Andre'-Louis Sanguin ed.. Mare Nostrum: Dynamiques et Mutations Ge'opolitiques de la Me'diterrane'e. المتوسط بحرنا: الديناميات والتحولات الجيوبوليتيكة للمتوسط. L'Harmattan, Paris. 2001. 320 Pages. "بحرنا" MARE NOSTRUM هو الاسم المشهور الذي كان أطلقه الرومان على البحر الأبيض المتوسط ليقولوا انه أضحى بحيرة مغلقة للامبراطورية الرومانية التي كانت بسطت سيطرتها على جميع شطآنه وبلدانه بلا استثناء منذ القرن الأول للميلاد. هذا الكتاب الجماعي عن المتوسط يستعيد التسمية اللاتينية "بحرنا"، ولكن ليؤكد على البعد الجيوبوليتيكي التعددي والتضامني للمتوسط، باعتبار جملة العشرين دولة المتوسطية التي يحيل اليها ضمير الجمع المتكلم في "بحرنا". والواقع ان الاسم الحديث للمتوسط الذي اطلق عليه ابتداء من العام 1569 يعبر بدقة اكبر عن طبيعته الجغرافية السياسية التعددية: فهو يعني حرفياً "البحر بين الأرضين"، أو كما تقول الترجمة العربية التي لا وجود لها في اللغات الأخرى: "المتوسط". فالمتوسط متوسط بثلاثة اعتبارات: من جهة أولى بين أرض الاسلام وأرض المسيحية، وهو الانقسام التاريخي الكبير الذي ورثه المتوسط منذ القرن الثامن للميلاد، والذي لا يزال يشكل الى اليوم المِعْلَم الرئيسي لبطاقة هويته. والمتوسط متوسط ثانياً بين ثلاث قارات: أوروبا وأفريقيا وآسيا. وهو متوسط أخيراً بين ثلاثة عوالم، اذ يمكن اعتباره صلة وصل بين المحيط الاطلسي والمحيط الهندي والبحر الاسود من خلال مضائقه الثلاثة: جبل طارق وقناة السويس ومضيق البوسفور حرفياً: ممر البقر. ولكن رغم هذه الاتصالية المدهشة التي يمثلها المتوسط، فإن المشهد الذي يقدمه اليوم هو مشهد من التفارقات والتنافرات التي يبلغ من عنفها احياناً انه لا يمكن تعقّلها جيوبوليتيكياً إلا بلغة الحرب. فالمتوسط، كما كان مركزاً تقليدياً للحضارة ومهداً للاديان، كذلك كان على الدوام، ولا يزال، بؤرة للتوترات والمنازعات. فعلى امتداد القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية كان المتوسط قد تحول الى بحيرة أوروبية تهمين عليها اساطيل الدولتين الاستعماريتين الكبيرتين والمتنافستين: فرنسا وانكلترا. ومنذ أزمة السويس عام 1956 صار المتوسط المنطقة البحرية الأكثر حساسية وخطورة في العالم من جراء الصراع بين العملاقين الاميركي والروسي. وحتى بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكيك المعسكر الاشتراكي بقي المتوسط البحر الأكثر تسليحاً في العالم: فعدد السفن الحربية التي تمخره لا يقل عن 2000 تتمركز في 80 قاعدة بحرية. ولكن اكثر ما يميز المشهد الجيوبوليتيكي للمتوسط اليوم هو ان فَعَلة الصراع فيه هم الآن من القوى المحلية، والصراع في ما بينها يميل الى ان يأخذ شكلاً مزمناً. فهناك أولاً الصراع العربي - الاسرائيلي الذي أخذ شكلاً انفجارياً منذ 1948 والذي لم تخفّ حدته الانفجارية حتى بعد ان شرع يتقلص منذ اتفاقات كمب ديفيد من صراع عربي - اسرائيلي الى صراع فلسطيني - اسرائيلي. وهناك ثانياً الصراع التركي - اليوناني المزمن هو