لم يحتل مصطلحٌ مساحة نقاش وجدل في الادبيات العربية المعاصرة كما فعل مصطلح الحداثة. ولعله من الصعب، ومن دون نظرة فاحصة، تحديد ما اذا كنا فعلاً دخلنا هذه المرحلة او لامسنا اطرافها على الاقل. وقد يتساءل البعض: وكيف لا ونحن نساير عصر الاتصالات والتكنولوجيا بكفاية كبيرة وبلادنا تزخر بأحدث المخترعات من الشبكات الفضائية ووسائل الاتصال؟ ولكن هل ما يجري في عالمنا العربي من احداث لا عقلانية تقوم اساساً على اختلافاتنا البنيوية كشعب واحد يدل على ولوجنا عصر الحداثة اذا سلمنا بوجود عقل سياسي يقوم على معطيات حداثية غير تلك التي اشار اليها المفكر محمد عابد الجابري والتي تتمثل في العقيدة بمعنى الاعتقاد والتمذهب والقبلية والغنيمة؟ ان ما يجري اليوم في عالمنا العربي يمثل تطاولاً وتعدياً وتمدداً للحداثة الغربية التي افادت من اساسها السليم والمتمثل في مركزية العقل كمصدر للأفعال على اجزاء من العالم تعيش مرحلة تاريخية تمثل ما قبل الحداثة سواء في شكل عام مثل مناطقنا العربية والافريقية او اجزاء اخرى عايشت جوانب حداثية في بعض المجالات مثل دول شرق آسيا. الا ان المناخ الاجتماعي العام فيها يغلب عليه الجانب الطقوسي الموروث، ولكن كيف تحققت الحداثة الغربية؟ يمكن ارجاع ذلك وببساطة الى الاتفاق على تحكيم العقل وسيادته وهي مرحلة بدأت خلال القرن الخامس عشر وتوجت في القرن الثامن عشر وجرت فيها السيطرة الى حد كبير على الطبيعة والمقدرات البشرية في شكل اكثر كفاية. وقد سبق لأوغست كونت وهو احد فلاسفة الحداثة الاوروبية ان اكد ضرورة انتقال الفكر الانساني الى المرحلة الوضعية العلمية للنهوض بعد تجاوز مرحلتي الفكر اللاهوتي والفكر الديني. فالدول العربية اليوم تعايش الحداثة كأشكال ظاهرة تشبه الدول الحديثة في اوروبا ولكن البنى الثقافية المجتمعة لا تزال تعايش مراحل ما قبل الحداثة اذا صح لنا التعبير والتقسيم في هذا المجال. وكذلك ضعف البنى الاقتصادية والسياسية جعل من الصعوبة بمكان بعد ذلك الانفكاك عن تيارات الاستقطاب الغربي التي رأت من مصلحتها بقاء الأمور في هذه الدول على ما هي عليه فترة اطول، فرأينا تجميلاً للديكتاتورية ودعماً لأنظمة تسلطية حتى تستنفد هذه القوى والتيارات الغربية مصالحها مكتملة. والآن اصبح الامر اكثر تعقيداً، اذ تمثل منطقة الخليج العربي قمة التبلور لمظاهر العولمة. فكل ما فيها يدل على ذلك سواء الارض او السماء او حتى المقدرات بل والموازنات المالية لهذه الدول. هناك مظاهر فجة لظاهرة العولمة فلا حلول لمشكلات هذه المنطقة بعيداً من هذا التيار ولا يمكن احتواء هذه الظاهرة محلياً او اقليمياً ولم تعد القضية قضية جغرافيا او حتى تاريخ مشترك ولكن كيف نستطيع مجاراة الواقع العالمي وارهاصات العولمة؟ لا بد لنا اولاً من تحقيق الحداثة على الاقل في ما يتعلق بالبناء الفكري للمجتمع العربي. فالبنية التي اود ان اشير اليها هي تلك التي تتناول المواضيع الفكرية والايديولوجية في شكل يحولها الى عقيدة فتصبح كالأصنام التي تعبد وان كان معطيات بشرية وتاريخية وتصبح العلاقة مع هذه المعطيات إما القبول او الرفض فقط وليس هناك من تفاعل يخرجها من طابع القوالب الجامدة. فلك ان تقيس تعاملنا التاريخي مع الاشتراكية والرأسمالية الغربية في الوقت الراهن وقبل ذلك لعلنا دخلنا موسوعة غينيس لعدد الرؤساء والملوك الذين حكمناهم في رقابنا مدى الحياة تعدياً على سنة الله في خلقه والتي تتمثل في الضعف البشري والتدهور العقلي للإنسان مع تراجع العمر والسنين. فهذه البنية العقلية لا يمكنها ان تبتدع او ان تتقصى مجهولاً في حين ان الغرب تبنى البنية العقلية العقلانية والتي تقوم على تحديث موقع الانسان من الوجود وبات معتمداً على العقل البرهاني التجريبي. ما يحدث لنا اليوم له علاقة بهذين الأمرين وبالبنيتين العقليتين، انغماساً في الأولى وبعداً من الثانية، والا كيف يمكن تفسير الطفولة السياسية للمجتمعات العربية والتي تتمثل في حكم الفرد؟ فما نعانيه اليوم هو حداثة ناقصة تملك العقل كمعطى إلهي ولكن لا تحتكم اليه لقصور تاريخي سياسي ونتيجة لعدم فهم رسالة هذه الأمة الفهم الحقيقي. فمن يملك العقل ولا يستخدمه يكون كمن لا يملكه اساساً. فمن دون الشروع في تكوين العقلية النقدية والبنية العقلانية للفكر لا يمكن ان نقيم مشروعاً نهضوياً. فالعقلانية تقتضي مجاراة الدين للدنيا ولأحوال الناس وتطورهم واختراق الظلمات بالانتظام مع سنن الله في الكون وعدم الوقوف امام القوى الطبيعية موقف الضعيف. فالعقل الانساني اسمى وأعظم مخلوقات الله عز وجل. وكما ان الدين كما اشرت اساساً وجد لاصلاح الدنيا، والاصلاح يعني التقدم والحداثة، فلا يجب استخدامه من منظور ضيق يعوق تطور المجتمع والأمة. فتحقيق الحداثة مرتبط بسيادة العقل والبيئة العقلانية والتي تجعل من الانسان أكثر ثباتاً وقوة وتفتح آفاقاً لا يمكن ان تحققها البيئة العقلية الايمانية الجامدة، فالعقلانية تؤمن بالله وتدركه بالعقل في حين ان البنية الايمانية تؤمن به كموروث منقول اليها. * كاتب قطري