الكتاب: الفن القصصي في القرآن الكريم الكاتب: محمد أحمد خلف الله شرح وتعليق: خليل عبدالكريم الناشر: سينا للنشر والانتشار العربي، القاهرة، بيروت - الطبعة الرابعة من أجمل الكتب التي يستعيد المرء، بعد قراءتها، بهجة الحياة، من خلال تلك القصص التي يرويها القرآن الكريم وفيها العبرة والمُثل العليا، عنوان هذا الكتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم - مع شرح وتعليق خليل عبدالكريم"، وهو من تأليف محمد احمد خلف الله. وهو في الأصل رسالة جامعية رفضت جامعة القاهرة في حينه أي قبل ثلاثين عاماً مناقشتها وثارت حولها ضجة سياسية وقضائية ودينية لم تهدأ على رغم صدور ثلاث طبعات متتالية لأهميتها. واليوم تصدر الطبعة الرابعة من الكتاب وتتضمن مناقشة وتحليلاً لخليل عبدالكريم - صدرت له في السنوات العشر الأخيرة كتب عدة حول هذه المواضيع الساخنة - الذي عاصر المؤلف وادرك التجني الذي تعرض له في حينه فحرص على تذييل الكتاب بعرض وتحليل موسع وموثق، لما ورد فيه حول اخبار الانبياء والمرسلين وأقاصيصهم. ويلاحظ المؤلف في تمهيده ان الوحدة القصصية في القرآن الكريم لا تدور بحال من الأحوال حول شخصيات الرسل والأنبياء عليهم السلام. وانما تقوم قبل كل شيء وبعد كل شيء على الموضوعات الدينية والأغراض القصصية من اجتماعية وخلقية. ومن هنا تبين له: لماذا عدَّ القدماء من المفسرين القصص القرآني من المتشابه. ولاحظ أخيراً ان المستشرقين عجزوا عن فهم اسلوب القرآن الكريم وطريقته في بناء القصة وتركيبها وعن الوحدة التي يقوم عليها في البناء والتركيب. ومن هنا ذهبوا الى ذلك الرأي الخاطئ القائل بتطور الشخصية في القرآن الكريم، كما رآهم وعجزوا عن فهم طبيعة المواد القصصية في القرآن وعن أسرار اختيارها. وأحس المؤلف بحاجته الملحة الى الاطلاع على ما يفعله علماء الغرب حين يدرسون الأدب وتاريخه فاستجاب لهذا الاحساس وقرأ بعض الكتب التي تعالج هذه المسائل مما دفعه في النهاية في اختيار الفن القصصي في القرآن الكريم. ورأى أن دراسة القصص القرآني هي نقطة البدء في دراسة القصة العربية عموماً والدينية خصوصاً :"ان القصص القرآني هو القصص الذي وصلنا سليماً وهو الذي نثق ونطمئن اليه. ومن هنا نستطيع ان نعتبره الصورة الأولى للقصة العربية". وبعد ان يستعرض الكتاب المعاني والقيم التاريخية والاجتماعية والخلقية في القصص القرآني، الى الفن في هذا القصص، نأتي الى الجزء الثاني من الكتاب: الفن القصصي في القرآن الكريم، عرض وتحليل خليل عبدالكريم فيقول: يبدأ خلف الله بتناول الأساس الذي يتعين ان يميز بين قصة وأخرى وأن الاساس كان لدى من سبقه من الدارسين وهو الشخصية التاريخية واليه تعزى تسمية اقاصيص القرآن بأسماء المرسلين وغيرهم وكذا بالصفات التي اطلقها القرآن الكريم على الشخصيات مثل الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها وأصحاب الكهف وأصحاب الجنة والألوف الخارجين من ديارهم حذر الموت الخ... ولكن ماذا كانت نتيجة هذا الصنيع؟ جمعت كل الأقاصيص التي ذكرت حول نبي أو شخصية أخرى وأعتبرت كلها هي قصة هذا النبي أو هذه الشخصية، ومن هنا حجبوا أنفسهم عن ادراك أسرار القرآن البلاغية والأدبية والفنية المعجزة في: التكرار، الحذف، الذكر، الزيادة، النقص، التقديم، التأخير الخ. وترتيباً على ذلك وجدوا أنفسهم أنهم كانوا يسيرون في طريق مسدود، ومن هنا لم يجدوا مخرجاً إلا عدّ القصص القرآني من المتشابهات. هل يمكن شرح المقصود ب"الوحدة القصصية"؟ هي المشكلة التي تعالجها القصة ويقوم عليها فن التركيب والبناء. ويتفق هذا مع قواعد الأصوليين لأن مدار بحثهم في الآية القرآنية هو ما تصوره من حكم شرعي أو عقيدة "دينية من دون الاشخاص الذين تدور حولهم هذه الأحكام والمثل عليه عند الحديث على الازواج توزع الحديث عنهم في مواضع كثيرة مثل الطلاق والخلع والأبراء واللهان والظهار والنفقات... الخ، ولما كان من المحال الجمع بين آيات هذه المواقف اذ لكل منها باب فإنه يستحسن العمل بهذا المنهج في فضاء القصة القرآنية بأن تغدو هذه القصة للعظة وهذه لتثبيت قلب النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وثالثة للتخويف الخ. ويتابع عبدالكريم مناقشة المؤلف خلف الله فيشير الى ان الصور التي تحقق فيها رأي الطبري كثيرة في القرآن الكريم، وايرادها عسر ومن ثم فإنه أي خلف الله سوف يكتفي بالبعض الذي يؤكد رأيه ويوثقه. - في سورة الاعراف قصة ارسال نوح لقومه يدعوهم لعبادة الله. وانه يخاف عليهم عذاب يوم عظيم، وفي سورة هود: نوح نذير مبين يخاف عليهم عذاب يوم أليم في المؤمنين: ما لكم من إله غيره أفلا تتقون، ثم يورد خلف الله رأي الخطيب الاسكافي صاحب، "درة التنزيل وعزة التأويل" ويعقب عليه انه حلّه حلاً أدبياً وأنه بدوره يسلم الى رأي أدبي آخر إذ أنه من البديهي انه عندما تتعدد المواقف وتختلف الأشخاص فلا بد ان يكون هناك في العبارات ما يلائم المقام، ومن هنا تجيء النتيجة المنطقية وهي اختلاف الصور أو اختلاف الاقاصيص لاختلاف الصور البيانية والمواد القصصية واختلاف المقامات. - في سورة طه سؤال موسى عما بيمينه فأجاب انها عصاه. وفي سورة النمل أخبر موسى أهله انه انس ناراً "ألق عصاك". والله نفى الاختلاف عن القرآن وانه لو كان من عند غيره لكان مليئاً بالاختلاف. وهنا قد يسأل سائل ألا يوجد الاختلاف الذي جاء في سورة بشأن الاخبار عن قصة واحدة فمرة قال موسى لأهله "لعلي آتيكم منها بقبس أو اجد على النار هدى". وفي اخرى "سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبسٍ لعلكم تصطلون". وفي سورة القصص "لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار"، وفي موضع: أخبره انه ربه وأمره بخلع نعليه وأنه بوادي طوى المقدس. وسأله عما بيمينه وفي آخر... "فلما جاءها نودي ان بُورك من في النار من حولها" ثم أعلمه الله انه الله العزيز الحكيم وأمره بالقاء عصاه. وفي القصص: "نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة" وأخبره ان الله رب العالمين وأمره بالقاء العصا فلما رآها تهتز اجاب الخطيب الاسكافي في "درة التنزيل" هذا السائل بالآتي: ان الله تعالى لم يخبر ان موسى خوطب باللغة العربية، فإذا عدل عنها الى غيرها مما يخالف معناها كان اختلافاً في القرآن قادحاً فيه بل معلوم ان الخطاب كان بغير هذه اللغة. ويعقب خلف الله بأنه جواب غير مقنع لا يحل المشكلة ما دام الموقف واحداً والقصد هو الاخبار عن هذا الموقف. والحل في رأيه - وقد لمحه الخطيب الاسكافي - بأن هذا موقف وذاك آخر والاختلاف يرجع القصد الذي تفياه القرآن من الصورة القصصية، فقصة وردت للتسلية أو