محملاً بإصرار بحارة الخليج الأشداء، وجلدهم على الغوص عميقاً في المجهول، لاكتشاف ما تحويه هذه المحارات من لؤلؤ القلب والروح، يأتينا جمال عبدالرحمن الفنان التشكيلي البحريني الشاب، من بحر اللون والشعر، ممتطياً فضاء الحفر المضني، ليصوغ أعمالاً فنية جديرة بالاحترام، والوقوف عندها ملياً، هو الذي يقف في المقدم خليجياً، ويمسك بزمام السير نحو المكان المناسب له عربياً، ليبدأ رحلة مضنية قد يهابها كثيرون. فجمال عبدالرحيم يعد من الفنانين القلائل الذين يمارسون انتاج الكتاب الفني المحدود التوزيع والنشر، بحرفية عالية، وجودة في الانتاج والنوعية. شرع في تجربته مع صديقه صاحب رواية "البرزخ" فريد رمضان الشاعر البحريني. البداية مع كتاب "نوران"، الذي كان بالأبيض والأسود، ثم مع شربل داغر في "رشم"، حيث العلاقة بين الشرق والغرب، وأخيراً العمل المضني والشاق مع أدونيس في كتابه "الكتاب"، ضمن معرض تشكيلي أقيم في صالة "مركز الفنون"، في البحرين، تضمن أمسية لأدونيس وإصدار ثلاثة كتب فنية، تحتوي نصوصاً شعرية، ورسوماً وحفراً لعبدالرحيم، وخطوطاً للفنان عبدالإله العرب، وهي "الكتاب" و"أدونيس والآخر" و"من أوراق خولة" الذي طبعت منه 32 نسخة فقط. "الحياة" التقت عبد الرحيم، وحاورته في تجربته الفنية، ورسمه النصوص الشعرية: كيف كانت بداياتك الفنية مع الرسم والحفر؟ - ربما لم آت الى الفن منذ الطفولة، كما اكثر الفنانين والرسامين التشكيليين، بل اتيت اليه لاحقاً، بعد كثير من المتغيرات والمفاجآت في حياتي الخاصة. كنت اعشق البحر وأغوص في أعماقه ودونت حوافزه الخاصة في ذاكرتي، فكنت كمن يمتطي طائرته بحثاً عن شيء ما ولا ادريه، حتى اكتشفت الفن، مصادفة. وأخذت أبحث وأقرأ بنهم زاخر مبادئه وأسسه وتاريخه. حاورت ذاتي مع قلم الرصاص بداية، ثم مع الألوان الزيتية، واختمرت الخامات كلها حتى كان اول معرض شخصي لي باللوحات الزيتية، فلم اكتفِ بها، بل اتجهت الى بداية أساس الفن، أي الحفر. وشدني هذا العالم المليء بالأسرار والمعمق بظلال الماضي والحاضر، فجربت أن اخوض غمار الاسيد والمحفورة الكلسية، وتدربت في البداية عند اصدقاء لأعرف الاصول لهذه المادة خلال مدة زمنية وجيزة. بعدها اتخذت خطاً وأسلوباً وتقنيات مفردات مغايرة، بحثت طويلاً عنها، وكنت اقرأ بنهم عن الحضارات، فشدتني حضارة بلاد الرافدين ودلمون والحضارتان الفرعونية والاسلامية. وبما انني ابن الشرق استرسلت في التفاعل مع الرموز والاشكال المستوحاة من شرقنا ومن الأساطير "كليلة ودمنة" والواسطي. اتيت الى الفن متأخراً ولم اتعلم في المعهد والكليات المختصة بالفنون، لأن تخصصي في الهندسة والرسم الهندسي، لكنني كنت دائم التجريب لأساليب متنوعة وخامات مختلفة، وأمضي في مرسمي الخاص ساعات طويلة، وانا انقب عن اللون في المحفورة والمطبوعة، واتحاور مع التقنيات. لقد بذلت مجهوداً طويلاً في التجريب، حتى وصلت الى ما وصلت اليه اليوم، من خبرة محدثة ومجددة في عالم الطباعة. فأنا لا اقف عند حدود نهائية للفن بل اغوص في داخله من دون أن اتقوقع فيه. ما هي الدوافع التي جعلتك تتجه نحو رسم الاعمال الشعرية وحفرها؟ - اعتقد أن كل "الفنون" اخوة. كل يستمد نوره ليضيء الآخر، فأنا محب للشعر وأقرأ كثيراً لشعراء متنوعين وروائيين وقاصين، ولدي إلمام بعالم الشعر وما يحمله من مشهديات جمالية وصور فنية غنية بالرموز والاشكال، وكالأرض الحاضنة الروح والجسد استلهمت منها صوراً ملونة اندمجت في الوعي واللاوعي، في عملية تجميلية للخيال الذي ابدعه الكاتب، ونقلته إلى ثقافة ذات خصوصية في الحساسية المرهفة للمطبوعة والكليشه الخاصة بي، قد يكون هناك القليل من الفنانين الذين يستلهمون هذا الضوء المستمد من اللغة، لكنني على يقين أن لكل فنان مصدر إلهام من دون وضع خريطة للأماكن والمواقع التي يتآلف معها، فكانت الكلمة والصورة تتماوجان في مخيلتي وفي اللاشعور، وأحببت أن أضيف الى شخصيتي الفنية رمزاً، هو تأسيس الكتب الفنية الشعرية بصناعة يدوية. والحكم على تجربتي هذه بالنجاح او عدمه يعود الى الجمهور الذي يتفاعل مع الأعمال والكتب التي اعرضها. عندما نلحظ شعر رامبو، نجده يصبو الى الجميع بين الألوان والاصوات والعطور. فهو شعر تشارك فيه كل الحواس، وتتخيل أن كل هذه الاشياء تنبثق من شعاع واحد، متحدة في نشيد عجيب منسجم الانغام. فالحياة الثقافية لابداعات الكتاب كانت مصدر إلهام لكثر من الرسامين. فالمخطوطات العربية والاسلامية والرسوم الحفرية والحبرية والمائية لدواوين الشعر والقصة أبدع فيها كثر من الفنانين. صحيح ان هذا الفن بدأ يضمحل، لكنني على يقين أن الكتب الفنية سيعود اليها رونقها مستقبلاً. البداية ما سبب اختيارك فريد رمضان وشربل داغر وأدونيس ليكونوا محط تجربتك الفنية مع الشعر؟ - أول كتاب كان مع فريد رمضان، عام 1995، وهو "نوران". وقد حضنني الكاتب كونه صديقاً خاصاً على إخراج كتابه بأسلوب فني، وابعاده عن التقليدية، فأجسد المحفورات مع النصوص. وكانت المحاولة الاولى في هذا الميدان واستخدمت فيها اللونين الأبيض والاسود، وكنت اتحاور مع فريد ونناقش عند تجسيم كل مطبوعة. بعدها اتت مجموعات كتبية متعددة ورحت أتعرف الى هذا العالم رويداً رويداً، حتى كانت تجربتي مع الشاعر شربل داغر الذي كان متتبعاً مسيرتي التشكيلية، فعرض علي ان اقدم بعمل فني لديوانه "رشم" الذي اخذت محطتي الفنية تنحو معه منحى آخر. قرأت النص مرات ومرات وكنت اراسل الكاتب يومياً عند الانتهاء من كل مطبوعة، حتى تخمر الكتاب وظهر الى النور. ومرت الايام حتى جاء الى البحرين أدونيس الذي اقرأ له في استمرار وكنت جسدت لوحة زيتية استلهمتها من قصيدته "ملوك الطوائف". التقيته قبلاً في بيروت وباريس، فطلب من صديقه أن يزورني في المرسم، وكنت تقريباً انجزت كتاب "رشم"، فأعجب به وتحاورنا معاً وتبادلنا الآراء الفنية في نص "الكتاب" بجزءىه الاول والثاني، فحفزني هذا العمل الفني "الكتاب" على إعادة دراسة التاريخ والشعر الخاص بالمتنبي وقراءة الحضارات المختلفة. هناك انجذاب في نفسي الى هذا الشاعر، ما حدا بي قراءة "الكتاب" بجزءيه وتدوين مفرداته في ذاكرتي والوقوف عند كل مفردة وحكمة، حتى استوعبت سره وخلاصة تجسيده البيئة الشرقية، وإن كانت تلك الصور في بعض الأحيان رمزية، إلا أن هذا التجلي في استحضار الشرق وتبجيله هو في حد ذاته هارمونية لتوحد الانسان. اختياري كلاً من ادونيس وشربل داغر وفريد رمضان، لا يعود الى كونهم اصدقاء لي فحسب، بل ولأنني قرأتهم ملياً، ولأنني على يقين أن هذا الفن سيصبح يوماً ما من الفنون المهمة في الوطن العربي. ما الصعوبات التي واجهتك خلال هذه التجربة الثلاثية؟ - أمام كل عمل فني نواجه صعوبة ذاتية، خصوصا أن الفن التصويري ملك للجمهور والنقاد. ولكل من هؤلاء ذوق مختلف. ولكن عندما تلغي هذا المفهوم من ذاكرتك تتلاشى الصعوبات، لأنك ستمتع نفسك بالفن. قراءة أدونيس مثلاً ليست سهلة وتحتاج الى الغوص في فكره وشعره. لكن الاستيحاء من الصور والمفردات التصويرية ووقوفي أمام الكليشه يقودني الى استلهام كيمياء اللغة فأعود بعدها الى ذاتي. من جهة ثانية، نلحظ أن الحفر يأخذ مجهوداً مضاعفاً، وأن استلهام النصوص وطريقة تخطيطها والانصهار مع روحها ليست بالأمر السهل. أضف الى ذلك إضفاء شخصيتك الفنية وإبرازها لتوازي اهمية النص. جربت مع ثلاثة شعراء مختلفين، ما ميزة تجربتك مع كل منهم؟ - كانت تجربتي الأولى مع فريد رمضان بالأبيض والأسود واعتمدت كثيراً الزخارف والدوائر التي تقترب من الفن الاسلامي. ومع "رشم" كان التجريد العنصر الابرز في لوحاتي، واستعمال الأقواس والدوائر وشبه الدوائر، ما جعلني اقترب من المائيات والألوان الهادئة والشفافة من استخدام الرموز، وتلك قفزة نوعية في اتجاه ما توصلت اليه في تجربتي الأخيرة التي اعتبرها الاصعب، من حيث التركيز على الثبات والمتحول فيها وإضفاء روح مشهدية على موقع المطبوعة. العمل على الشعر كيف تعمل على النص الشعري، وبأي أسلوب تجسده على اللوحة؟ - أقرأ النص الشعري مرات عدة، وبعدها أعيش في عوالمه، مدة، وأجسده في اللوحة عبر مفاهيمي ورؤيتي الخاصة، في بعض الاحيان، بل معظمها يأتي طيفاً على اللوحة، لأن الفنان الحقيقي هو الذي يستلهم الأشياء ويخزنها في لاوعيه الباطني، وعندما يقف أمام العمل الفني أو اللوحة يصبح شيئاً ماورائياً للأمور المختزنة، بعض الاحيان أنسى انني قرأت القصيدة، بل اتعمد نسيانها لأضفي رونقاً خاصاً على المحفورة لتحمل سيميائي الخاص وطريقة إخراجها. ما الذي تهدف الى الوصول اليه من خلال هذه التجربة؟ - كل تجربة كنت أخوضها، سواء في اللوحات الزيتية أو المحفورات الخاصة أو محفورات الرسم الشعري، كان هدفها إرسال الفن الى ابعاد لامتناهية. ثم ان هذه التجربة أعادتني الى ربط المفاهيم التصويرية للماضي واستحداثه. بم امتازت تجربتك الاخيرة مع ادونيس عن الآخرين؟ ولماذا اخترت نص "الكتاب" دون سواه من نصوصه الشعرية؟ - تجربة "الكتاب" مع ادونيس منحتني زخماً وانحيازاً الى الشكلانية والعلاقة بين الموروث من الصورة الأدبية المستلهمة من التاريخ الحضاري للإنسان، ومنها المشاهد الساكنة والحب والألم، والنزاعات السلطانية على حوافز الأوجاع والبكاء والاستغاثة من الموت والاستعانة بعناصر بهية من السيف والقوة والبسالة. هذه المتناقضات الضد ونقيضه، اظهرت لي إكليلاً من الكد والثقافة المكتسبة والممارسة الطويلة لأسلوب الحداثة للشاعر. تلك المساجلة على أرض اللغة والمتعة الخلابة بالصورة الرمزية اعتبرهما ميزة وخاصية اعتمد عليهما. وقد اعتمدت في إخراجي الكتاب الخط العربي الاسلامي الذي ابدعه الفنان عبدالإله العرب. والكتاب أيضاً ميزة اخرى هي عشقه الهائل للمتوسط والحضارة وإعادة بث المعرفة اللغوية والايحاءات والدلالات والرموز للثقافات العتيقة والمحدثة، إضافة الى إعادته المتنبي الشاعر الكبير. وأتصور أن تلك الرؤية للمتنبي التي تصور واقعنا العربي هي التي شدتني الى الكتاب. في تجربتك الاخيرة مع ادونيس، كان هناك تنوع في الالوان وتجريد أقل، مقارنة بتجربتك مع شربل داغر التي كانت محصورة الالوان في لونين أو ثلاثة بدرجاتهم المتفاوتة. ثم ان تجربتك مع داغر كانت اكثر رمزية وتجريدية على عكس تجربة ادونيس التي احتفيت بها بالانساني في شكل واضح وحميمي! - أنا من الناس الذين لا يحبون أن يحملوا النص اشياء لا يحملها، اي انني لا احب أن اقصر النصر وألوي عنقه من أجل عملي الفني. وفي الوقت نفسه أحاول أن ارسم وأجسد ما استوحيته أنا من النص، اي رؤيتي اليه وفهمي له. تجربة شربل داغر كانت تحكي عن العلاقة بين الشرق والغرب على طرفي البوسفور، ومنها جاءت ألوانها ورمزيتها. اما تجربتي مع ادونيس فقد كان هو يتحدث عن الشرق والانسان الشرقي، ما يحتم حضور التاريخ والذاكرة الشرقية بكل أوانها وزخمها. وهنا التمايز بين التجربتين.