تفتقد بغداد للكثير من مقومات المدن الحديثة، ويفتقد قاطنوها الكثير الكثير من أسس وضرورات الحياة المعاصرة، إلا أن أشد ما تفتقده المدينة الصامتة المهدأة، ضجيج الشباب وحركتهم وتمردهم ونزوعهم الى البروز. فعاصمة العراق ليست كغيرها من مدن العصر. الحياة فيها تسير متهالكة رتيبة صامتة. الأفواه مجبولة بالصمت والجمود، والعيون تحاول ان تفصح، بخوف، عن قصص ليست من هذا العالم، وعن رغبات مجهولة مشوشة بالعزلة المفروضة منذ سنوات عدة. شباب بغداد خارج العصر، ما عدا المحظوظين منهم، وما أقلهم. لا إنترنت ولا سفر ولا حتى فضائيات، لا يصل إليهم إلا النزر اليسير اليسير، مما يجري حولهم، جمود شبه كامل، في عالم متحرك بسرعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. شباب خارج العصر، يراد لهم ان يكونوا في قلب تواريخ مضت وزالت. هيئات شباب وسلوك كهول هدتهم التجارب. يقول عراقي أمضى ردحاً طويلاً من حياته خارج العراق، إنه يخشى على أولاده، وهم في بدايات سن الشباب من التحجر والجمود والركون ل"الثقافات" الرسمية، وثقافة الحروب والحصار و"أخلاقيات" الذعر والشك، وهو لذلك خاطر بأن وضع لاقط إرسال تلفزيوني فضائي، على إحدى شرفات منزله، على رغم ان العقوبة الأخف ل"جريمة" من هذا النوع في العراق السجن لمدة ستة شهور ودفع غرامات عالية تصل الى خمسمائة دولار، أي ما يعادل مائتي ضعف راتب الموظف أو العامل العادي. يضيف، لا أريد لأولادي ان يشعروا بالغربة واليأس، عند اصطدامهم المقبل بالحياة والعصر، خصوصاً بعد رفع الحصار، أو إذا ما تيسر لي إرسالهم الى الخارج للدراسة. أريدهم ان يشاهدوا المحطات الفضائية العربية والأجنبية، ليعرفوا وليتعلموا وليدركوا في أي عالم نعيش. إلا أن هذا الأب العراقي، يستدرك، رداً على سؤال عن المخاطرة: "لقد صنعت خزانة مناسبة للاقط، وأخفيته بطريقة مناسبة... ومع أن القليلين في بغداد قادرون على تحمل مثل هذه المخاطرة، إلا أن الأمر يستحق، وسط هذه الكآبة التي تراها". وعلى رغم انه توجد في العراق محطة تلفزيونية للشباب ومحطة إذاعية للشباب، يشرف عليهما الابن الأكبر للرئيس العراقي صدام حسين عدي، إلا أن المحطتين لا تشكلان سوى متنفس بسيط للشباب العراقي الى العالم الخارجي، خصوصاً أن بث المحطتين محكوم بقوة، بالقيود السياسية والإيديولوجية. يقول شاب غير عراقي يعيش في بغداد منذ زمن، لأسباب سياسية: "الإيديولوجية السائدة الآن هي الإسلام... التوجه العام هو نحو تكريس الإيمان، وبالتالي فإن الممنوعات زادت، ووصلت حدوداً لم يسبق لها مثيل في المجتمع البغدادي، الذي كان حتى ما قبل الحصار، يعاني الكثير من القيود السياسية، من دون قيود دينية". أشد ما يلفت في سيارات التاكسي البائسة في بغداد، وغالبية السائقين من الشباب، ان الراديو دائماً مدار على المواعظ الدينية والتراتيل القرآنية، ويسود اتجاه لافت لإطلاق اللحى. وفي جلسة جمعت عدداً من العراقيين والعرب الزائرين، قال مضيف الجلسة، ان المجتمع في العراق، مجتمع ذكوري، ليس هناك مكان عام للعائلات، ربما تجلس عند باب إحدى دور السينما لستة أشهر، من دون ان ترى امرأة تدخل