على حساب الدعوة للتحديث الليبرالي والاشتراكي التي تضافرت عوامل متداخلة على اعاقته، اخذت تتسع الظاهرة الدينية المستندة جماهيرياً الى قاعدتها المجتمعية الريفية والقبلية المهملة وذلك بعد هزيمة حزيران يونيو 1967 والى يومنا هذا. الا ان الجانب السوسيولوجي على أهميته لا يفسر الظاهرة بمختلف ابعادها ذلك ان الظواهر التاريخية لا يمكن ردها الى عامل واحد بعينه. وهذا ما ينطبق على الظاهرة الاسلامية المعاصرة. وأرى ان هذه الظاهرة يمكن ردها الى العوامل الثلاثة التالية مجتمعة: 1- ان البديل التحديثي المتمثل في المشروع الوطني او القومي العصري بمختلف اشكاله في المجتمعات الاسلامية لم يتمكن من تقديم الحل التاريخي النهائي لهذه المجتمعات سواء لاسباب داخلية تتعلق بضعف قدرته على البناء وعلى التجذر العقائدي في ضمير الناس وقناعاتهم، او لاسباب خارجية تتعلق بشراسة الهجمة التي تعرض لها - خصوصاً في ما تعلق بالمشروع الناصري في مصر لما مثله من تحد ضد المصالح الغربية واسرائيل. وعلى رغم استمرار المؤسسة العسكرية العصرية التي تبنت حركة يوليو تموز قاعدة للسلطة في مصر فمن الواضح ان نقيضها الاساسي والخطر هو التيار الديني، كما هي الحال في بلدان عربية واسلامية اخرى حيث يقف الجيش والدولة في جانب وتحت حمايتهما الفئات العصرية، بينما يقف في الجانب الآخر التيار الديني بزخمه الجماهيري. اما في ايران فقد اجهض المشروع الوطني التحديثي المتمثل في حركة مصدق منذ بدايته، وعمل نظام الشاه على تقديم بديل عصري آخر مستمد من تقاليد الملكية الفارسية، على ورغم ان نظام الشاه دفع حركة التنمية والنمو الاقتصادي في ايران خطوات الى أمام، وهذا ما يتضح اليوم من استمرار طبقة وسطى في ايران، يستند اليها التيار السياسي الحالي المعتدل داخل نظام الجمهورية الاسلامية ذاتها - الا ان نظام الشاه اوصل نفسه الى طريق سياسي مسدود بفعل استبداده وفساده، وتردده في تحقيق تطور سياسي يتماشى مع التطور الاقتصادي الذي احدثه مع تطلعات القوى الاجتماعية التي اطلقها، فانقلبت عليه في النهاية، وهذا محذور يبقى قائماً بالنسبة لأي نظام سياسي لا يتطور ديموقراطياً مع نموه الاقتصادي والاجتماعي كما يحدث اليوم في اندونيسيا، غير ان هذا موضوع آخر نكتفي بالاشارة اليه لانه لا يندرج ضمن اطار هذا البحث، وان كان يستحق التأمل في ضوء الاوضاع العربية الراهنة التي لا يتماشى تطورها السياسي مع نموها الاقتصادي في اغلب الاحوال. والمحصلة في ما يتعلق بايران ان نظام مصدق الوطني اجهض، وان نظام الشاه جمد ذاته سياسياً الى ان انهار، فانفتح المجال واسعاً امام التيار الديني الذي ساد الساحة حيث اخفقت المعارضة اليسارية. وفي السودان ادى اخفاق النظام العسكري للنميري والنظام البرلماني للاحزاب التقليدية التي اتضح انها لم تتطور منذ الاستقلال وظلت تمثل التركيبات العشائرية والدينية، ادى هذا الاخفاق الى تهيئة الجو امام الجبهة القوية الاسلامية لاستلام السلطة بالتحالف مع العسكر في ما يشبه التجربة