الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    يونس محمود ينتقد ترشيح المنتخب السعودي للقب كأس الخليج    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة الاقتصاد . مقاومة توحش الرأسمالية تتطلب تنشيط القضاء وتمييز الدول عن الشركات 2 من 2
نشر في الحياة يوم 20 - 06 - 2001

ساعد على تقهقر الاقتصاد السياسي، وسائر العلوم الانسانية، نفوذ الفكر البنيوي Structuralisme خصوصاً في الستينات من القرن العشرين، هذا الفكر الذي رأى ان العلاقات الانسانية والمجتمعية لها طابع مستقر، وبناء واضح المعالم، يمكن اعادة تمثيلها شكلياً عبر سلسلة من المعادلات الرياضية. ومع ان المدارس البنيوية في العلوم الانسانية لم تكن تلتقي في المبادئ الفلسفية مع المدارس الليبرالية الجديدة او القديمة غير ان معتقداتها الأساسية سهّلت الالتقاء معها من خلال استعمال القاعدة الشكلية الرياضية Formalisme mathematique.
ومن مفارقات هذا الاتجاه تركيز المشاهدات الاقتصادية والتحاليل على التطورات الآنية الظرفية Conjoncturelle أي الرقم الاحصائي الذي يصدر بشكل دوري، اسبوعياً او شهرياً او فصلياً، حول تطور عناصر الكتلة النقدية. او التركيز على أرباح كبريات الشركات المنتجة للسلع والخدمات، ورأي المستهلكين حول تطوّر مداخيلهم ورأي المنتجين حول اتجاهات الاستثمارات الجديدة، الى آخره من كل هذه المؤشرات والمعايير التي لا تحصى، وهي تستغل اعلامياً في كل انحاء العالم لتبرير حركات غير عقلانية في اسواق المال وأسعار العملات والأسهم والسندات. منذ عشرين سنة كانت التغييرات الطفيفة الحاصلة اسبوعياً في تطور عناصر الكتلة النقدية بالنسبة الى المعايير الموضوعة لتطورها لكبح جماح التضخم من قبل المصارف المركزية هي التي تؤدي الى زعزعة الأسواق بشكل سخيف والى هبوط سعر العملات وصعودها. اما اليوم، فأي فرق بين تقديرات الأرباح الفصلية لكبريات الشركات في أي بلد وبين الأرباح المحققة فعلاً من قبل تلك الشركات يهزّ ليس فقط سعر سهم الشركات المعنية انما أيضاً كل السوق المالية المحلية وكذلك الأسواق الدولية الأخرى، خصوصاً اذا كانت الشركة أميركية عملاقة.
ويتجسّد اليوم الشيطان الاقتصادي في ظاهرة "التضخم" Inflation مهما كان نوعه وأسبابه التي قد تكون ظرفية فقط، ويتجسد كذلك في أي تدخل من قبل بيروقراطيات الدولة لتأمين الحد الأدنى من العلاقات المجتمعية المتوازنة خصوصاً من ناحية حماية الفئات الاجتماعية المحدودة الدخل او الفقيرة والمهمشة في قنوات الازدهار العالمي. وزال من اهتمام علم الاقتصاد دراسة ظواهر صعود سوء توزيع الثروات والمداخيل داخل كل قطر من اقطار العالم وبين الأقطار، وكل ظواهر زيادة اختلال التوازن Assymetrie في العالم الاقتصادي والمالي المعاصر. ويظهر الاقتصادي الذي يهتم بخطورة مثل هذه الظواهر وينكب على دراسة معالم توسعها وأساليب مكافحتها وكأنه في موقع "الرجعي" Reactionnaire، المتأخر عقلياً الذي يحنّ الى الماضي "اليساروي" Gauchiste والعالم ثالثي Tiers Mondistes الذي ولّى من دون رجعة وذلك لخير البشرية جمعاء. هذا في حين ان مشايخ الاقتصاد الكمي وكبار انبيائه Gourous الذين تسلّط عليهم كل الأضواء الاعلامية الدولية يمكن ان يخطئوا الأخطاء الجسيمة في تنبؤاتهم الظرفية حول تطور الاقتصاد العالمي او اسواق المال وتطور سعر الأسهم فيها او تطور أية ظاهرة اقتصادية أو اجتماعية ومع ذلك فإن وضعهم كعلماء ذات قيمة ووزن لا يتزعزع مهما كرروا اغلاطهم. ولم تتزعزع الثقة فيهم كذلك على رغم ما آلت اليه وصفاتهم البدائية الساذجة من نتائج ميدانية عكسية تماماً للهدف المعلن كما حصل مثلاً في بعض الدول الاشتراكية السابقة عند تحولها الى رأسمالية وحشية ذات طابع عصابة الاجرام Capitalisme maffieux. وربما كان للتقلبات الحادة في اسعار البورصة الأميركية بعد فورة غير عقلانية في اسعار الأسهم، خصوصاً تلك العائدة الى الشركات العاملة في ميدان الالكترونيات، ما يدلّ دلالة فصيحة على فشل كل النظريات العلمية الشكل والمبنية على استعمال مكثف للرياضيات الدائرة حول صوابية وعقلانية القرارات الاقتصادية الفردية. فإذا كان هذا هو الحال فكيف يمكن ان نشهد مثل هذا التدفق المفاجئ ومن ثم التبخّر السريع لثروات مالية لا تستند الى أية قاعدة عقلية سليمة متجذرة في الواقع الاقتصادي والتكنولوجي.