التسرية عن النبي عليه السلام لغرض آخر والغرض الأدبي لحادث واحد من جوانب مختلفة يكشف عن موضع العبرة والعظة من دون قصد الى تقرير خبر بعينه، فإذا اختلفت المقاصد تباينت الصورة المعبرة عنها، والاتفاق في الشخصية لا يصح ان يطغى على بقية عناصرها من اختلاف في المقاصد والاغراض والصور والألفاظ والنسق والتركيب والبناء، وهذا الوجه يبطل قول المستشرقين الخاطئ من تطور الشخصية القصصية في القرآن بتطور اغراض النبي عليه السلام ودوافعه والظروف التي احاطت والمناسبات التي دعته الى اتخاذ بعض المواقف. والمستشرقون يمثلون لذلك بما حدث في شخصية ابراهيم عليه السلام لأن اساس قولهم ان الوحدة القصصية تقوم على وحدة الشخصية وهو قول باطل والصحيح ان هذه الوحدة هي وحدة الغرض ومن ثم فلا مانع مع وحدة الشخصية ان تكون هناك اقاصيص متعددة لها عن موقف واحد لتعدد الأغراض وتباين صور العرض باختلاف المقاصد والأغراض. ونجد في قصة آدم وابليس قصة النزاع بين الخير والشر أو بين الغرائز الفاضلة والغرائز الشريرة قصد القرآن منها ان يثير فينا الحقد والكراهية لابليس والنفور منه وعدم الاستجابة اليه. ومن تلك الأشياء التي قصد القرآن توجيه العواطف نحوها الكبر والاستكبار والاصرار والعناد التي تصدر عادة من الاغنياء والقادة الذين يأخذون دور العتاة الظالمين الذين يستكبرون على الحق ويأنفون من اتباعه. وأبرع المواقف القصصية في هذا المجال موقف فرعون من موسى وملأ قوم هود وملأ قوم صالح. ويرى خلف الله ان فرعون من الشخصيات القصصية النابضة بالحيوية ذات الحركة القاسية العنيفة التي تشيع الرهبة في النفوس والخشية في القلوب بألفاظ الوعيد والتهديد، وهي مثل فريد لتمثيل مواقف المستكبرين من رسل الله، ويبرز ذلك جلياً في سورة يونس إذ تعرض لمواقف فرعون من موسى وقومه ومن السحرة وموسى وتنتهي بانتصار البطل والقضاء على الظالم مثلما يحدث في القصة الشعبية. وشبيهاً بها موقف عاد من نبيها ويؤكد الباحث ان نتيجة العرض القصصي لهذه المواقف واضرابها يلقي في النفس الخشية والرهبة ويبعث فيها الخوف عندما تدرك ان نتيجة ذلك هي العقاب. ومنها عبادة غير الله فقد كثر استثارة الانفعالات ضدها والتنفير منها وكان ابراهيم بطل القصص في هذا المضمار وبعضها بشأن عبادة النجوم والآخر حول عبادة الأوثان. ولجأ ابراهيم عليه السلام للوصول الى مبتغاه بتشكيك القوم في آلهتهم بأن يصورها عاجزة عن النفع والضرر، وانهم يعبدون ما ينحتون فكيف يقدسون ما صنعت ايديهم. وأبلغ مثل على تصوير ذلك القصة التي حملتها سورة الشعراء، فهي صورت موقف ابراهيم من ابيه وقومه والحوار البليغ الذي دار بين الطرفين. ويلاحظ المؤلف ان ابراهيم اتجه الى حاستين ضروريتين لدى المخلوقات للاستجابة هما السمع والبصر حتى يُعجز المخاطبين عن المجادلة ولا يجدون مفراً من الاعتراف بأنهم عبدوها تقليداً لآبائهم. وهنا تثور نفس ابراهيم ويعلن العداوة إلا للذي خلقه فهو الذي يطعمه ويسقيه وعند مرضه يشفيه ويميته ويحييه والذي يطمع ان يغفر خطيئته يوم الدين. بعدها يناجي ربه بدعوات صالحات ثم ينتهي بتصوير مشهد في الأخرة يذيب القلوب ويبعث النفور من عبادة الأوثان، مشهد يصور خصام الاصنام وعبدتها ثم تأتي الفقرة التقليدية التي يختم بها القرآن قصصه وهي أن في ذلك لآية وان ربك لهو غفور رحيم.