"أوراق النرجس" الصادرة حديثاً عن دار شرقيات هي الرواية الأولى لسمية رمضان بعد مجموعتيها القصصيتين "منازل القمر" و"خشب ونحاس". وهي رواية ممتعة ومؤلمة في آن، شأن الحقيقة وشأن النفوس الكبيرة التي تضيء وهي تحترق بها. الحكاية بسيطة، ويمكن أن تبدأ هكذا: "كان يا ما كان في حاضر الأيام فتاة ذكية، بريئة إلى حد السذاجة، قرأت كتباً كثيرة لكننا أعفيناها من التجربة فلم نسمح لها أن تتألم. وفرنا لها كل سبل العيش، ولما أرادت أن تكمل تعليمها بعثنا بها إلى جامعة محترمة في بلد كاثوليكي محافظ. وكنا نشرف على حسن سلوكها من خلال استاذ عربي جليل، اختار لها تخصصها، وكان يداوم الحضور إليها، ويطلع بنفسه على كل ما تكتب وفي المدة المقررة أنهت دارستها وعادت". ولكن لأن "الكان يا ما كان" ليس في سالف الأيام كالمعتاد وإنما في حاضر الأيام! تتحول الحكاية إلى شجرة من أشجار التين البنغالي ما إن ترتفع غصونها في الهواء حتى تعود إلى الأرض جذوراً لفروع أخرى! كانت شهرزاد تحكي وتحكي لتهرب من الموت، أما "كيمي" راوية "أوراق النرجس" فهي تحكي لتسرع الى الموت. إنها لا تحكي أمام شهريار بل أمام كاهن هو هي، تتعرى أمامه مدفوعة بالرغبة في تخليص ذاتها من "السوى" لعلها بنزع العالم منها وعنها تلتحق بالوجود الحق جوهراً لا يكتمل إلا بالموت. "أعفيناها من التجربة ولم نسمح لها أن تتألم"، هكذا سعت العائلة، لكنها لا تنجو من التجربة، ستكون في انتظارها هناك، في دبلن، تماماً كأبي الهول حيث يطرح عليها الوحش أسئلة الوجود الملغزة، وحيث لا يكون بمقدور أحد أن يمنع عنها الألم لا الأهل ولا الوطن ولا الذاكرة التي امتلأت بالأكاذيب. بدايات "كيمي" المتعددة ستظل تكتبها وتمحوها خلال ثلاثة أيام قبل أن تقع بين أسنان الوحش وتصاب بالشيزوفرينيا. فهي تهرب من الكذب لتقع فيه، تهرب من سلطة الأب لتقع تحت سلطة أب آخر "كان يكبرني بخمسة عشر عاماً وكنت أدعوه دادي مع أننا لم نخلف أطفالاً، لم يكن في وسعنا الزواج. السن والدين ومكانته في مجتمع متعصب". يمكن البداية من هنا كما يمكن أن نبدأ من لوحة "المرأة ذات الرأس المرتبك" التي وضعتها على الحائط إلى جوار جويس وبيكيت وفتيات غوغان وهي لوحة لامرأة صينية تحدق في بطاقة بريدية. في دبلن لا أحد يعرف وطنها وترتبك إذا ما اضطرت إلى تعريفه إذ يكون عليها أن تكون هي هو، فتصرخ أعماقها: كيف يتحمل المرء مثل هذا إلا إذا كذب. كانت تتحمل عبء كونها عربية مصرية مسلمة بما يعني ذلك من استدعاء صور العنف والتخلف والسخرية. كان أكثر ما يؤلمها أن تتمزق بين وطنين، وطن أصيل ووطن بالتبني كما عاشت طفولتها ممزقة بين أمها وبين داده آمنة: "أعرف أن العيب فيّ أنا وعليّ أنا يقع عبء التنصل من هويتي أو التصرف وكأني أنا أنا فقط لا أهل لي ولا وطن، لا ذاكرة لي ولا حنين إلى مكان". يمكن أيضاً أن نبدأ من اللغة، من الضلال والخداع اللذين تمارسهما على المرء. فهذا الذي أحبته وتركت، وهي معه، استاذها يطرق الباب ولا تفتح له. هذا الفرويدي حتى النخاع لا يدري ما بها، لذا تعاقبه فيجد بعد يومين من الحب امرأة تموت برداً في سريره، لا تحادثه ولا تريد أن تقول ما بها: "كيف لا يدري ما بها هي التي لم تكن في حاجة إلى الحديث معه إلا في وجود غرباء". كانت تتوق إلى الخروج من سجن اللغة، تحنّ إلى براح أكبر حيث لا يبذل الناس جهداًَ ليفهم بعضهم بعضاً، وحيث يستطيعون الثقة في حدوسهم. بدايات عدة، بل كل البدايات