الفكر النقدي
من المؤسف حقاً ان تكون الاتجاهات الرئيسية في المعرفة الاقتصادية خلال العقود الثلاثة الماضية اخذت هذا المنحى غير العقلاني والذي يتميز في بعض الاحيان بأساليب الشعوذة او التهريج. وفي بعض الاحيان يبدو لي ان البشرية عادت الى العهود القديمة او عهود القرون الوسطى حين العقلنة كانت محدودة الاستعمال وممنوع اللجوء اليها في كل الأمور الدينية الطابع او في المعتقدات الايمانية المسبقة. وعلى رغم تكاثر الاحصاءات في كل الميادين وتعاظم امكانات الحساب الاقتصادي بفضل تقدم التقنيات الرياضية واستعمال الأدمغة الالكترونية، فإن التقديرات والتنبؤات تظهر دائماً مع الوقت طابعاً مضحكاً غير جدي، وهي لا تحول دون حدوث التقلبات الحادة في الأسواق والأزمات الاقتصادية وزيادة الفقر والفروقات في توزيع المداخيل والثروات.
ومن الأمور البديهية ان الفكر النقدي في الفلسفة والعلوم الاقتصادية والسياسية وفي العلوم الانسانية بشكل عام انهار انهياراً شبه كامل لصالح ما يسمى ب"اللغات الخشبية" Langue de bois السائدة في وسائل الاعلام كما في الجزء الأكبر من الأعمال الاكاديمية في معظم انحاء العالم. ربما يعزى هذا التطور المؤسف الى زوال التناقض والتنافس السائدين خلال القرن العشرين بين الفكر الاشتراكي الماركسي المصدر والفكر الليبرالي، وهما فكران نبعا من المنبع نفسه أي فلسفة الأنوار. إن مثل هذا التناقض كان يثير القلاقل الفلسفية الأساسية ويشجع على البحث النظري حول مبادئ الأخلاق والآداب والقيم الجماعية الدائرة حول مفهوم الصالح العام. أما بعد انتصار الليبرالية ميدانياً فقد اختفت أسباب القلق الخلاق في المعارف الانسانية ولم يعد للاقتصاد اي دافع للاهتمام بالنواحي السياسية في تنظيم الدولة والمجتمع. فالمجتمع الديموقراطي الليبرالي المتمحور حول الفرد والمنشأة الاقتصادية وأنماط الاستهلاك والانتاج، وذلك بالمنطق المبسط للمعتقدات الايمانية للفلسفة الليبرالية الجديدة، لم يعد يشعر بضرورة التفكير والتأمل حول دور الدولة والقيم الجماعية وآليات توزيع الدخل. فالعقلنة هي التي اصبحت مسيطرة بشكلها الديموقراطي الفردي الاستهلاكي بحسب ادعاء الفكر الفلسفي الجديد الى درجة ان احد اساتذة العلوم السياسية في أميركا وهو السيد فوكوياما الف كتاباً اخذ شهرة عالمية بعنوان "نهاية التاريخ" بمعنى ان انتصار الديموقراطية والقيم الفردية فيها على كل الأشكال الأخرى ستؤدي الى نهاية صيرورة البشرية القلقة وحروبها وخلافاتها المزمنة لإقامة النظام الأفضل، سياسياً واقتصادياً.
موجة التفاؤل غير العقلاني التي تلت انهيار المعسكر الاشتراكي لم تنته بعد. وهناك اتجاهان مهمان لا بد من ذكرهما قبل الاقدام على طرح بعض التأملات المستقبلية.
