الكتاب: القرآن من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني الكاتب: محمد أركون ترجمة: هاشم صالح الناشر: دار الطليعة، بيروت 2001 يعتبر محمد أركون، أستاذ الاسلاميات في جامعة باريس، والأستاذ المحاضر والزائر في جامعات أوروبا وأميركا، من أكثر المفكرين الاسلاميين الذين يثيرون جدلاً في مسائل الفكر العربي الاسلامي. فهو ناقد للعقل الراديكالي الاسلامي من جهة، وناقد للعقل الراديكالي العلماني من جهة أخرى. وهو تالياً، صاحب المشروع الفكري الذي يعمل على بلورته في كل كتاباته ومناقشاته تحت عنوان: "علم الاسلاميات التطبيقي". في هذا الاتجاه، يأتي كتابه: "القرآن: من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني"، ليؤكد عزيمة الباحث الاسلامي المتنور، في تقديم قراءة جديدة، كخطاب نموذجي ديني مميز، يستأهل من الباحث الجاد، الاستعانة بكل أدوات ومناهج العلوم الانسانية من أجل استباره واستبرائه على حدٍّ سواء. يناقش أركون في هذا الكتاب أربع مسائل ذات أهمية بالغة في تاريخ الفكر الاسلامي الذي وقع أسير تأثيرات مختلفة، وهي: 1 - المكانة المعرفية والوظيفة المعيارية للوحي في القرآن. 2 - الموقف الاعتراضي الذي وقفه "المشركون" من ظاهرة الوحي. 3- قراءة سورة الفاتحة. 4 - قراءة سورة الكهف. ويطبق أركون في دراسته لهذه المسائل اشكاليات ومناهج اللسانيات والسيميائيات لتحليل الخطاب القرآني. ولذلك بات على القارئ أن يتزوّد بتكوين علمي يؤهله متابعة أركون في اطروحته، كما بات عليه الإحاطة بما يسمى اليوم، بعلم الألسنية الحديثة وعلم الإشارة والسيميائية الحديثة، ومبادئ النقد الابستمولوجي، من أجل التمكن من مواجهة هذه القراءة الاسلامية الجديدة للخطاب الديني، ومناقشتها بصورة علمية وبالأسلحة ذاتها، والانتهاء بعد ذلك الى أحد المنطقين: القبول أو الرفض. يعتمد أركون في دراسته للخطاب القرآني على هذه الآلية الحديثة لعلمي التحليل والتفكيك لبنية اللغة المعجزة في ماديتها اللغوية والمعرفية. ولهذا نراه دائماً ينطلق من البنية اللغوية والسيميائية للنصوص، بخلاف المفكرين الاسلاميين الذين يركنون عادة الى التعريفات والتأويلات الفقهية المختلفة. فإذا كان المفكرون والدارسون المسلمون يسلمون مسبقاً في نظرتهم الى الاسلام بنتائج التحليل الذي قام به القدامى، حين جعلوا الدين الحق في خانة، والنحل والبدع والأهواء الضالة في خانة، فإن المفكر الاسلامي محمد أركون، نراه يحمل حصاد هذا الفرز الفكري والثقافي من المادة الاسلامية الى العلوم الانسانية الحديثة: الألسنية والسيميائية والانتروبولوجيا والأنطولوجيا والتيبولوجيا وغيرها، لتقول كلمتها. فبرأي أركون، ان علم الانتروبولوجيا الحديث يمارس عمله كنقد تفكيكي، وعلى صعيد معرفي، لجميع الثقافات البشرية. وهو، لذلك يمارس عمله بعيداً من التأويلات التاريخانية، بحيث يخصب التفكير الحديث من طريق ما أسماه أركون نفسه: ب"المثلثات الانتروبولوجية، وهي مثلثات من نوع: "العنف والتحريم والحقيقة" أو الوحي والتاريخ والحقيقة أو اللغة والتاريخ والفكر.