عرض التلفزيون البريطاني على القناة الرابعة الحلقة الأولى من برنامج عنوانه "الحكام السريون للعالم". كانت الحلقة عن الصحافي والمذيع البريطاني السابق ديفيد آيك David Icke، الذي تعرض لمهاجمة اليهود ومحاولة تدميره كاعلامي، بعد ان حقق كتابه "السر الأكبر" رواجاً في كل القارات ومبيعات هائلة بعد ترجمته الى لغات عدة، والسبب أن المؤسسات الصهيونية اشتمت من ورائه ما يوحي بأن الكتاب يشير، من دون أن يقول ذلك صراحة، إلى دور كبير لليهود في تنظيم اسمه "السحالي" "يقود" العالم و"يتحكم" بمصيره. ويقول آيك الذي ظهر في الحلقة إنه لم يذكر اليهود في كتابه، وكون الناس فهمت ذلك او ان اليهود فهموا ذلك فهذا شأنهم، "لكن هذه السحالي اذا هاجمت احداً فإما ان تغتاله جسدياً او تغتال شخصيته كما حدث معي". كان آيك يشير إلى "السحالي" الغامضة، لكن القناة الرابعة ذهبت إلى واشنطن لتسأل المسؤولة في مكتب المنظمة الصهيونية العالمية عن سبب الحرب التي تشنها على الصحافي البريطاني، وهو لم يتعرض في كتابه ولا في مقالاته لليهود بالذات؟ فأصرت المسؤولة على أن آيك يشير في محاضراته إلى أن بعض اليهود أعضاء في هذه المنظمة، وكلهم يبدأون، بحسب قولها، بالإشارة إلى أفراد معدودين من الشعب اليهودي، ثم تتحول أعمالهم ضد السامية! لم يكن برنامج القناة الرابعة هو الأول الذي يكشف جوانب من أعمال المنظمة الصهيونية العالمية والنشاطات السياسية والدعائية والمالية التي تقوم بها، فقد قامت أجهزة ومؤسسات الإعلام البريطانية في السنوات الخمس الماضية بمتابعة وكشف الكثير من الملابسات التي تحيط بتلك النشاطات وأهدافها، كذلك لم يكن اهتمامها محصوراً بالأشخاص البريطانيين الذين يتعرضون للمضايقات السرية أو العلنية بسبب آرائهم، إنما يتسع هذا الاهتمام ليشمل النشاط التقليدي الذي تقوم به المنظمة وتجمعات اليهود للتأثير في السياسة البريطانية حيال الصراع العربي - الاسرائيلي، وأبعد من ذلك التحكم بالرأي العام البريطاني، وانعكاس هذا على حرية الصحافة وحرية الرأي، في بلد يعتز كثيراً بديموقراطيته العريقة. ويوضح آيك فكرته تلك، بأن "الجمعية العالمية السرية" والتي يسمي اعضاؤها انفسهم بالتنويريين، هي التي تمسك لجام القوة في العالم منذ القدم، وقد بدأت في اوروبا ثم امتدت مع الامبراطورية البريطانية الى الشرق الاوسط والشرق الاقصى واميركا واستراليا. وهؤلاء التنويريون هم الذين يشكلون الخطر الحقيقي على العالم، لأنهم يعملون تحت قناع الحرية، بينما الديكتاتوريات الأخرى مثل الشيوعية وغيرها مكشوفة ومعروفة. ويقول إن فوق هذا الصرح الهرمي العالمي الضخم يتربع عدد قليل من الناس يسيطرون على كل وسائل الاعلام والبنوك والمنظمات الدولية، بينما العاملون في قاع الهرم لا يعرفون أي شيء عما يدور في القمة سوى أداء عملهم اليومي والانصراف الى البيت. وفي حلقات البرنامج التي تلت، كانت الشكوك والأسئلة تثار حول تورط عدد من مشاهير العالم في تلك المنظمات السرية، من ضمنهم جورج بوش الابن على سبيل المثال، الذي صار يفقد أصدقاءه الواحد بعد الآخر على حد تعبير ال بي بي سي بسبب سياساته غير الدبلوماسية والمفضوحة لمصلحة اسرائيل. وحلقة أخرى من برنامج القناة الرابعة أثارت التساؤلات نفسها حول ماكفاي مفجّر مركز اوكلاهوما في الولاياتالمتحدة، الذي يصر على انه وحده المسؤول عن التفجير وليس هناك اية جهة وراءه. هذه السلسلة من البرامج تبين التغير