لمشاهدة فيلم، أما ان ترى شابة تجلس وحدها في أحد المطاعم أو المقاهي، فهذا أمر شبه مستحيل... ليست هناك حياة اجتماعية خارج المنازل. والحروب والحصار والأزمات المعيشية والاجتماعية التي رافقتها، زادت من القيود، وكرست مظاهر السيطرة الذكورية الكاملة في المجتمع. ولكن هذه الملاحظات، وعلى رغم جديتها وصحتها، لا تنطبق كثيراً على شوارع حديثة في بغداد، مثل شارع الأميرات والعرَصات الهندية وشارع الجامعة. حيث الكثير من المطاعم والمقاهي العصرية، التي يلتقي فيها الشباب والبنات، وإن بدرجة أقل من أي مدينة رئيسية خارج العراق المحاصر. كانت زيارة إحدى المقاهي في شارع الأميرات، فسحة معتبرة وسط رتابة الحياة في بغداد، خصوصاً للذين لم يتعودوا مثل هذه الرتابة. موسيقى تصدح وشبان وفتيان على طاولة واحدة، وفتيات على طاولات عدة أخرى وشبان بألبسة جيدة، وقهوة وعصير. يبدو واضحاً أن المقهى يرتاده الطلبة من كليات ومعاهد قريبة، وتحديداً الطلبة القادرون على دفع كلفة المشروبات، إذ يعادل ثمن فنجان قهوة وزجاجة مياه معدنية وقطعة حلوى، راتب موظف معتبر في الحكومة العراقية. "الاحتشام" في اللباس كان الغالب على الفتيات في المقهى، إلا أن بعضهن تجرأن على ارتداء ألبسة عصرية حديثة، تماثل الألبسة في مدن وبلدان أخرى. إحدى الفتيات كانت تجلس وحيدة على طاولة مع شاب، في مشهد يتحدى أحكام صديقنا العراقي عن المجتمع البغدادي الحالي. وفي مقهى على ضفة نهر دجلة أيضاً فتيات وشبان برفقة بعضهن البعض. من الشوارع "الشبابية" اللافتة في بغداد شارع الجامعة، حيث تنتشر بكثرة محلات الكومبيوتر، وتجد هناك بعض مقاهي الإنترنت. ويعتبر هذا الشارع الأغلى في بغداد من ناحية أسعار العقارات، وذلك بسبب الإقبال الشديد للمقتدرين على شراء أجهزة وبرامج الكومبيوتر، التي تصل الى بغداد، مخترقة الحصار من أماكن متعددة، خصوصاً من جبل علي في أبو ظبي أو من لبنان. ورداً على سؤال حول الإنترنت، قال صحافي عراقي، إنه موجود ومسموح به، مع بعض القيود المتعلقة بعدم القدرة على فتح أيقونات معينة أو الحصول على معلومات واتصالات محددة، إلا أن القيد الأساسي يتعلق بالكلفة العالية لخط الإنترنت، إذ يفترض للحصول عليه تقديم طلب الى وزارة الاتصالات، ودفع مبلغ خمسة ملايين دينار حوالى أربعة آلاف دولار. وهو أمر غير متاح للغالبية العظمى من العراقيين، إذ لا يتجاوز راتب الموظف الكبير مبلغ ثلاثين ألف دينار أقل من عشرين دولاراً. وهناك نقطة أساسية محددة أيضاً في الإقبال على تعلم الكومبيوتر، وهي شعور الغالبية العظمى من الشباب، بأن هذا العلم، سبيل للعيش في حال النجاح في الهجرة من العراق، تلك الهجرة التي تعتبر الأمل الوردي لمعظم الشباب العراقي. تفتقد بغداد، الى ملاهي الشباب والديسكو، ويبدو الرقص والغناء من الهوايات الخفية للشباب، ويصعب ان يجرؤ الشاب على الإفصاح عنها، في مجتمع فرض عليه النظام السياسي أخلاقيات قبلية وتسلطية، وباتت شخصية الرئيس هي المثال شكلاً ومضموناً. من طريقة الكلام الى طريقة التعامل الى الشنب وتسريحات الشعر. التعويض الوحيد في هذا المجال، هو في المقاهي والمطاعم