كنت أراه يتململ على الكرسي لا يثبت في مكانه. ينظر الى من حوله هازئاً ثم يهزّ رأسه أسفاً، كعلامة ظاهرة جداً على عدم الموافقة. لم يتبقَّ لي سوى التحديق في أوراق بيضاء كانت أمامي لعلّ ذلك يساعدني قليلاً على التركيز، فأتابع كلامي حتى تنتهي، بإذن الله، الدقائق المعطاة لي، قبل أن أشكر الحاضرين. هناك دائماً - دائماً - في الجمع الذي يحضر نقاشاً عاماً أو محاضرة أو ما شابه شخص غير ممتنّ ممّا يقوله الناس الجالسون خلف الطاولة، مهما قالوا. ورغم تناقص وجودي في وضع المواجهة هذا، خلف الطاولة المقابلة للحضور، فما زلت أقبل، بين فترة وأخرى، المشاركة في هذه "اللقاءات" مدفوعةً - قبل أي شيء آخر - بإحساس الواجب تجاه دار النشر - خاصة الأجنبية - التي تتكبّد بسببنا تكاليف باهظة. ونحن أنا قلّما تصل مبيعات كتبنا الأنيقة هذه إلى سداد الكلفة، وقلّما نقتنع أنا أن تمسك الدار بنا، إنما هو بسبب الجودة الأدبية التي لا بد وأن تنجلي مع الأيام وتظهر للقراء، فتردّ على الدار أضعاف ما تكلفته... هذا بالطبع إلى جانب التأكيد على ايمانها بسياستها وبدورها الثقافي - الحضاري، بعيداً عن حسابات التجارة والربح والخسارة. الشخص المتململ بعدم الرضا الموجود دائماً لكي يعترض على كل ما يُقال حين سيأخذ "حق" الكلام ليناقشنا، يجعل مهمتي أصعب. فأنا لم أصل إلى ما وصل إليه غيري من "المهنية" حتى أنساه. إنه يذكّرني بمهنة التعليم التي تركتها بعد سنين طويلة من "المواجهة" حيث كنت، خلف الطاولة، في وضع الدفاع عن النفس غير المقنع، أخجل من نشر معرفة لم أكن متأكدة من معرفيتها أو من جدواها في شيء. كان عليّ أن أقنع تلاميذي ومعظمهم من المسلّحين الذين لا يتقنون حتى القراءة باللغة العربية بفائدة التعمق بمسرحيات كورناي الشعرية بفرنسية لا يفهمها الشبان الفرنسيون اليوم فيما القصف "شغّال" على أحياء "طريق الجديدة" ببيروت، حيث مبنى الثانوية. وطبعاً كان هناك تلميذ يتململ ناظراً إليَّ شذراً ومتردداً بعض الشيء ازاء وضعي الذي يستحق الشفقة أكثر منه القصاص. ثم ان الذي يختار الجلوس خلف الطاولة هو حتماً في وضعية الملقِّن الواثق مما يقول أو يقرأ، وهو بالتأكيد قد شحذ أدواته المعرفية في قناعات تشكل رداً حاسماً على جميع الأسئلة أو الاعتراضات. أكثر من ذلك، ان المتمكّن من وضعه خلف الطاولة ليس مجبراً على الإجابة عن كل الأسئلة، انه ينتقي - في سلطته المعطاة - الأسئلة التي يرتئي والتي تكون الإجابة عنها جزءاً مما فاته قوله منذ قليل، في الوقت المحدد له بين زملائه. أما الأسئلة التي لا تفتح على فعاليّة ما، على فائدة ما تغذي مسؤولية نشر المعرفة التي أناطها بنفسه، فلا يسمعها... أبقى وحيدة في مواجهة الشخص، الاختصاصي، الذي يشتمّ من بعيد أني فريسته. سيبدأ اعتراضه وأسئلته الاستنكارية وهو يدلّ بإصبعه عليّ حتى قبل أن يحملوا إليه الميكروفون المتجول في القاعة. في هذه المسرحية الصغيرة سأسمع "السؤال" جيداً وسوف أرتبك، وربما فكرت - كمن ينزلق فجأة على بلاط مصقول - أن سؤاله جوهري جداً ولو كان كل سياق. فما قلناه وقرأناه منذ قليل - نحن الشعب المتمترس خلف الطاولات - ربما وقع بكامله خارج السياق. ثم من الذي يحدد السياق، ان لم يجد هذا الرجل في كل ما قلناه سياقاً يرضيه. انظر إلى كوب الماء أمامي ثم إلى الطاولة التي نضّدوا عليها كتبنا كي نوقّعها نبيعها للجمهور المعجب بما قلناه، فأعرق خجلاً وأنا ابتسم لوكيلة دار النشر التي ستقول لي مرة أخرى: "لا عليكِ" وهي تعيد شقع الكتب في العلب الكرتونية. أفكر - وأنا في طريق العودة إلى البيت - اني أنا أيضاً لا أحب هذه المسرحية الصغيرة أبداً... وان دار النشر ستقتنع قريباً بأن دوري فيها فاشل فتكفّ عن دعوتي وعن ارشاد منظّمي اللقاءات إلى رقم هاتفي. افكر أيضاً أن معجزة ما قد تنزل عليَّ من السماء وتجعلني أبيع كتبي بأرقام تعفيني من لقاءات الطاولات التي تعلوها قناني المياه المعدنية الصغيرة والأكواب التي تسعفنا على ترطيب الأفواه بعد كثرة الكلام... وتبقى في رأسي صورة الرجل المعترض باستمرار والغاضب من كلّ ما يقال. إنه يأخذ دوره في مسرحيتنا الصغيرة بالقوة لأنه وحيد ومستوحش. لا أحد يعطيه ميكرفوناً ولا أحد يسمعه. إنه مستاء من كل شيء ولم يعد يهمه أن يكون في السياق... في أي سياق. إنه مستاء من كل الجماعة، من كل أهل "خلف الطاولات وأكواب الماء والميكروفونات والأصوات الواثقة المهذبة". معه حق...