بين ليلة وضحاها، يصبح الممثل مخرجاً، والمخرج مؤلفاً، والناقد ممثلاً، والممثل ناقداً... فتتداخل صفات الاختصاص في شكل يدعو الى الدهشة والتساؤل هل هذه الظاهرة لعبة غير مسؤولة، أم ظاهرة صحية، أم هي بدورها نوع من "الفانتازيا" التي تجاوزت المفاهيم واخترقت الجدران وألغت منطق الزمان والمكان. هذه الظاهرة تجتاح اليوم الوسط الفني في سورية، كأنها أمر محتوم من طقوس الفن، أو افرازات مدرسة فنية عصرية، لا ترى فارقاً أو تميزاً، بالاختصاص على الأقل، بين المؤلف والممثل والمخرج والناقد. وقد ينضم الى هؤلاء فنّي الاضاءة أو عامل الديكور أو عنصر من الكومبارس وما حدا أحسن من حدا. ومن دون محاولة الاساءة الى أحد، نحاول ان نرصد نماذج من هذه الظاهرة، ابطالها ثلاثون ممثلاً، بعضهم من النجوم، تحولوا في المدة الأخيرة مخرجين أو مؤلفين، معتمدين المشاهدة أو المتابعة أو الممارسة، من دون الالتحاق بأي معهد أو أي دورة تأهيلية تذكر. وقبل هذا نستدرك فنقول إن ظاهرة "المخرج المؤلف" مثلاً موجودة فعلاً، في السينما العالمية خصوصاً، وقدم الينا أصحابها أعمالاً مميزة، لكنها ظلت محصورة في عدد من المخرجين الأعلام، ولم تصبح مجازفة أو مزاجاً أو استرزاقاً أو مقامرة جميع المخرجين السينمائيين اليوم يكتبون نصوص أفلامهم بأنفسهم. نوعان من الفنانين والمعروف ان الفنانين السوريين، عموماً، ينقسمون فئتين: - الفئة الأولى يدخل فيها نجوم وعناصر من الرعيل الأول الذي لم تتح له فرص التأهيل الأكاديمي أو الدراسة العليا، أو الاطلاع الثقافي والفني، فنهض معتمداً الرغبة في دخول ميدان الفن، وموهبة كان يأنسها مبكرة لديه. هذا الجيل تعب كثيراً وضحى كثيراً... بعضه قضى مأسوفاً عليه، والبعض الآخر، أطال الله عمره، أدرك النقلة النوعية الهائلة التي حدثت في ميادين الفن، كالانتقال من المسارح الشعبية الفقيرة الى المسارح الرسمية، والمشاركة في أعمال الاذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما والفضائيات، فحاول مجتهداً أن يلحق بواقع التطور وان يسهم بفاعلية فيه، كما هو الأمر مثلاً لدى الفنان المخضرم سعد الدين بقدونس الذي لا يزال على ساح الفن يعطي منذ ستين عاماً. - الفئة الثانية تضم ابناء الجيل الجديد من الفننين. بعضهم انتسب الى المعهد العالي للفنون المسرحية ليتابع التأهيل العالي والأكاديمي قبل أن يخرج الى العمل، والبعض الآخر، خصوصاً الفنانات، أراد أن يختصر الطريق، فتنكب الدراسة والتأهيل الأكاديمي ودخل عالم الفن بطريقة أو أخرى، ووصل عدد منهم في سرعة قياسية الى النجومية، بل حجب الكثير من الفرص عن الفنانين الخريجين والمؤهلين. ولما لم يكن هناك قسم للاخراج في المعهد العالي للفنون المسرحية، إذ لا تزال الدراسة فيه مقتصرة على قسمي التمثيل والنقد، حاول عدد من هؤلاء الخريجين أن يتجه الى الاخراج، اضافة الى التمثيل، بعدما رأى عدداً من فناني الرعيل الأول، أو من جيل الوسط، يتنطح الى مهمة الاخراج معتمداً الخبرة التي اكتسبها خلال العمل ممثلاً ومن خلال مراقبة المخرج وهو يعمل على المسرح أو خلف الكاميرا، خصوصاً بعدما توهم الجميع ان الاخراج المسرحي يمكن أن يتم من دون اعداد مسبق ومرسوم، وان الاخراج التلفزيوني أصبح أكثر سهولة بطريقة الكاميرا الواحدة المحمولة، والخروج بها من بين جدران الاستوديوهات و"سويتش" الاخراج ذي الأزرار التي تحرك ثلاث كاميرات في الاستوديو على الأقل. ثلاثون ممثلاً... أصبحوا مخرجين الممثلون الذين تحولوا مخرجين قد يتجاوزون الثلاثين، ومنهم: حاتم علي ونائلة الأطرش وعباس النوري ووائل رمضان ودريد لحام وطلحت حمدي وهاني الروماني وغيرهم. نقف مع آخر القافلة، مع الممثل الشاب وائل رمضان الذي أعلن أخيراً تحوله الى الاخراج، وبدأ "بروفات" عمل مسرحي جديد للكاتب والشاعر محمد الماغوط يعده ويخرجه ويمثل فيه. ومنذ مدة، فاجأنا الممثل عباس النوري بأنه أصبح من المخرجين التلفزيونيين وأخرج للتلفزيون العربي السوري بعض السهرات التلفزيونية المفردة