البعثية في التغلغل الى الجيش في المشرق العربي في وقت سابق. وهذا يعني ان دور "الضباط الأحرار" لم ينته بعد، وان كانوا هذه المرة: "الضباط الاحرار... الاسلاميين" وكان محرضهم الايديولوجي في السودان حسن الترابي، بينما كان في سورية اكرم الحوراني الذي ننصح الترابي بدرس تجربته جيداً في ما يتعلق بتسييس الجيش لاستخدامه جسراً للسلطة مع ما يعتري ذلك من المحاذير التي يتعرض لها راكب النمر... لا يدري متى ينقلب عليه! وعلى رغم ذكاء الحوراني السياسي الشديد، فإنه لم يستطع البقاء في السلطة على حساب العسكر لأن السلطة تبقى لمن يستحوذ عليها. ولا نعتقد ان الترابي سيكون استثناء لهذه القاعدة. وعلى رغم ان تركيا - في الجانب الآخر - شهدت اكثر المحاولات التحديثية علمانية استمراراً وقوة - لتعاطف الغرب معها - فإنها على رغم ذلك تشهد اليوم صعوداً لتيار ديني لا يمكن التقليل من قوته، الامر الذي يشير الى انه لا يكفي استمرار المشروع التحديثي العصري وتناميه طالما انه لا يكتسب المشروعية العقائدية في نفوس الشعوب المسلمة ويتحدى معتقداتها الاساسية من دون تجديد من صميم ذاته لمفهوم هذه المعتقدات لديها. وتقدم ماليزيا في الافق الآسيوي البعيد نموذجاً مغايراً للتأثر بالموجة الدينية والتفاعل معها بنهج اكثر ذكاء ومرونة من النظام العلماني التركي وغيره من الانظمة العربية. كما انها تقدم في الوقت ذاته نموذجاً مناقضاً لنموذج "طالبان" الافغاني من حيث تعبيرها عن الوجه الاعمق والاكثر خصوبة وانفتاحا وتسامحاً في الاسلام. وليس من المبالغة القول ان مستقبل العالم الاسلامي يتأرجح بين النموذجين الافغاني المرتد الى وراء والماليزي الذي يمثل محاولة جادة للتعامل ايجابياً مع العصر وحركة التاريخ. ان النظام الماليزي الذي يمثل اندماجاً خلاقاً بين التراث السياسي السلطاني التاريخي وبين التجديد الديموقراطي الدستوري الحديث المتدرج... هذا النظام قائم ومستمر ولا يبدو - على رغم أزماته - انه معرض للاخفاق، فلقد استطاع بذكاء استيعاب الإحياء الديني من داخله وضمن حزبه الحاكم ونخبه القيادية، ولم يدخل في صراع بقاء معه على الطريقة التركية او الطريقة الثورية العربية. ان التجربة الماليزية الجامعة بين التراث السياسي التاريخي للنظام السلطاني وبين التجديد الديموقراطي البرلماني الغربي وبين الإحياء الاسلامي السلمي الجديد من الداخل، لهي من اكثر التجارب الاسلامية جذباً للاهتمام وهي تجربة تدعم الفكرة القائلة ان التطور الاصلاحي المتدرج والمستوعب لمختلف عناصر التراث والتحديث في الوقت ذاته اضمن مردوداً من البديل الثوري المستند الى العنف سواء كان علمانياً او دينياً. وفي ما يتعلق بموضوعنا فإن النموذج الماليزي يدل على انه لا بد من اخذ الإحياء الديني في الحسبان حتى لو لم يخفق البديل القومي التقليدي او التحديث، لأن هذا البديل القومي اياً كان يكتسب شرعية اعمق من جراء تصالحه مع الاسلام. هكذا فعلى امتداد منشور قوس قزح بتعدد الوان الطيف السياسي في العالم الاسلامي من