الآخر منذ حرب 1922 التي خسرتها اليونان وخسرت معها ممتلكاتها البرية في بحر إيجة، وفي مقدمتها مدينة ازمير، والتي كانت آخر تجلياتها احتلال الاتراك للقسم الشمالي من جزيرة قبرص عام 1975 والتقسيم الفعلي للجزيرة الى جمهوريتين لا يزيد اجمالي تعداد سكانهما على ثلاثة أرباع المليون نسمة. وهناك ثالثاً برميل البارود البلقاني الذي ما فتئ يتفجر بشكل شبه دوري منذ بداية انفصال شبه جزيرة البلقان عن الامبراطورية العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، والذي تسارعت حلقاته بشكل ملحوظ مع تفكك الاتحاد اليوغوسلافي في مطلع التسعينات من القرن العشرين حيث نشبت حروب هويات اثنية ما بين كرواتيا وصربيا في 1991 - 1995، وما بين صربيا والبوسنة في 1995 - 1998، وما بين الصرب وألبان كوسوفو في 1998 - 1999، وأخيراً في مقدونيا ما بين المقدونيين والألبانيين في 2001. وبالإضافة الى بؤر الصراع المزمن والشديد التعقيد هذه، هناك في المتوسط بؤر توتر اخرى ذات طابع موضعي كالتوتر ما بين المغرب والجزائر بسبب الصحراء الغربية، وما بين المغرب واسبانيا بسبب سبتة ومليلة، وما بين ليبيا وجاراتها، وما بين تركيا وسورية، وأخيراً ما بين سورية واسرائيل، ولكن هذه المرة من خلال المواجهة غير المباشرة في لبنان. على ان خريطة الصراع والتوتر في المتوسط قد طرأ عليها في ربع القرن الأخير تحول كبير. فبعد ان كان المتوسط مسرحاً للمواجهة بين الغرب والشرق، صار يقدم خط جبهة جديدة للمواجهة بين الشمال والجنوب. وبعد ان كان الصراع من طبيعة جيوبوليتيكية غدا من طبيعة ديموغرافية. فالعدوة الجنوبية من المتوسط شهدت ابتداء من السبعينات طفرة سكانية قلبت رأساً على عقب المعادلة الديموغرافية مع العدوة الشمالية. وطبقاً للتوقعات فإن تعداد سكان حوض المتوسط سيصل في العام 2030 الى 520 مليون نسمة يقطن ثلثهم في العدوة الشمالية، وثلثاهم في العدوة الجنوبية. وهذا التفارق الديموغرافي يقارنه تفارق اقتصادي أشد حدة بعد: فدخل الفرد في العدوة الشمالية يزيد بعشرين ضعفاً، أو حتى بثلاثين ضعفاً، على دخل الفرد في العدوة الجنوبية. فالدخل السنوي للفرد الفرنسي مثلاً يفوق باثنين وعشرين ضعفاً دخل الفرد المغربي، وباثنين وثلاثين ضعفاً دخل الفرد المصري. بالإضافة الى هذا الفارق الشاسع في مستوى الرفاه الاقتصادي، هناك فارق لا يقل شساعة في مستوى الرفاه السياسي: فمن منظور صحراء الاستبداد في معظم بلدان العدوة الجنوبية، تتبدى العدوة الشمالية واحة للديموقراطية وللحرية. ويتضامن هنا الحرمان الاقتصادي مع الاحباط السياسي ليخلق ما بين العدوتين تيار هجرة سكانية قُدر حجمها في نهاية العام 2000 بنحو عشرين مليون جنوبي، نزحوا الى الإقامة في بلدان الشمال. وقد تفاقمت في السنوات الأخيرة حركة الهجرة اللامشروعة، وغدا المتوسط - بعد شبه جزيرة الهند الصينية - مسرحاً جديداً لظاهرة "تائهي البحر"، ولكن بعد ان تجردت هذه الظاهرة من طابعها العفوي واتخذت شكلاً منظماً كتجارة بالبؤس البشري مُدرّة للارباح على مافيات الجريمة المنظمة ومهربي