في عدد قليل من الشوارع، أبرزها العرَصات الهندية، المتعة الوحيدة في تلك المقاهي غير المشرب والمأكل، هي سماع الأغاني العربية والأجنبية، وخصوصاً للمطرب العراقي كاظم الساهر، صاحب الشعبية الأكبر بين الشباب العراقي، ليس فقط بسبب صوته وفنه، بحسب ما يقول الصحافي العراقي بل أيضاً كونه يعبر عن مثال الشاب المحظوظ، الذي استطاع ان يهاجر من العراق ويحظى بكل ما يتمناه. ويضيف "كاظم الساهر ونجاحه، يمثلان الأمل بالنسبة الى الكثير من الشباب العراقي". تسمع في مقاهي بغداد العصرية، التي لا يرتادها سوى المحظوظين، أغاني وموسيقى من كافة الأنواع، من بينها أغان لمطربين كويتيين، غنوا ضد العراق والغزو العراقي. الشباب في بغداد في كل مكان، فالمجتمع العراقي، كغيره من المجتمعات العربية مجتمع فتي، الكهول والشيب، يسهبون في توصيف أوضاع الشباب والحديث عن المخاوف عليهم، إلا أنه قلما تسمع من شاب عراقي عن مشكلاته وهمومه. فالخوف تجذر في المجتمع والأسرة، وبات الشباب حذراً ومحافظاً الى أقصى الحدود. الإجابات على كل الأسئلة إيجابية "الحياة جيدة" و"فرص العمل كثيرة" و"كل شيء مؤمن لنا" لكن ما أسرع أن تكتشف ان لا شيء من الحقيقة في هذا الكلام. البؤس هو الغالب بين الصبيان والشباب، الذين اضطر اكثر من 40 في المئة منهم بحسب ديبلوماسي أجنبي الى ترك الدراسة، والسعي الى أي عمل لمساعدة الأسرة. يقول شاب عراقي، الكل يعمل في الأسرة حتى الأطفال من أجل تأمين لقمة العيش. وهذا جعل العبء على الشباب أساساً. ربما ساعدنا في تخطي المحنة التركيبة الشرقية للمجتمع حيث التضامن العائلي الاجتماعي يغلب على كل شيء، ويحول دون انهيار الأسر وضياع الأفراد. ومع ذلك فالأزمة، خصوصاً منذ بدأ الحصار، أكبر بكثير من ان يتحملها مجتمع. ويقول الديبلوماسي، إنه على رغم جهود المؤسسات الحكومية وأجهزة الأمن "فإن عدد الأطفال المشردين في الشوارع يزداد شهرياً، خصوصاً في المناطق التي تتجنبها الشرطة ليلاً، أي الأحياء المزدحمة والفقيرة، مثل حي الثورة"... ويضيف أن السبب في ذلك يعود الى فشل الكثير من أرباب العائلات في إعالة أطفالهم، ولجوء الكثير منهم الى الإدمان على الخمر أو إصابتهم باليأس. السير في الأحياء الفقيرة في بغداد، مثل حي علاوة، في وسط المدينة، امر مستحيل في النهار لشدة الازدحام، ويثير القشعريرة ليلاً، لخلو الشوارع من المارة، وسط حارات قديمة وأبنية ترابية. لا تجد ليلاً سوى مجموعات قليلة من الشبان بائسي الحال عند الزوايا يتسامرون أو يرتشفون الشاي، في مشاهد، تذكر بشبان "الحيطيست" في الجزائر. إلا أن التجمع في بغداد، حتى بأعداد قليلة، يعتبر مخاطرة على خلاف ما هو الأمر في الجزائر. فتكون البيوت البالية المزدحمة، في الغالب، عاصماً يعطي الشباب بعض التنفس في هذه الأجواء الخانقة. أزمات الشباب، ربما كانت الأخطر في العراق بعد اكثر من عقدين من الحروب والحصار، وهي التي تهدد بالفعل مستقبل البلاد، بحسب اعتقاد الجميع، لا حل لها بنظر السلطة الحاكمة سوى شيء واحد هو "الزواج المبكر" لكن من يقدم على هذه المغامرة في مجتمع يصعب حتى على الفرد الواحد الخلاص فيه.