أو ذات الحلقات القليلة. وكان حاتم علي أبرز الممثلين الذين تحولوا الى التأليف فكتب عدداً من الأعمال التلفزيونية، ثم تحول الى الاخراج وقدم عدداً من الأعمال الدرامية مثل "الزير سالم" و"الفصول الأربعة" و"مرايا"... وهو يخرج الآن مسلسلاً عن صلاح الدين الأيوبي. ودرست نائلة الأطرش التمثيل. ثم انتقلت الى اخراج بعض المسرحيات، ومنها واحدة لسعدالله ونّوس، لتنتهي مسؤولة ادارية في المعهد العالي للفنون المسرحية. دريد لحام أعلن أخيراً انه أفضل من يمكنه اخراج أعماله، وكان هذا التبرير كافياً لأن يخرج أعماله الأخيرة بنفسه. طلحت حمدي سبق أكثر الفنانين بالتحول من التمثيل الى الاخراج المسرحي ثم الى التلفزيون. ثم أعلن حديثاً، عن موهبة جديدة له، هي التأليف. إذ ألّف عدداً من الأعمال التلفزيونية، بعضها من انتاجه وبعضها من انتاج غيره. وانتقل هاني الروماني، الممثل المخضرم، الى الاخراج منذ أكثر من ربع قرن. لكنه ظل طويلاً يحاول الجمع بين التمثيل والاخراج. إلا ان صفة المخرج طغت عليه أخيراً، وقد أنهى لتوه الجزء الرابع من مسلسل "حمام القيشاني". واحة الراهب توجهت الى الاخراج السينمائي بعدما درست الاخراج في فرنسا، الى جانب التمثيل. وكان فيلمها الأول "جداتنا" الذي نالت عنه جائزة مهرجان دمشق السينمائي. ومع تباطؤ العمل في مؤسسة السينما، تحولت الى الاخراج التلفزيوني، لكنها لم تنسَ انها ممثلة. فكانت تجمع بين التمثيل والاخراج ولا تزال. وكان سليم صبري من أشهر ممثلي المسرح القومي وانتقل الى الاخراج الى جانب التمثيل، كذلك رفيق سبيعي وثراء دبسي، وهما نجمان في التمثيل، تحولا الى الاخراج الاذاعي، مع الرجوع احياناً الى الوقوف أمام الكاميرا ممثلين من الجيل المخضرم. مظهر الحكيم انتقل من ممثل الى مخرج، وكان قبلاً انتقل الى الانتاج، وهو يخرج الآن وينتج مجموعة أعمال لمصلحة شركته. وحديثاً تحول الممثل باسم ياخور الى الاخراج المسرحي، فأخرج باكورة انتاج التجمع الفني الجديد الذي شكله، مسرحية "الرجل المتفجر". كذلك انتقل محمد الشيخ نجيب، بدوره، من التمثيل الى الاخراج التلفزيوني، والممثل ماهر صليبي الى الاخراج المسرحي، أما أيمن زيدان الممثل الذي تابعنا أدواره الكثيرة في المسلسلات الدرامية والكوميدية، فتحول اخيراً مخرجاً تلفزيونياً، وكانت تجربته الأولى "ليل المسافرين"، ثم اتجه الى اخراج اغاني الفيديو كليب، لينجز أغنية للمطربة ميادة بسيليس عنوانها "هوى تاني". أما الممثلان غسان مسعود وجمال سليمان فأخرجا عدداً من المسرحيات للمعهد العالي للفنون المسرحية، إضافة الى كونهما مدرسين فيه. وفجأة تحول عابد فهد مخرجاً مسرحياً، فأخرج مسرحية "من حجر اتيت"، ثم تحول - فجأة أيضاً - مخرجاً تلفزيونياً. وبعد سنوات طويلة في الاخراج التلفزيوني، قرر المخرج علاء الدين كوكش أن يتحول الى التأليف، وجهز نصوصاً من تأليفه لاخراجها. وعلى رغم الأدوار المهمة التي قام بها جهاد سعد ممثلاً على المسرح والشاشة، يرى نفسه أكثر في الاخراج المسرحي. فأخرج أخيراً للماغوط "خارج السرب"، ومسرحية "سيف الدولة الحمداني" ومثل دور البطل فيها. وببساطة شديدة انتقلت الممثلة سوزان الصالح من التمثيل الى الاخراج لتقدم باكورة أعمالها، وأخرج الممثل زكي كورديلو عرض "ظل ونور" في قصر العظم، والممثل هشام كفارنة مسرحية "الغزاة"، والممثل طلال نصر الدين مسرحية "الديك"، والممثل محمد إله رشي مسرحية "خطوات"، والممثل نضال سيجري مسرحية "المقهى الزجاجي"، والممثل فايق عرقسوسي مسرحية "الليلة الثانية بعد الألف" والممثل سامر المصري مسرحية "صدى"، والممثل رافي وهبة مسرحية "كاريكاتير"، ويتهيأ الممثل ياسر عبداللطيف لاخراج عمل مسرحي جديد. ولا تزال هناك "طموحات" من هذا النوع تداعب خيال الممثلين، ولعلنا قد نفاجأ بعدد آخر منهم يتحول الى الاخراج أو التأليف. ولعل المفارقة الطريفة، في هذا المجال، ان احد "النقاد" هاجم مسلسلاً لأحد المخرجين، ثم فوجئنا به ممثلاً في المسلسل التالي لذلك المخرج.