الاتجاه الأول هو الاهتمام المتزايد بتأكيد ضرورة احترام الأخلاق في التصرف الاقتصادي: ويبرز هذا الاهتمام بأشكال مختلفة في الدول الأكثر تقدماً. ويتركز على مادة اصبحت تدرس في بعض الجامعات تحت عنوان: "اخلاقيات الأعمال الاقتصادية" أي Business Ethics. وفي الحقيقة ان هذا الاتجاه يحلّ محلّ الفراغ الكبير الذي أحدثه زوال الفكر النقدي وانكفاء العلوم الاقتصادية على ذاتها وعلى الاساليب الكمية الرياضية الشكلية المهيمنة عليها. ويهدف هذا الاتجاه الى توعية رجال الأعمال وكبار موظفي الشركات الخاصة بأن العمل الاقتصادي له طابع اجتماعي وهو يؤدي وظيفة جوهرية في المجتمع، ولذلك لا يمكن لهذا العمل ان يجري في الفراغ الاخلاقي وأن يسيء الى بعض فئات المواطنين أو الى المساهمين الممولين للشركات مثلاً أو الى سلامة البيئة. وفي غياب الاتفاق على دور الدولة في الاقتصاد وتدخله لمنع إساءة التصرف في المجال الاقتصادي، فإن اللجوء الى مفهوم الاخلاق والأدب يصبح السلاح الوحيد في أيدي من يريد الاصلاح ولجم الميل الطبيعي عند الانسان لاستغلال كل الفرص الاقتصادية للإثراء السريع ولو على حساب سائر فئات المواطنين.
والحقيقة ان هذا الاتجاه يكمل اتجاهاً آخر في الرأسمالية الأميركية. وهو يتجسد في تقاليد عريقة في الحؤول دون تحول نظام الحرية الاقتصادية الى رأسمالية وحشية الطابع وذلك عبر مكافحة التصرفات الاحتكارية او عبر زيادة شفافية السوق من ناحية توافر المعلومات الصادقة للمواطنين قبل الانجرار الى شراء اسهم او سندات في السوق المالية مثلاً. والمحاكم في أميركا مشهورة بقوة تدخلها في كل نواحي الحياة الاقتصادية لتأمين التصرف الاخلاقي في عالم الاقتصاد والمال في اطار مفهوم متطور للمنافسة الشريفة الحرة التي يجب ان تسود في المجال الاقتصادي.
قوة ردع قضائية
وكما نعلم، فإن الساحة الاميركية شهدت في السنوات الأخيرة تعاظم الحركات من اجل الحفاظ على البيئة ومن اجل تحقيق الشفافية في حسابات الشركات والمصارف والمؤسسات المدرجة اسهمها في البورصة والدفاع عن حقوق المساهمين. وكذلك من اجل حماية المستهلك من المنتوجات المسيئة الى الصحة. وهذا الاتجاه نابع من تنازل الدولة عن دورها التقليدي في التنظيم والضبط والمراقبة والحماية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وذلك تحت الضربات المتتالية للفلسفة الليبرالية الجديدة في السياسة والاقتصاد كما في الأمور الاجتماعية. ونحن نتوقع المزيد من تصاعد تلك الحركات في استمرار غياب دور الدولة. والجدير بالملاحظة اننا نجد الاتجاه نفسه في أوروبا وهو برز أولاً في ايطاليا عبر تحرك الاجهزة القضائية ضد فساد رجال السياسة وسوء استغلال النفوذ أو علاقتهم بالمافيا او ببعض رجال الاعمال المستغلين لصداقتهم مع رجال السياسة. وانتقلت الحركة ذاتها الى فرنسا حيث برز القضاة في السنين الأخيرة كقوة ردع لا يستهان بها في مجال الاخلاق الاقتصادية والمالية وفي مجال مكافحة سوء استعمال اموال الشركات العامة والخاصة وممتلكاتها من قبل القيمين عليها لمصلحتهم او لمصلحة كبار رجال السياسة Abus de bien sociaux. كما نشهد تطوراً في التشريعات الاقتصادية لحماية حقوق المواطنين الذين يتعرضون الى الابتزاز والاستغلال كما حصل في فرنسا في المجال المصرفي مع القانون الذي حدد الحد الأقصى للفائدة الفعلية التي يمكن ان تطبقها المصارف تجاه عملائها ومع الاجراءات المتخذة لاعادة النظر في الفوائد المحملة الى الفئات غير المقتدرة.