ممكنة، فالمحاكمة قائمة و"كيمي" أو شهرزاد الجديدة تبدأ ولا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. ذلك أن عيني الوحش في المحاكمة تتحولان مرايا ترى فيها نفسها كما يراها الآخرون: كاذبة، مزيفة، مدعية مغرورة فتكتب وتمحو لقتل صورها هذه، لقتل "السوى" الذي يشوه وجودها الحق، هي التي تتوق إلى الإمساك بالعالم كله وأن تكون هي الوجود ذاته. سقطت "كيمي" في الشيزوفرينيا وذهب بها استاذها الرسمي إلى مستشفى سانت باتريك للأمراض النفسية والعصبية. ولكن لماذا قالت: آمنة ولم تقل اسمها عندما سألوها؟! هل لأن آمنة تميمة للشفاء من الكذب والغرور أم هي القرين الذي ينبغي أن تكون على مثاله؟ أم لأنها تحتاج وهي تتعرى وتجلد ذاتها بكل هذه القسوة إلى من تثق بحدوسها تجاهه؟بعد عشر سنوات ستعود "كيمي" الى الوطن، ستعود وقد تعافت إلا قليلاً ومعها درجتها العلمية. بداية أخرى: "دخلت حجرتي وجلست أتنفس المكان، غرفتي أصبحت مرتّبة وفيها أشياء لي وليست لي، كأن "الهوفر" التي استخدمت في تنظيف الغرفة كانت تسحب الروح من اشيائي وهي تسحب التراب، ماتت الأشياء وبقي بعضها جثثاً محنطة". في منازل الروح عند سمية رمضان يتدرج المحو من منزل إلى منزل أو من مقام إلى مقام حتى مقام الفناء، وهي في قتلها ذاتاً تنوء بالآخرين، ذاتاً "هي ونحن" معاً، "هي وهو" معاً، تقدم استعارات بديعة: الكتابة/المحو، الميدوزا، السيرينات، تمزيق الصور، ونسل النسيج عند بينلوبي. أي عذاب يصهر "كيمي" وهي تنشد الخلاص؟ ألا يذكرنا هذا بمواجيد الصوفية الكبار؟ أنها تعرف أن كل شيء ما دام حباً فهو في طور ما ومادام في طور ما فهو على خطأ ما وأننا لا نكتمل إلا بالموت. ولكن كيف يمكن الحصول على المعنى عبر ذاكرة لا تني تطفح بالأكاذيب وعالم دائم التحول وممتلئ بالتناقضات. الوجود الممكن ليس إلا أكاذيب بين جحيمين، هذه هي المفارقة التي تقع عليها وفيها "كيمي" بينما الوجود الحق هو العدم وأن السلم الصاعد إلى هذا الوجود ليس إلا سلماً في الجحيم. "أوراق النرجس" هي الكذب والغرور والعجب بالذات إذا ما تذكرنا أمثولة "نرسيس" وهي أخيراً اسم هذه الرواية الجميلة لسمية رمضان التي تنقل الكتابة إلى أفق آخر لم يكن لها في الكتابة النسوية كما تجعل لسمية مكاناً في الصف الأول من الكتابات العربيات. تمزج سمية بين الشعر والسرد وتحلق عبر التأمل إلى أفق صوفي، حيث مكابدات المريدين الكبار. ثم تستلهم في بنائها عمارة المقابر الفرعونية بجدارياتها المزحمة بالصور والحكايات، وبأبوابها المموهة والحقيقية في آن! في الرواية كما في المقبرة يؤول الزمن إلى لحظة والأماكن إلى مكان. هنا الكل في واحد حيث تحيط بك، في الرواية كما في المقبرة، حكايات الذاهب إلى الخلود، حكايات المقبرة تؤكد استقامة الميت وأنه لم يؤذ أحداً ولم يلوث ماء النهر. أما سمية، وكعادتها في قلب المعنى، فإن حكاياتها وصورها تترى على شكل أكاذيب: أقنعة مزيفة، أدوار اجتماعية مصنوعة، مراءة، تظاهر، خداع، كذب، غرور. أنها الصور التي ينبغي للمرء أن يتخفف منها متسلحاً بالخوف الذي يحرره ويصنع وجوده الحق. التناص أداة رئيسة في بناء هذا الصرح السردي وسمية تقدم عليه متحررة من ثبوتية الأصل وعكوفه على معناه. فإذا كانت الكتابة في الثقافة المصرية القديمة سبباً في الخلود، فكل ما يكتب يخلد، فهي تحورها لتصبح سبباً للموت، مستدعية ثقافة سحرية قديمة تجعل الكلمة مساوية للفعل أو مسببة له.