الملموس في الاعلام البريطاني تجاه المنظمة الصهيونية واليهود عموماً وليس اسرائيل فقط. ولا شك في أن التضحيات الشجاعة التي قام بها اللبنانيون في جنوبلبنان، والفلسطينيون في الضفة الغربية حالياً، ساهمت إلى حد كبير في تحريك المشاعر الدفينة لدى البريطانيين إلى السطح تجاه الاساليب التي تلجأ إليها التجمعات اليهودية للضغط وإبتزاز المواقف لمصلحة اسرائيل، وهي أساليب يعتبرها الفرد البريطاني كريهة، وملتوية، سلاحها قلب الحقائق ووضع الغشاوة على العيون لتحويل الضحية إلى جلاد مهما لحق به من أذى ودمار. ففي هذه الأيام من العام الماضي، تابع التلفزيون البريطاني عملية الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان بتغطية اعلامية فاقت حتى الكثير من التلفزيونات العربية. وعرضت القناة الرابعة أيضاً في المناسبة برنامجاً عن سجن الخيام الذي كان تحت الادارة الاسرائيلية، والتقى مقدم البرنامج أمهات وزوجات المعتقلين والشهداء، وعرض مشاهد انسانية مؤلمة ومثيرة للمشاعر لم يسبق ان تناولها الاعلام الغربي بهذا الوضوح، كما حاول المقدم فضح الادارة الاسرائيلية اللاانسانية للسجن عندما ذهب بفريق المصورين ليلتقي المسؤول الاسرائيلي عن السجن، بعد محاولات عدة للعثور عليه والتحدث معه وتهرب الأخير منهم، وعندما وصل الفريق بيته فتحت ابنته الباب وطردتهم بوقاحة. وقبل ذلك عرضت ال"بي بي سي" مسرحية مونولوغ "فايا دولوروسا - طريق الآلام" للكاتب البريطاني ديفيد هير، تلك المسرحية التي عرضت على مسرح تريسايكل في لندن ليوم واحد فقط ثم أوقف العرض فجأة وسط دهشة الجمهور، الذي عرف لاحقاً أن السبب تعرضها لليهود. هذه الظواهر لم تعد تمر من دون تساؤلات الإعلام البريطاني كما كان يحدث في السابق. فالتحول الدراماتيكي في توجه الاعلام البريطاني تجاه مسألة اليهود والنزاع في الشرق الأوسط لم يأت من فراغ، ويبدو ان المواطن الغربي ضاق ذرعاً بما تتعرض له حريته، وبدأ يدرك ان مبالغ طائلة تسرق من دخله لتغذية النزاع في الشرق الأوسط ودعم اليهود الذين لم ولن يتوقفوا عن مد أيديهم لأوروبا واميركا من أجل الدعم المالي والسياسي الذي يريدونه بلا حدود. ليس هذا فقط، فالبريطاني الذي تذوق طعم الحرية والديموقراطية على مدى عقود لا يريد ان يخسرها بعد. ففي بداية الانتفاضة مطلع هذا العام، كانت صور الشهداء تتصدر الصفحات الأولى في بريطانيا، وخصوصاً تلك الصورة المروعة لمقتل الطفل محمد الدرة، وقد ذكر الصحافي البريطاني أيان مايز في عموده الاسبوعي في "الغارديان" ان رسائل شديدة اللهجة تصل "الغارديان" من يهود يصفون بها الصحيفة بأنها معادية للسامية، وبأنها منحازة للفلسطينيين، خصوصاً بعد حادثة المقال الذي أرسلته الى الجريدة جمايما خان الانكليزية اليهودية الأصل، وزوجة لاعب الكريكت الباكستاني المسلم عمران خان حول الأحداث في الشرق الأوسط في تلك الفترة، وقالت فيه "ان على القارئ أن يحذر ويمحّص ما يقرأ، فالإعلام العالمي مسيّر من جانب اليهود"، فشطب المحرر المسؤول هذا السطر من المقال الأصلي باللون الأحمر وأرسله الى النشر، ويبدو أن خطأ ما حدث فنشرت المقالة كما هي. يقول مايز في تعليقه على الضغوط التي تعرضت لها "الغارديان" في تلك الفترة: "ان الصحافة البريطانية اعتادت ان تكون حرة حتى في تناولها أدق الموضوعات وأكثرها حساسية على مدى تاريخها، واليوم نجد انفسنا خاضعين لرقابة سمجة في كل مادة تتعرض لليهود، اذ يجب