إذ ذاك يتبدّى لنا أركون كيف يعمل على استخلاص توظيفها الجدلي والاجتماعي والنفساني والديني من سوَر القرآن الكريم، أو من نصوص عدة ومختلفة من الخطاب النبوي. في بحث أركون عن "المكانة المعرفية والوظيفة المعيارية للوحي"، يؤكد الباحث على ضرورة تسلّح القارئ بما يحيطه به التاريخ الاسلامي، من الوقائع التي سجلها لجميع المجادلات العلمية والمناقشات الفلسفية والدينية. ويعتبر أركون ان انغلاق الفكر الاسلامي داخل التفسير الموروث من الطبري ومن جاء بعده متأثراً به أو سائراً على خطاه، هو الذي أنتج قراءة لا تختلف في الموقف عن قراءة اليهود أو النصارى لمسألة الوحي، إذ بدت كل ملة حريصة على احتكار الوحي الكامل والصحيح لنفسها. وبرأي أركون، ان ذلك شكّل نظرة مباعدة عن الوظيفة التأصيلية للمفهوم الذي يتلمسه المفكر الاسلامي المجدّد، حين يتتبع الخطاب النبوي، بحسب القرآن نفسه، الذي يبدأ من النبيّ ابراهيم عليه السلام، إذ يقول الله تعالى في كتابه العزيز: وما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً. ولهذا يدعو أركون الى اخضاع جميع التراثات الدينية لمنهج النقد التاريخي الأركيولوجي الذي يلزم نظام الحقيقة بتجديد "بيانه وبراهينه وتأصيله، بحسب ما تقتضيه عولمة الذهن البشري وما يصاحب ذلك من المعرفة الكونية العالمية". وفي بحثه عن موقف المشركين، الذين كانوا يطالبون بتقديم البراهين، يرى أركون، ضرورة تطبيق المنهجية المقارنة على صيغ التعبير اللغوية وبُنى المعنى، لأن ذلك يغني حتماً معرفتنا بالظاهرة الدينية المحصورة حتى اليوم، داخل إطار التاريخ الخطيّ، المعزول عن تراثات الأديان الأخرى المشابهة له من حيث الأصل. وبرأيه ان المسألة لا تستقيم لدى الباحث الاسلامي، إلا اذا انصرف لكتابة التراث الديني الاسلامي، في شكل موازٍ للتراثات الدينية الأخرى من طريق المقارنة. فمفهوم مجتمع الكتاب أكثر اتساعاً وتعقيداً من مفهوم أهل الكتاب، لأنه يشمل المكونات أو العناصر المشتركة لدى المجتمعات اليهودية والمسيحية والاسلامية في البرهة التاريخية نفسها. وهي تتلخص في الأمور الآتية: الإحالة المرجعية الى كتاب سماوي موحىً به من قبل الله في السماء، وهذا الكتاب الموحى به يصبح المصدر الأعلى لكل المعايير الأخلاقية والسياسية والفكرية، وتحديد هذه المعايير، يحتاج الى تقنية معينة تأويلية، ظلت محصورة بالهيئات المأذونة أو بالفقهاء حتى اليوم. وينتهي أركون الى القول في هذه المسألة، ان من المهمات الكبرى الملقاة على عاتق المفكر الاسلامي، هو قراءة القرآن قراءة معاصرة، تشكل بحدّ ذاتها عملاً مرناً من أعمال التضامن التاريخي، مع الأجيال السابقة أو اللاحقة على حدٍّ سواء. في قراءته لسورة الفاتحة، ينطلق أركون من اعتبار هذه السورة أم الكتاب. وهذا النص القصير نسبياً، يشكل جزءاً من نص أكبر يقع تحت اسم القرآن. ويعتبر أركون ان مرونة الفاتحة منفتحة على السياقات الأكثر تنوعاً، والتي تنطوي عليها كل قراءة للكتاب، أو كل قراءة تفرضها، بحيث يتموضع القارئ داخلها. وهذا الاستنتاج يقوده الى اقتراح بروتوكول جديد للقراءة، ينشأ عن مفهوم يدشن الطاقة الابداعية، الى درجة انه ينتج من ذلك حال بنيوية أو انبنائية جديدة. وهذا البروتوكول الجديد يفيد من بروتوكول القراءة الطقسية وبروتوكول القراءة التفسيرية، لأنه يهدف الى فهم خيارات المتكلم أو الناطق حين يتدبر المنطوق/ الفاتحة، من خلال المحددات أو المعرفات من مصادر أو أسماء فاعل والمفعول به والصفات الإسمية، أو من خلال الضمائر المتصلة أو المنفصلة أو الغائبة أو من خلال الأفعال. وهذا النوع من البروتوكول الجديد في قراءة سورة الفاتحة، هي التي اتبعها أركون أيضاً في قراءته لسورة الكهف، حين أزال لَبساً تاريخياً ملازماً لقراءة الهيئات الفقهية، متجاوراً أو متجاوزاً لها في معظم الأحيان.