ذات عام، أيام الحرب الباردة، أصدرت "مؤسسة فرانكلين" الأميركية التي عرفت بارتباطها بمراكز اتخاذ القرار في واشنطن، وربما بتنسيقها مع الأجهزة الايديولوجية في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، أصدرت كتاباً حمل عنواناً اقتبست صياغته من مسرحية اغريقية مشهورة: "سبعة ضد البشرية". وكان السبعة الذين يشملهم هذا العنوان الاستفزازي والموحي، كبار المفكرين العقلانيين الذين عرفهم التاريخ المعاصر خلال القرون الأخيرة، من نيوتن الى كارل ماركس، ومن دارون الى فرويد... أما المركز الأساس بين هؤلاء فحفظ لجان - جاك روسو. وفحوى الكتاب ان هؤلاء في اخضاعهم تاريخ البشرية وآمالها وصورتها عن نفسها لمبادئ العقل، انما نسفوا كل الأساطير التي كانت البشرية صاغتها عن نفسها ووجودها: أصلها الالهي، مركزية الأرض في الكون، التربية، العلاقات الاجتماعية، الى آخر ما هنالك. وكان نصيب روسو في الهجوم، انه بعدما كان الانسان يتصور ان العلاقات العريقة العتيقة بين البشر، كانت سماوية الطابع مجردة، جاء صاحب "العقد الاجتماعي" يقول ان بداية العلاقات مادية بحت، وان التجمع البشري لم يقم الا من جراء تنازع البشر على ملكية الأرض وملكية كل شيء بعد ذلك. غير ان ذلك الكتاب، الذي كان - كما هو واضح - يرجح مبدأ كذب الإنسان على نفسه وأسطرته لوجوده، على مبدأ تفحص الأمور في شكل عقلاني، ونعني هنا كتاب "سبعة ضد البشرية" لا كتاب "العقد الاجتماعي" بالطبع، لم يكن أول من هاجم روسو في عقر دار أفكاره. بل ان هذا المفكر الفرنسي - الذي قد يكون من الصعب الموافقة على انه فيلسوف - كان عرضة للهجوم منذ وقت مبكر، كما كان موضع دفاع حار عنه. ولنتذكر ها هنا كيف ان "زميليه" في حركة التنوير الفرنسية ديدرو وفولتير كانا الأقسى في الهجوم عليه. إذ وصفه ديدرو بأنه "مسعور" بينما قال فولتير عنه "ان هذا الرجل ممسوس كئيب... انه عدو للطبيعة البشرية". وفي المقابل اعتبر روسو فيلسوف التعساء، في مقابل اعتبار فولتير صاحب "فلسفة الناس السعداء" برناردان دي سان - بيار. غير ان هذا كله لا يقلل من أهمية روسو في تاريخ الفكر وتاريخ التنوير. تلك الأهمية التي يقر له بها، بين آخرين، برتداند راسل الذي يفرد له مكانة كبيرة وأساسية في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" ناسجاً على منوال ماركس وهيغل وآخرين كانوا يرون في روسو اول مفكر وضع قواعد اساسية وصائبة لدراسة العلاقات - الاجتماعية - بين البشر. طبعاً لم يكن "العقد الاجماعي" كتاب روسو الوحيد، ولا يمكن اعتباره الأكثر شهرة بين مؤلفات تحفل بأعمال لا تزال حتى اليوم تُقرأ على نطاق واسع مثل "اميل أو التربية" و"ايلائيز الجديدة" و"الاعترافات". لكن "العقد الاجتماعي" يتخذ مكانته من كونه الكتاب الوحيد الذي يجعل لروسو مكانة في الفكر الفلسفي والفكر الاجتماعي سواء بسواء، بينما نجد ان كتبه الأخرى والأكثر ذاتية تعطيه مكانة متميزة في عالم الأدب والتأمل. نشر روسو كتابه هذا "العقد الاجتماعي" العام 1762 في باريس وكان في الخمسين من عمره. ولئن كان راسل يرى ان النظريات التي يبسطها روسو في هذا الكتاب "تخدم الديموقراطية من طرف اللسان، لكنها تميل الى تبرير الدولة المستمدة" فإن عامة القراء لم يغوصوا، ابداً، في هذا الكتاب الى درجة حذوهم حذو راسل في تفسيره وتأويله. هؤلاء القراء - وهكذا كان الكتاب فاعلاً حقاً بالنسبة اليهم - اعطوا المكانة الأولى لتأكيدات أوردها روسو في كتابه منذ الصفحات الأولى حيث وجدوه يكتب: "لما كنت قد ولدت مواطناً في دولة حرة، وعضواً في دولة ذات