النقل البحري. والمفارقة الكبيرة انه في مقابل هذه الهجرة المكثفة من الجنوب الفقير الى الشمال الغني، تلاحظ في المتوسط حركة هجرة لا تقل كثافة من الشمال الى الجنوب. ولكن هذه المرة في شكل سياحة وطلباً لرأسمال الجنوب من الشمس. ففي عام 1996 مثلاً تدفق على حوض المتوسط ثلاثون مليون سائح، الأمر الذي استدعى تزويده بأوسع شبكة للنقل الجوي من نوعها في العالم: 66 مطاراً و5000 رحلة جوية اسبوعياً. والحال ان دفوقات السياح هذه لا تحمل معها مجرد عملات نادرة، بل كذلك طرازات للحياة وصورة حية عن "العالم الآخر" في الشمال. وهذه الصورة تعززها بالألوان اللواقط الهوائية لتلفزيونات الجنوب الذي تقدم أسطح مدنه مشهداً غريباً للألوف المؤلفة من الأقراص والديشات الموجهة كلها باتجاه الشمال. ولكن في الوقت الذي يمارس فيه الشمال اغراءه هذا على الجنوب، فإنه في سبيله الى اتخاذ وتعزيز جميع التدابير الممكنة للحد من قدرة الجنوبيين على تلبية ذلك الإغراء. وهذه التدابير ليست فقط ذات طابع أمني يتصل بالتأشيرات وشروط الإقامة الموقتة، لا سيما في ما بات يعرف باسم سور "شنغن" الرامي الى حماية دول الاتحاد الأوروبي من "قبائل بدو البؤس" كما يقول برنار رافنل في كتابه "المتوسط: السور المستحيل". ولكنها ايضاً من طبيعة اقتصادية: ففي محاولة لوقف مد الهجرة تعهد الاتحاد الأوروبي تقديم مساعدة سنوية لا تقل عن مليار دولار لدول الجنوب بشرط توظيفها في القطاع الخاص بهدف خلق فرص للعمالة وبناء حاجز من الاستقرار الاقتصادي يردع ويساعد على الحد من غليان "موسم الهجرة الى الشمال". لقد كان نيتشه يقول ان "البحر الأبيض المتوسط اكثر البحار انسانية". ولقد كف المتوسط منذ زمن بعيد عن ان يكون مركز العالم، لكنه لا يزال الى الآن أكبر معبر في العالم للاتصال بين الشعوب. ومن هنا فإن تحويله الى خط جبهة جديد لنوع من حرب باردة بين الشمال والجنوب يهدد بأن يفقده طابعه الانساني والدافئ معاً. ولئن يكن حوض المتوسط ينتج 96 في المئة من زيت زيتون العالم، فما ذلك الا من قبيل الصدفة. فالمتوسط هو ايضاً طريقة حياة وفلسفة حياة. لكن المتوسط يئن اليوم تحت ألم التمزق الى شمال مرتاح في جلده والى جنوب ضاق عليه جلده. ذلك ان المتوسط، بوصفه حوضاً مغلقاً وبحيرة مفتوحة في آن معاً، هو ناقل كبير للعدوى. ومعايير الشمال في مستوى المعيشة والديموقراطية وحقوق الانسان قد غدت في الجنوب ايضاً، رغم فقره وأمية شرائح واسعة من سكانه، معايير للحياة والعقل معاً. وبما ان المتوسط يحكمه على هذا النحو قانون الأواني المستطرقة، فإنه لن يعرف الاستقرار والأمن الدائم ما لم تتكافأ شروط الحياة وشروط العقل في كلتا عدوّتيه وتتأسس بينهما شراكة فعلية، لا لفظية وتمويهية كما هي الحال اليوم. اما اذا بقي التوازن مختلاً في المتوسط لصالح الشمال، وبقي الجنوب مستودعاً للبؤس والعنف والهجرة، فإن مستقبلاً من التشنج سيظل ينتظر حوض المتوسط بكلتا عدوّتيه. وهذا التشنج يجد من الآن الشكل الرئيسي لتعبيره في فورة العنصرية في الشمال، ومد الأصولية في الجنوب.