مصر الى ايران الى السودان الى تركيا الى ماليزيا باختلاف تجاربها اخفاقاً او نجاحاً نرى ان الموجة الدينية تؤكد حضورها. والفارق يكمن بين من يستوعبها بمرونة وذكاء فيخفف من تطرفها ومن يقاومها بعنف وقلة حكمة فيزيدها اشتعالاً. لكنها في كل الاحوال حقيقة قائمة في اللحظة التاريخية الراهنة، في اقل تقدير، لا يمكن التغافل عنها وقد تستمر لزمن طويل، وعلى المخالفين لها في العالم الاسلامي من مسؤولين ومواطنين الا يوهموا انفسهم بأنها تنحسر بسرعة. غير ان الباحث في هذه الظواهر لا بد ان يتوقف متسائلاً: لماذا النماذج المتميزة لتحديث الاسلام اخذ يأتي ابرزها من خارج العالم العربي... فماذا حدث لدور العرب التاريخي في مسيرة التقدم الاسلامي؟! 2- العامل الثاني في تقديري بعد عامل قصور المشروع التحديثي في كسب الولاء العميق للشعوب حتى في حال نجاحه النسبي هو عامل التحدي الغربي الحديث للعالم الاسلامي. فبعد ان انحسر الاستعمار التقليدي جاءت ما تعرف بالامبريالية الحديثة متحالفة مع التحدي الاسرائيلي لتجعل الخيار الجهادي الاسلامي بمثابة الرد والرصيد المتبقي الوحيد للجماهير الاسلامية ضد هذا التحدي، كما يتضح من تجربة "حماس" في فلسطين والمقاومة الاسلامية اللبنانية كنموذجين من أبرز هذه النماذج. ولا بد من التسجيل هنا ان هزيمة حزيران يونيو 1967 كانت الحد الفاصل بين تراجع المد القومي التحديثي وصعود الموجة الدينية، التي بدأت بعد تلك الهزيمة مباشرة، ولم تنتظر قيام الثورة الاسلامية في ايران كما هو شائع، بل ان هذه الثورة من اسبابها تعاظم المد الاسرائيلي المدعوم من الغرب. وكما سجل محمد حسنين هيكل في كتابه آفاق الثمانينات: ف"ان نظرة متأنية كفيلة بأن تظهر لنا ان موجة التدين التي نراها الآن، بدأت في اعقاب هزيمة 1967. وبدأت مصر قبل غيرها في العالم العربي. ولكن تفسيرها يحتاج الى جهد كبير: ان الهزيمة اثرت ضمن ما اثرت على قيم كثيرة تعلقنا بها قبل سنة 1967: قيم التحديث والتطوير والثورة والزعامة الى آخره... وحين اصاب شرخ الهزيمة هذه القيم... كان الانسان العربي... يبحث عن ملاذ ومأمن يعتصم به. والدين في كل مجتمع مؤمن ملجأ اخير وملاذ يعتصم به لأنه الحقيقة الالهية الوحيدة الباقية" المرجع المذكور ص206. وتأتي مؤثرات الحداثة فكرياً واجتماعياً والتي تمثل ظاهرة العولمة أحدث انفجاراتها واكثر مظاهرها تحدياً لتستفز غرائز الجماهير المحافظة وتدفعها الى مزيد من التمرد والرفض والاعتصام بالاصولية المبسطة والمتشددة. 3- تصاحب وتزامن مع العاملين المذكورين عامل النمو الديموغرافي السكاني للبيئات الريفية، والاحياء الشعبية الفقيرة في المدن القائمة على الهجرة الريفية كما اوضحنا وكلها قطاعات سكانية متكاثرة عددياً، فقيرة معيشياً، ومحافظة دينياً بشكل تقليدي ولم تستوعب عناصر تذكر من تحولات وتطورات العالم الجديد والحضارة الحديثة. صحيح ان افراداً ونخباً شابة متعلّمة تعليماً حديثاً في الغرب تتولى في بعض الحالات قيادة الحركات الدينية فكرياً وسياسياً، الا