الحركات المعادية للعولمة
الاتجاه الثاني المعرقل لهيمنة الفكر التفاؤلي الساذج على العلوم الاقتصادية يتجسد في تكاثر الحركات المعادية لانتشار العولمة وتعددها وهي حركات نبعت اساساً من حيوية جمعيات المجتمع الأهلي ONG في الدول المتقدمة وعلى رأسها كبريات الجمعيات الأميركية المعارضة لاقدام الولايات المتحدة على مزيد من الانفتاح الاقتصادي على السلع الرخيصة المنتجة في العالم النامي.
وهذه الملاحظة مهمة وتدل على تراجع الوعي والديناميكية لدى العالم النامي منذ اصابته بأزمة المديونية الخارجية في بداية الثمانينات من القرن الماضي. وهناك أيضاً جمعيات حماية البيئة الغربية الناشطة جداً في الحركة المعادية للعولمة لما تراه من اخطار على البيئة ناتجة عن مسار الاقتصاد العالمي المتجاهل لمقتضيات حماية البيئة.
لن أطيل الكلام في هذا الموضوع المعروف الا للاشارة مجدداً الى ان الحركة المعادية للعولمة هي حركة متفرعة من العالم المتقدم بالدرجة الأولى ولم نشعر الا أخيراً بمساهمة كبيرة من العالم النامي في اجتماع بورتو اليغري Porto Allegre المقابل لاجتماع دافوس السنوي، حيث كانت مساهمة جمعيات دول اميركية اللاتينية مساهمة ملموسة. اما الصين والهند والأقطار العربية فلم نسمع عن مشاركة فاعلة لها في المحافل المعادية للعولمة. وهنا الفرق الكبير مع ما حصل في السبعينات من القرن الماضي عندما قامت دول العالم الثالث، وعلى رأسها دولة عربية هي الجزائر، بمطالبة الأمم المتحدة باعادة النظر بالنظام الاقتصادي الدولي لتأمين عدالة اكبر في توزيع منافع التقدم التقني والتكنولوجي بين الدول الصناعية ودول العالم الثالث.
والجدير بالملاحظة هنا ان مجموعة دول عدم الانحياز كانت في ذلك الحين ذات نفوذ فاعل في النظام الدولي.
ومع ذلك، فإن الحركات المعادية للعولمة، بما فيها موقف المناضل الريفي الفرنسي جوزي بوفيه Jose Bovais، تعبر عن سوء الشعور الذي يتصاعد حول المنحى المتخذ في الأمور الاقتصادية الكبرى وذلك في غياب ثقافة اقتصادية متفق عليها او بتعبير أدق في ظل انهيار مقومات الثقافة الاقتصادية العامة، النقدية الطابع، النابعة من فلسفة الأنوار، وسيطرة علوم اقتصادية مجزأة لا رابط بينها ولا مقومات لها غير التقنيات الكمية الرياضية الطابع. فهل يمكن التطلع الى اعادة شيء من التماسك في المعارف الاقتصادية وإعادة بناء اقتصاد مجتمعي يستند الى منهج فلسفي غني ونقدي يثير القدرة الخلاقة في التحليل وفي ايجاد سبل ناجعة ومتفق عليها لاصلاح مجتمعات تعاني سوء الأحوال على رغم كل التقدم الحاصل في التقنيات والتكنولوجيات؟
نحو ثقافة اقتصادية جديدة
ان استمرار التطورات العملاقة في مجالات العلوم والثورات المتتالية في عالم الالكترونيات والمعلوماتية، وبالتالي تطوير "ثقافة" جديدة مبنية على استعمال مكثف لوسائل الاعلام الحديثة Media وطرق تبسيطها في جميع الأمور، كل هذه العوامل لا تساعد على تغيير المسار في ثقافة الاقتصاد كما وصفناه في هذه الدراسة. هذا مع الاشارة الى صعود الاتجاهات المعاكسة للتيار الرئيسي في العلوم الاقتصادية وتوسيع دائرة الاستماع اليها اضافة الى ظواهر الرفض الميداني للعولمة.
ومما يزيد الأمور تعقيداً في هذه المعركة الفكرية ان من يسعى الى المضي عكس التيار المهيمن في تطوير المعرفة الاقتصادية يظهر بمظهر "الرجعي"، "المتحالف" مع حركات الرفض الميدانية والتي توصف من قبل وسائل الاعلام وكأنها تسعى الى الوقوف ضد سير التقدم والعلم والمنطق التاريخي.
