يشاع في أسواق وصالات العرض العربية، أو دكاكين ربات بيوت ضجرات من حياتهم، نتاجات تجارية متوزعة بين موضوعات مختلفة، الأكثر شيوعاً هي لوحات الخيول العربية ومشاهد البدو والمحلات البغدادية القديمة الى جانب لوحات تمثل المراقد المقدسة. وبين هذا الخليط تظهر أعمال فولكلورية تغلفها حداثة مستهلكة، كل هذا النتاجات تعرض بين الحين والآخر في هذا البلد أو ذاك تحت لافتة "الفن العراقي المعاصر". ولم يغب عن ذهن فناني هذه الموجة، ولا أصحاب الصالات أو تجار اللوحات، من عرب وعراقيين قادمين من أسواق لا علاقة لها بالفن ان يستخدموا الحصار حجة لهم، فقد اخترعوا لأنفسهم رغبات على مقياس خيال الاغنياء الجدد وشركاء اكتشفوا صحوتهم القومية وسط الخراب... مفاتيح هذا الحشد المتنامي اقامة المباهج بجعل مسرحية التضامن المفتعل قادرة على تحريك العواطف، هم المتسلّون بوهم السعادة واستثمارات الشفقة العربية، المعنيون بتبدل سعر الدولار في بغداد، الحريصون على شراء كل شيء بأبخس الاثمان. من أين جاء كل هذا الصلف لهذا الحشد أن يروج لوجه قبيح في الفن العراقي؟ من أين يدخل هذا السوس العربي الملوث بسرطان التباكي والتضامن الأخوي الكاذب؟ ألا يكفي بكاء التماسيح ولافتات العمق العربي... ألا يكفي هؤلاء من ديبلوماسيين وسائقي شاحنات وصحافيين وفنانيين وحاملي حقائب الأدوية، وضباط الحدود المملوءة جيوبهم بالرشوة؟ ألا يكفي هؤلاء سعة الجرح العراقي لكي يتاجروا به؟! على عكس كل هذه التظاهرة المفتعلة، وعلى عكس حماس ومساهمة مؤسسات فنية عربية في اشاعة هذه الاعمال، يقف بعض الفنانين الشباب رافضين صورة الضحية والذل المبطن بالتضامن، رافضين ان يضع لهم مثل هذا الحشد المنافق تاريخاً مزوراً وتجربة فنية لا علاقة لها بتجاربهم المتنوعة، هم الذين يتدبرون قوتهم اليومي بكل صعوبة، معنيين ببناء تجربة تتجاهل سفاهة أولئك المتباكين على العراق وموت أطفاله، مراهنين على تاريخ فني طليعي، وإدراك حاد باستحالة تكوين تجربة فنية متميزة من غير تفكيك تاريخها والقبض على ما هو عياني قادر على مهمة التطوير. يمثل معرض غسان غائب، ونزار يحيى وضياء الخزاعي في صالة "اجيال" بيروت نموذجاً لهؤلاء الشباب الذين يخفون إحساساً عميقاً بالمرارة، وإحساساً أكثر عمقاً بفقد تلك الظروف التي توفر لهم حرية العمل الفني بعيداً عن مضاربات سوق يديرها جاهلون بالفن. هذا النموذج من الشباب وهو يشتغل ضد التيار التجاري البائس والتباسات المؤسسات الفنية العربية التي تغلق أبوابها بوجههم بحجج واهية، يسعى في تأكيد اخلاصه لتاريخ حركته الفنية بعيداً عن بهرجة معارض المناسبات. يطور غسان غائب عناصر لوحته من حوافز شكلية تأخذ صيغة اشكال هندسية متنوعة تتداخل أو تتحد مع تكوينات أخرى، حيويتها في صخبها وعنفوانها اللوني، مشيداً بتلك الحيوية مدناً خيالية وعوالم تستحضر الحلم، بين ميوله الى التجريدية كأسلوب وعشقه التضادات اللونية، وتنوع سمك وضربات فرشاته، يتبدى سعيه الدؤوب على انجاز لوحة تتناغم بين الصدفة وبراعة التفادي في الوقوع في شركها، وبفضل هذه العلاقة تزداد قوة تكويناته التي توحي بمخيلة غنية لا تعطي نفسها بسهولة، بل تقود المتفرج الى ان يمرّ عبر عدد من الاشارات والاشكال التي هي جزء من حركة اللون. تستهوي المادة خيالات نزار يحيى، وهو تراث محدود في التجربة العراقية، فهو من خلال مزجه خامات العمارة والجدران الداخلية ينجح في جعل لوحته مثيرة ومتنوعة في أشكالها ومادتها وعلاقاتها بالفراغ، هذه العناية بالتفاصيل الى حدود اشكاله وما يوليه من اهتمام واضح في اغناء السطح لونياً واشارياً يجعله فناناً بعيداً عن السرد الأدبي وقريباً من منهجية سالم الدباغ، الفنان الستيني في عناده وتطوير تجربة تجريدية خالصة، لكن مناخات نزار أكثر غنى وأقرب الى تجريدات الطبيعة، قابلة بحكم تنوع اشكالها الى التطوير والغنى. يشارك ضياء الخزاعي زميليه في افتتنانه باللون، جامعاً بين الإشارات القليلة لتشخيصية ملتبسة مع مساحات لونية لا تكون اشكالاً أو تنجز عالماً لتلك الإشارات، بل يجعلها مساحات حرة، حلماً لا تحدّه كوابيس مجتمع يتأكل من داخله، مصطفياً بمباهات لونية متنوعة وعناد عوالم طفولية ما زالت تطارده، مبقياً منها اشارات مادية في أجزاء من لوحته، هي مفتاح التجوال في عالمه اللوني الغني بالعاطفة.