ان القوة المجتمعية الضاربة لهذه القيادات هي العصبيات الجماهيرية الريفية شديدة المحافظة التي قصر المشروع القومي التحديثي في استيعابها وتطويرها انمائياً وفكريا. ومصداق ذلك ان اعمال العنف الاصولي تنتشر اكثر ما تنتشر في المناطق الريفية التي لم تصلها حركة التطوير. وبسبب ضخامة هذه المناطق الريفية في بلدان الثقل السكاني بالعالم العربي مثل الجزائر ومصر والسوادن، فإن النخب المثقفة والقطاعات المدينية تبقى بمثابة الجزر المعزولة وسط ذلك البحر الجماهيري. ولولا ان المؤسسة العسكرية العصرية الداعمة لمشروع الدولة الحديثة تقف ضد هذا المد وتدافع عن افكار التحديث، فإن تلك النخب والقطاعات المدينية لا تملك القوة الذاتية لتعبئة نفسها ضد الموجة الريفية المحافظة التي يمكن ان تصفيها بسهولة لولا حماية الدولة القائمة. وحالما قرر العسكر في السودان الوقوف الى جانب الجبهة الاسلامية سقط البديل الآخر، بينما وقفت المؤسسة العسكرية الجزائرية ضد البديل الاصولي فاحتمى بظلها البديل العصري الآخر. وهذا ما يفسّر ميل اغلب المثقفين والمهنيين غير الموالين للاتجاهات الدينية الى خط الدولة وتطويرها من الداخل - بعدما كانوا ضدها في المرحلة الراديكالية - لقناعتهم ان وجودهم أصبح الآن من وجود الدولة امام المد الاصولي الجديد. وهذا شعور لا يخفيه ايضاً قدامى اليساريين والليبراليين العائدين الى البحرين أخيراً. ولا بد ان يكون واضحاً ان المستوى الاقتصادي الاجتماعي للطبقات الريفية والاهمال التنموي الذي تعرضت له طويلاً هو العامل الاهم في اصوليتها وتمردها وليس اعتبار الفارق المذهبي بينها وبين اغنياء المدن وسلطات الدولة. ففي كل من الجزائر ومصر نجد ان تلك الطبقات المتمردة تعتنق المذهب الديني ذاته للدولة وسلطتها ولكنها تتمرد ضدها لاعتبارات اقتصادية مجتمعية ومظالم لحقت بها. هذه مسائل في التحليل الاجتماعي لواقع العرب السياسي اشير اليها باختصار، وتناولتها بايضاح اكثر في كتاب "تكوين العرب السياسي" وكتاب "التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الاسلام" ثم الكتاب المكمل لهذا المشروع البحثي الذي صدر بعنوان "العرب والسياسية: أين الخلل؟" لمن اراد التوسع في مقاربة هذه الظواهر. ويبقى، في التحليل النهائي، انه يمكن لقوى "اسلامية" مثل "طالبان" ان تقدم للمسلمين والعالم نموذجها المنفر باسم الاسلام، كما يمكن لقوى اسلامية اخرى، كما في التجربة الماليزية ان تقدم للمسلمين والعالم نموذجها المشع المستمد من روح الاسلام... فأي نموذج سيستقر عليه مستقبل المسلمين في العقود المقبلة؟ ان الوعي الصحيح بطبيعة الواقع التاريخي والارادة المنبثقة عن هذا الوعي يمثلان شرطين لازمين لتقديم الاجابة التاريخية الصحيحة. ففي نهاية المطاف لن يسود الا النموذج المشع الذي يجتذب النفوس والتطلعات... قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. * مفكر من البحرين، عميد الدراسات العليا في جامعة الخليج العربي، احدث مؤلفاته "مساءلة الهزيمة".