هذا مع الاشارة الى استحكام انصار المعرفة الاقتصادية المختصرة باستعمال الأساليب الرياضية الكمية وتقنيات الحساب الخاصة بنظرية الألعاب والاحتمالات بمراكز جامعية في كل انحاء العالم، وترتبط هذه المراكز بشكل هرمي بأهم الجامعات الاميركية، لما لهذه الجامعات من صيت عالمي ونفوذ على كل جامعات العالم. لكن نشهد في المقابل أخيراً بداية حركة انتقادية لهذا الاستعمال المفرط للتقنيات الرياضية. مع ذلك اعتقد اننا ما زلنا بعيدين من زعزعة استحكامات المدارس الحديثة في الاقتصاد والعلوم الانسانية عموماً. والسبب الرئيسي لضعف الحركة المضادة لهيمنة الاقتصاد الكمي، على رغم الكثير من الصمود وبعض التقدم، هو ضعف التفكير الفلسفي والتاريخي النقدي العام خارج بعض الافراد المرموقين العائشين في عزلة اكاديمية كبيرة نظراً الى خلفيتهم الفكرية الخالية من قيم الليبرالية الجديدة مثل اريك هسبوم E. Hosbawn أو يورغن هابرمس J. Hambermas أو نعوم شومسكي N. Chomsky.
أضف الى ذلك كمية الانتاج المكتوب لكل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبعض اجهزة الأمم المتحدة وهيمنة هذه الاجهزة على انتاج الاحصاءات الدولية. وكما هو معروف، فإن هذه المؤسسات تتحدث بكثافة عن مشكلة الفقر في العالم وعن مقتضيات التنمية البشرية وعن ضرورة مكافحة الرشوة والفساد وإقامة الشفافية والمساءلة والحاكمية Accountability and governance وهي كلها مواضيع قريبة للقلب اصبحت جزءاً من الأدب الاقتصادي النقدي. لكننا نعلم الفرق بين الكلام الجميل والممارسة.
لذلك اعتقد ان المعركة ستكون طويلة وشاقة وانه لا بد من تضافر الجهود لمزيد من التصدي للاتجاهات الفكرية البسيطة والساذجة ولاعادة الترابط بين المعارف في جميع ميادين العلوم الانسانية وللقيام بالتحليل النقدي الذي يربط بين انتاج النظريات والمواقف الفلسفية. وعلينا ان يكون لنا الجرأة لنقول ان الاقتصاد ليس "علماً" بل انه "فن" من فنون ادارة المجتمعات يتطلب معارف واسعة في التاريخ الاقتصادي وتفكيراً معمقاً على طريقة ابن خلدون أو مونتسكيو حول صعود المجتمعات وانحطاطها وتبني نظام قيم واضح المعالم وليس ضمنياً Implicite يستتر وراء شعارات براقة وتقنيات رياضية تؤدي الى افقار الفكر الاقتصادي، كما يتطلب خضوع هذا النظام الى ممارسة النقد الفلسفي الأخلاقي.
وفي هذا المضمار علينا ان نعود الى منبع تراث الثقافة الاقتصادية وأن نفرق بين فنون ادارة الممتلكات والأموال والأعمال الاقتصادية، كما كان الحال منذ الأزمنة القديمة، وفن ادارة المجتمع وتحسين انظمته، فالقضاء على التفريق بين المعرفة الاقتصادية الخاصة بالمنشأة Micro-Economie والمعرفة الاقتصادية حول ادارة المجتمعات او الأحجام الكبيرة Macro-Economie سهل التطورات السلبية في الفكر الاقتصادي الموصوفة هنا. وبطبيعة الحال انه يمكن اعادة ترتيب هذا التقسيم على ضوء التحولات الحاصلة ميدانياً وخصوصاً تحول المنشآت الاقتصادية الفردية الى احجام عملاقة أكبر حجماً من كثير من الاقطار، ونشوء الدول التي يقل حجمها عن حجم بعض كبريات الشركات. كما ان المعرفة النظرية حول تصرف المنشآت والأفراد لا يمكن ان تختلط منهجياً بالمعرفة حول أفضل اساليب ادارة الشركات.
فهناك حقاً الكثير من الجهد الواجب بذله لاعادة ترتيب كل أنواع المعارف الاقتصادية ضمن منظومة متناسقة تراعي كل خصوصيات الأوضاع الميدانية المختلفة، وذلك كمدخل لا بد منه لبناء ثقافة اقتصادية جديدة يطمئن اليها المرء وتسهم في تخفيف القلاقل والمعاناة المتعددة الجوانب لدى فئات واسعة من البشرية، ويمكن ان تؤثر بشكل ايجابي على تطور سياسات اقتصادية اكثر عدالة وأكثر انسانية.
* كاتب لبناني ووزير سابق. والنص من مداخلة له في "بيت الحكمة" تونس في اطار "اللقاء الدولي الخامس لقرطاجة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.