تعقيباً على ما يدور حول ترجمة الأدب العربي الى اللغة العبرية . - 1 - ألا يمكن ان نكون في حرب مع بريطانيا، مثلاً، وأن نكون في الوقت نفسه، في سلام مع شكسبير؟ ألا يمكن ان نعادي المانيا، أو فرنسا، أو ايطاليا، ونظلّ في الوقت نفسه أصدقاء لبيتهوفن وغوته، لديكارت ورامبو، لدانتي وليوناردو دافنشي؟ إذا كان الجواب نعم، وهو بالنسبة إليَّ كذلك، فلماذا لا يمكن ان نحارب اسرائيل ونسالمَ، في الوقت نفسه، الفنّ والأدب اللذين ينتجهما كبار الأدباء والفنّانين اليهود، خارج اسرائيل وداخلها؟ ونعرف جميعاً أنّ الإسلامَ حاربَ في بداياته اليهودَ، دون ان يقاطع الفكر اليهوديّ أو الثقافة اليهودية. وحاربَ الرّومَ، في ما بعد، والفُرْسَ، دون ان يقاطعَ الثقافة البيزنطيّة أو اليونانيّة أو الفارسيّة. خصوصاً أنّ لغةَ الإبداع في كلّ أمّةٍ لا تحيا إلاّ بحربها المتواصلة على كلّ ما هو مؤسسيّ، سياسةً وثقافةً، فلا يمكن ان يتماهى الإبداعُ أو يتوحَّد مع المؤسّسة، أيّاً كانت. وفي هذا المنظور يمكن القول إنّ الإبداع في أمّةٍ هو، موضوعيّاً، حليف الإبداع في الأمم الأخرى، في ما وراء الصّراعات السياسيّة، والعداءات، وفي ما وراء الحروب. ولئن كانت الإبداع خيرَ ما يفصح عن هويّة الإنسان وثقافته، فإنّه يمثّل الطّريقَ الوحيدة لفهم الشعوب، سواءٌ كان هذا الفهم وسيلةً لمزيدٍ من التقّارب معها، أو وسيلةً لمزيدٍ من الهيمنة عليها، أو لردّ عُدْوانها. كلاّ، ليس بالتّجارة، أو بالسّواعد، أو بالبنادق، أو بالعيون السّود أو الزُّرق، تصادِقُ أمّةٌ أخرى أو تحاربُها. - 2 - لا يجهل أحدٌ، كما أظنّ، أنّ الثقافة اليهودية، في جانبها المشرقيّ، عاشت في كنف الثقافة العربية، وأنّ هاتين الثقافتين ظَلّتا في تعايُشٍ وتلاقُحٍ وتفاعل، على الرّغم من جميع الاشكالات السّياسية في العلاقة العربية - اليهودية، القديمة جدّاً، والمعقّدة جدّاً. وتتمثّل القاعدة الأساسيّة لهذا التّعايُش الذي كاد في فتراتٍ عديدة من التاريخ أن يُشبه "الوحدة"، في الأبوة الإبراهيميّة، وأخوّةِ الوَحْيَيْنِ: الإسلامي واليهوديّ، مما صار معروفاً بالبداهة. مِن النّافلِ، إذاً، القولُ إنّ صراعَ العرب، اليوم، مع اسرائيل، ليس صراعاً ضدّ اليهود، وإنّما هو صراعٌ ضدّ اسرائيل - دولةً وسلطةً. من النّافل، تِبْعاً لذلك، القول إن اليهودَ - الأفراد لا يَتَماهونَ جميعاً مع اسرائيل - الدّولة السّلطة، في سياساتِها ومؤسَّساتِها. من النّافل، الى هذا كلّه، القول إنّ بين اليهود في إسرائيل وخارجَها، قوىً كبيرة تقف الى جانب الفلسطينيين، داعمةً حقوقهم المشروعة، مدافِعةً عنها. والسّؤال الآن هو: كيف يصحّ، والحالة هذه، ان نماهيَ أو نوحّد بين اسرائيل وهذه القوى اليهوديّة، ونقاطع هذه ونحاربها، كما نقاطع تلك ونحاربها؟ وإذا كان ما نقوم به هنا صحيحاً، فلماذا لا يكون صحيحاً في مكانٍ آخر: كأن نقول - الشعب والنّظام في فرنسا والعراق، تمثيلاً لا حصراً، واحدٌ، لا فرق بينهما؟ وهو مثلٌ يمكن ان يقال عن جميع البلدان الأخرى. إنّ المُمَاهاةَ أو التّوحيدَ بين الشعب والنّظام الذي يَسوده، موقِفٌ ليس ضدّ الحقيقة والواقع وحدهما، وإنّما هو كذلك ضدّ التّاريخ وضدّ الإنسان نفسه، وضدّنا نحن العرب، في المقام الأوّل. - 3 - أرفض لغةَ الاتّهام والتّجريم والتّخوين. أرفض كلّ كلامٍ يمكن أن يجرحَ كرامة الشّخص البشريّ. وما يهمّني في كلّ ما يدور اليوم حول العلاقات الثقافية بين العرب واليهود، خارج اسرائيل وداخلَها، والتي تتّخذ من الجانب العربيّ اسماً بائساً هو "التّطبيع"، يتجاوز الوقائع الفرديّة وما تُثيره من خِلافاتٍ وآراء. ذلك أنّ المسألة، في عمقها، مسألة رؤيةٍ، وبنيةٍ، وتربيةٍ، وأُفق. هل آمل إذاً أَلاّ يَستغربَ أحدٌ كلامي إن قلت إنني لا أستغربُ كثيراً ما يحدث في الثقافة العربيّة حول ما يسمّونه "التطبيع". ففي السّيرورة التّاريخيّة لهذه الثّقافة، وبخاصّةٍ ما اتّصلَ من هذه السّيرورة بالمؤسَّسةِ السّياسيّة، ما وَلّد في الثقافة العربيّة تقاليد من خارج الرّؤية الإبداعيّة، حوّلتها هي نفسها الى نوعٍ من المؤسَّسةِ السّياسيّة: أصبحت "الرّقابة" مثلاً، جزءاً عضويّاً، فيها. فحين نقول ان في المجتمع العربيّ، اليوم، كلمة "ثقافة"، نقولها مُبطّنَةً بكلمة "رقابة". والعمل الثقافيّ العربيّ يتمُّ، مَحْفُوفاً أو مسكوناً بالمَنْع، والاتّهام، والتّجريم. ولا يُنظر الى هذا العمل بوصفه إبداعاً حرّاً، وإنما بوصفه نشاطاً سياسيّاً. وبوصفه كذلك، لا ينظر اليه إلاّ بوصفه ضدّ النّظام القائم أو معه. وهكذا تُقرأ الكتابة الإبداعيّة بعين القانون لا بعين الإبداع والحريّة، فَيُخوَّن الكاتب، أو يُكفَّر، أو يُحاكَم. وفي هذا ما أفسدَ الثّقافةَ ويواصِلُ إفسادَها. - 4 - أن يكون الكاتب العربيّ طليعةً كتابيّة وطليعةً سياسيّةً في آنٍ، أمرٌ يُحتّم عليه أن يقيم حدّاً فاصلاً، نظريّاً وتطبيقيّاً، بين كتابته، من جهة، وسياسة النظام و"آدابه" من جهة ثانية. دون ذلك، سوف يجد نفسه يمارس لفظيّاً شعارات الطليعة السّياسيّة، ويعيش عمليّاً في الخندق ذاته الذي يُرابِطُ فيه النّظام. هكذا يتوجّب أن يدرك أنّ معنى "العدوّ" في السّياسة يختلف عنه في الكتابة. وأنّ الموقف ازاءه يختلف هو كذلك: في السّياسة شيء، وفي الكتابة شيء آخر. ولن يؤدّيَ الإلحاحُ على التّطابُق بين السّياسيّ والكتابيّ إلاّ الى تغليب السّياسيّ الذي هو، في حالة المجتمع العربيّ، في أساس المشكلة، بوجوهها المختلفة، مُشكلة القصور عن مجابهة "العدو" على أيّ مستوى. وأن تؤدّيَ تبعيّة الكتابة للسياسة إلاّ الى تَعميم هذا القُصور، أي الى خَنْقِ حركيّة المجتمع. - 5 - تداعيات واستطرادات: أ - تكاد الممارسة الثّقافية العربيّة السّائدة أن تخلوَ من البعد الأخلاقي الذي يعطيها معناها الإنسانيّ الأكثر عمقاً. إنّ ثقافةً بلا أخلاقٍ هي أوّلاً خيانة للذات، قبل أن تكونَ تَشْويهاً للآخر. إنّها أمراضٌ أخرى، وسجونٌ أخرى. * ب - الثقافة العربية السّائدة: معامِل لتحويل اللّغة العربيّة الى دواليبَ لِعجلاتِ السَّلطة. * ج - كلّ قضيّة تَستَدْعي أو تَستلزم تشويه الإنسان، أو قَتله، أو التَّضحِيةَ به من أجلها ليست إلاّ نَفْياً له. ليست إلاّ هاويةً. القضيّة الإنسانيّة حَقّاً هي التي تُحيي الذات، وتحيا بها الذّات، وتساعدُ الآخرَ على الحياة. * د - ما قيمة الثّقافة التي تقوم على اغتيال الذّات؟ * ه - يكاد العربيّ أن يفقد قدرته حَتّى على "استخدام" جسده. تكاد الأوضاع المهيمنة ان تفرضَ على البشر أن "يَسْتَجْدُوا" حتّى حياتَهم الخاصّة. * و - كلّ نظام سياسيّ "يُرْجِئُ" ممارسة الحرّيات والحقوق، لسببٍ أو آخر مهما كان، بحجّة أو أخرى، مهما كانت، إنّما هو، قطعاً، نظامٌ مناوئٌ لحقوق الإنسانِ وحرّياته. * ز - من طبيعة كلّ نظام مُغْلقٍ، وغير ديموقراطيّ، أن يخلقَ باستمرارٍ خصوماً له. فإذا لم يكن له خصومٌ "يأكلهم"، لا بُدَّ له من أن "يأكلَ" نفسه. * ح - إذا كانت للكتابة الإبداعيّة مهمّة سياسيّة، فهي التَّأْسيسُ لإقامة سياسةٍ تون وسيلةً ومكاناً لتحرير الإنسان، وبناء الحياة الكريمة الحرّة. وعمل الكاتب في هذا الإطار هو في أن يُجابِهَ المَجْرى البائس للأشياء، وأن يجابه الخضوع البائس لهذا المَجْرى. * ط - كيف يحدث أن تتقزّم اللّغة العربيّة بأمواج مُحيطها الرَّحب، أن يتقزّم "لسان العرب" في دُمًى، في رقع شطرنج، في أبواقٍ، في خُوَذٍ وكراسٍ، في مدائح مِسكينةٍ وأهاجٍ أكثرَ مَسْكنةً" كيف يحدث أن تتقلّص مسافات اللّغة العربيّة وآفاقها في كتاباتٍ تتمحور حول الخيانة والعمالة، الكفر والقتل، المذهبيّ والطّائفيّ، الخارج والدّاخل، الأجنبيّ والوطنيّ؟ كأنّ اللّغة العربيّة تتحوّل الى شاشة ضخمة، تمتدّ بين رأس الخليج وقدمي المحيط، وليس فيها غير ثقوب الدّم، وغير الأشلاء المتناثرة، وغيرُ الهَرج والعماء - حيث تُسمّى الحريّة جريمةً، والحقيقة باطِلاً، وحيث يُكَالُ الظّلام والضّوء بمكيالٍ واحد. * كيف فقَد الإنسان معناه، وأصبح أقلّ قيمةً من أي شيء؟ يُطرد ويُنْفَى، يُعزل ويُسجن، يُهان ويُقتل، يُتّهَمُ ويُجَرَّم، بسهولةٍ كاملةٍ، كما يُشرَبُ الماء؟ وكيف نألف هذا كلّه، كما لو أنّه طبيعيّ كالنّهار واللّيل؟ تُرى، لم تعد لدينا قضيّة إنسانيّة تتجاوز حدودَ أَنانيّاتِنا، وحدودَ مصالحنا المباشرة؟ تُرى لم يعد لأيٍّ مِنّا عالَمٌ داخليٌّ يشغله؟ لم يعد لديه ما يقوله عن هواجسهِ، وأحلامه، عن رؤاهُ وحدوسه، عن ثورته على نفسه، وثورتهِ فيها؟ ترى لم تعد لديه إلاّ قضيّة واحدة تملأ وجوده كلّه: أن يدمّر غيره، في شكل أو آخر، بطريقةٍ أو أخرى؟ كلّ شَخْصٍ، كلّ كاتبٍ - خصوصاً، يمتلك شيئاً فريداً خاصّاً به، يُعانيه ويقولُه. لا يمكن أن يشغل نفسه ب"مطاردة" غيره. فلماذا - قَلَّما نرى في الكتابة العربيّة السّائدة غير هذه "المطاردة"؟ لماذا؟ ما السرّ؟ ومرّةً أخرى: ما العمل؟ ي - أشعر أحياناً، فيما أكتب، أنّ أيديَ خفيّة تمتدّ الى طاولتي: تمزّق جميع الأوراق، تكسر جميعَ الأقلام، وتحرق جميعَ الكتب. وأشعر أحياناً، في ما أكتب بهذه اللّغة العربية البهيّة أنني مطوّقٌ من الجهاتِ كلّها بالظّلماتِ من كلّ نوع. أشعر كأنَّ الحروفَ تضطرب، كأنّها ترفض أن ترتسم، تخاف من أن ترتسم. كأنّ يدي ليست إلاّ قصبةً تكاد أن تنكسر. كأنّ تحت ثيابي موتاً يتحرّكُ في كلّ خليّة من خلايا جسدي. كأنّ بين أوراقي جيوشاً ومعاركَ وانقاضاً. ويزداد شعوري حِدّةً وفاجعةً مع تزايُد يقيني بأنني اليوم أكثرُ تعلّقاً بهذه اللّغة التي أُفْصحُ بها، وهذه الثقافة التي أنتمي اليها، مِنّي في أيَّ وقتٍ مضى. وبأنَّ البلدانَ التي تتجرجَرُ فيها هذه اللّغة، مرذولةً ومخنوقةً، تبدو في بصيرة المتأمّل كأنّها التباسٌ في عَقْل التّاريخ.