ان تعاد قراءتها وصوغها مرات قبل النشر. لم كل هذا؟" يتساءل مايز! "فنحن عندما نعيّن مراسلاً للصحيفة او كاتباً لا نسأل عن دينه او مذهبه او ميوله السياسية، وتلك السياسة التي تتبعها الصحيفة هي التي نالت بها شعبيتها وثقة قرائها". والتوجه الجديد للميديا البريطانية في تناولها موضوع اليهود والشرق الأوسط لا يتوقف عند حدود ما يعرض من أفكار وبرامج، انما يمتد الى طريقة العرض أو صوغ الخبر وتوقيته أيضاً، فالبرامج السابقة الذكر كانت تعرض في عطلة نهاية الأسبوع في الثامنة او التاسعة مساء وهو وقت الذروة بالنسبة الى الانكليزي لمشاهدة التلفزيون بحسب ما تؤكد الاحصائيات. وهذا تشديد على ان الهدف من هذه البرامج ادخال صورة مغايرة لليهود في ذهن الشعب البريطاني وتسليط الضوء على النزاع الدائر في الشرق الأوسط من زاوية جديدة، تختلف عن تلك التي اعتادها من قبل. فآرييل شارون تشير إليه "الغارديان"، على سبيل المثال، برئيس الوزراء الاسرائيلي المتطرف او المتشدد وفلسطين بالأراضي المحتلة، ويجري ذكر عدد الضحايا الفلسطينيين قبل الاسرائيليين، حيث يفهم القارئ ان الأخير ما هو الاَّ نتيجة للأول. ومما يخدم العرب قليلاً كون المهاجرين منهم في بريطانيا، مثلا، لا يشكلون لوبيات وليس لهم تجمعات من أي نوع لابراز هويتهم او خصوصيتهم، كما تفعل الجاليات والأقليات الأخرى، كاليهود او الباكستانيين والهنود والسود، فلكل اقلية او جالية من هؤلاء منطقتهم شبه المعزولة عن مساكن البريطانيين الآخرين، ولهم فيها معابدهم وأنديتهم ومدارسهم، ففي ليدز مثلاً يشار إلى منطقة مورتاون على انها ارض الميعاد على سبيل التندر لكون غالبية ساكني الحي من اليهود. وعلى رغم تعود الانكليزي على تقبل الآخرين وثقافاتهم واحترامه لهم، لكنه لا يزال ينظر ببعض الدهشة الى تلك العزلة التي يحيط اليهود والأقليات الأخرى انفسهم بها. ولا يخرج رد فعله الى الآن عن اطار الدهشة والغمز الخفي بين بعضهم البعض عندما يجمعهم مع يهودي ناد ليلي او مقهى او جامعة، فهم يكتفون بالقول: يهودي... ماذا تتوقع؟ لأن القانون البريطاني يعاقب على اي تطاول يمس معتقد او أصل او لون الآخر. وفي شكل عام، يشعر البريطاني أن اليهود لا يكتفون بتأييدك اسرائيل وكل ما تقوم به، إنما يريدون استعبادك، وهذا هدفهم الأبعد، وهو ما يحاول ديفيد آيك اثباته في بحثه الدائم عن الأساليب التي تعمل ضمنها مجموعة "السحالي". ويعتقد مثقفون بريطانيون ان الرأي المؤيد لإسرائيل حالياً أصبح معزولاً ولا يأتي حراً، أي ليس بعيداً من الضغوط، أو تأثير مؤسسات تضخ الأموال لتبقى اسرائيل وحدها على حق في كل ما تفعله وتقوله ومما يذكر في هذا المجال ان مذيع القناة الرابعة جون سنو الشهير بجرأته وتحقيقاته الميدانية عندما يسأل المسؤولين الاسرائليين عن سبب وجود مستوطنات لليهود في أراض المفروض أنها عادت إلى الفلسطينيين ضمن اتفاق أوسلو، لا يخفي الاسرائيليون ضيقهم أمام الكاميرات من أسئلة كانت إلى سنوات قليلة من القضايا المعتم عليها في الإعلام الدولي، لأنها من صميم المخططات السرية للحكومات الأسرائيلية! ومن الواضح أن مبعث ضيق المسؤولين الاسرائيليين أنهم لم يعودوا يتكلمون كما يرغبون، ويختارون المواضيع التي يريدون التركيز عليها دون غيرها، مثل الإرهاب العربي واللاسامية والتعصب، إلى آخر القائمة من الاتهامات التي يوجهونها الى معارضي سياساتهم العدوانية. * كاتبة عراقية مقيمة في بريطانيا.