان يحاول انسان ان يخيف نفسه، فأسباب الرعب، خصوصاً للعربي، تحيط به من كل جانب، وهكذا عدت الى البحث ووجدت ان مؤسسة حماية الوطواط الخفّاش تؤمن لأعضائها حفلات ليلية لمراقبة هذا الطائر ليلاً. وما أعرف عنه هو انه لا يبيض، وإنما يلد كالحيوانات اللبونة، إلا ان هذه المعلومة لا تستحق سهر الليل لأعرف إن كانت صحيحة أو خاطئة. ولعل الشيء الوحيد المفيد فعلاً في ليل لندن هو اكتشافي ان المتحف البريطاني ومتحف العلوم، يستضيفان الصغار ليلاً، وتقدم لهم اسرّة للنوم بعد قضاء اكثر الليل في نشاطات ثقافية أو علمية. والزائر العربي يستطيع ان يضطهد ابناءه بهذا الشكل، إذا كان يريد ان يضمن رفضهم مرافقته في الصيف القادم. غير انني سأنتقم للأولاد باستغلال الفرصة لتقديم بعض الفائدة اللغوية من وحي الليل، ففي القاموس ان الليل اسم جمع، واحده ليلة، والتاء هنا اسمها "تاء" الوحدة، مثل تفاح/ تفاحة. والليل مبدؤه غروب الشمس، والنهار ضد الليل ولا يجمع. فلا يقال نهار/ نهاران، وإنما يوم/ يومان/ أيام. والنهار من طلوع الشمس الى غروبها، وفي القرآن الكريم: "جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا". ولكن في القرآن الكريم أيضاً: "وذكرهم بأيام الله"، والمقصود هنا نعم الله. اما ايام العرب فهي وقائعها. ونقول ياوم عامله ومياومة، اي استأجره ليوم. واليوم الأيْوَم آخر أيام الشهر، أما ليلة ليلاء فتعني ليلة صعبة طويلة، والأرجح أنها مأخوذة من المعنى الأصلي، فهي آخر ايام الشهر العربي واسمها سبب لظلمتها. وأحفظ بيتاً جميلاً من الشعر هو: يا ليل بل يا أبد أنائم عنك غد وللفرزدق بيت أرجو ألاّ أخطئ في نقله هو: والشيب ينهض في السواد كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار. أما المتنبي، فقد صغر الليلة، والتصغير من هواياته اللغوية، ثم جاء ببيت من الشعر يكاد يكون لغزاً هو: أحاد أم سداس في احاد لييلتنا المنوطة بالتنادي والتنادي هنا كناية عن القيامة، وهو يقول ان ليلته الواحدة تبدو كست ليال، أو بطول الدهر. وأجمل من ذلك وأقرب الى الفهم: أزورهم وسواد الليل يشفع لي وانثني وبياض الصبح يغري بي وأعتقد انني قلت ما يكفي ليطير النوم من عيني القارئ حتى من دون ابريق قهوة تركية، فأعتذر واختتم معترفاً بأنه في بلادنا تسهر الحكومة، واللصوص... والصحافة.