سيادة، فإنني أشعر انه مهما يكن من ضعف نفوذ صوتي في الشؤون العامة، فإن حقي في التصويت على هذه الشؤون يجعل من واجبي دراستها". والواضح ان ما يدعو اليه روسو هنا انما هو المواطنة بالمعنى الحديث للكلمة، وروسو يرى في كتابه ان الديموقراطية أفضل الأنظمة في الدول الصغيرة، بينما تُفضل الارستقراطية في الدول متوسطة الحجم، والملكية في الدول الكبرى. ولا يخفي روسو، على أي حال، تفصيله للدول الصغرى لأنها "تجعل الديموقراطية قابلة للتطبيق". غير ان الأكثر أهمية من هذا كله هو ان روسو يؤكد ان "الإنسان ولد حراً، لكنه الآن في كل مكان مكبل بالأغلال. الفرد يظن نفسه سيداً للآخرين، ولكنه في الحقيقة أشد عبودية منهم". وروسو ينطلق من هذه المقدمة ليقول ان مرجع عبودية الإنسان هو العقد الاجتماعي الأول الذي نتج عن تطور في حال الطبيعة جعل الوقت يموت لكي لا يعود في وسع الأفراد ان يحافظوا على استقلالهم البدائي الأصيل، وغدا من الضروري لهم ان يشكلوا مجتمعاً يتحدون فيه. وهكذا "رهن الفرد حريته لمصالحه الاقتصادية والاجتماعية". ومن هنا فإن روسو يرى ان الحاكم الحقيقي الذي يطغى ويحد من حرية الفرد انما هو الجماعة لا الحاكم الفرد أو الملك، حيث ان ارادة الحاكم انما هي، في الحقيقة، نتيجة للإرادة العامة". وفي هذا الاطار يكمن لب نقد راسل لنظرية روسو، إذ ينطلق مما يلاحظه من "غموض نظرية الإرادة العامة". ترى هل كان روسو في "العقد الاجتماعي" يدعو الى شيء أم كان يرغب في مجرد استعراض التاريخ الاجتماعي للبشرية، وتحديد جذور تخلي الإنسان عن حريته؟ ليس من السهل الاجابة على هذا السؤال، إذ ان روسو يبدو في ختام كتابه مشوش الفكر عاجزاً عن الخروج بنظرية. ترى أوليس من أجل هذا التشويش اعتبر غوته، كاتب المانيا الكبير ان "فولتير كان الاشارة الى نهاية العالم القديم، بينما كان روسو اشارة ولادة العالم الجديد؟ وأَلَيس في غياب اليقين لدى روسو اشارة لولادة الحداثة الفكرية التي أخذت، أمام تعقد الواقع وتضارب المصالح والأهواء تبدو أكثر عجزاً من أن تأتي بحلول؟ وألم يكن ماركس يفكر بروسو حين قال في واحدة من اطروحاته الشهيرة حول فويرباخ، ان الفيلسوف اكتفى حتى الآن بتفسير العالم، بينما المطلوب الآن تغييره؟ لقد رحل جان - جاك روسو عن عالمنا في العام 1778 اي انه لم يشهد اندلاع تلك الثورة الفرنسية، التي لا شك انه أملها كثيراً، ولسوف يقال دائماً ان افكاره - ولا سيما في "العقد الاجتماعي" - كانت محركاً لها، كما قيل ان تلك الأفكار تبدو وكأنها تبرر سلفاً كل الطغيان والعنف الذي عرفته تلك الثورة. وإذا كان نيتشه قد تحدث لاحقاً عن روسو على أنه "ذلك الرجل العصري الأول، المثالي والوغد في شخص واحد" فما هذا إلا لأن هذه التناقضات التي ملأت وجود روسو، هي التي جعلته حديثاً الى اقصى حدود الحداثة. وروسو ولد العام 1712 في جنيف ليتوفى العام 1778 في ارمانوفيل بفرنسا. ومنذ طفولته تأثر جان - جاك روسو بأبيه البروتستانتي الذي عاش متشرداً وكان قارئاً نهماً استفاد الفتى من قراءاته. لكن الأب سرعان ما تخلى عن ابنه الذي عاش حياة متقلبة بائسة، جعلته ذات مرة ترجماناً لنصاب ايطالي يسرق باسم الدين والفقراء. لاحقاً ابدى روسو اهتمامات فنية وانضم الى ديدرو في موسوعته مزوداً اياه بكل المعلومات الضرورية للموسوعة عن الموسيقى. وتنوعت اهتماماته الموسيقية بعد ذلك، ثم خاض الأدب والفلسفة وشؤون التربية، متقلباً تقلب حياته، مصارعاً السلطات الكنسية وزملاءه ولا سيما منهم فولتير الذي سيسبقه الى العالم الآخر بشهر واحد في العام 1778 كما أسلفنا.