أسود الرافدين ثالث المتأهلين    فريق أنامل العطاء يطلق مبادرة "تطوّعك يبني مستقبلك" في احتفال رسمي باليوم العالمي للتطوع    جمعية ميزان القانونية تعقد اجتماع مجلس إدارتها الأول وتعلن انطلاقتها في المنطقة الشرقية    جمعية أرفى تُقيم فعالية "قوتك وقايتك" بمناسبة اليوم العالمي للإعاقة    الأخضر يبدأ تحضيراته لمواجهة المغرب في كأس العرب    أمير الشرقية يعزي عضو مجلس الشورى سعد العتيبي في وفاة والده    الخريجي يشارك في منتدى الدوحة 2025    ماسك ينتقد الاتحاد الأوروبي بعد فرضه غرامة على منصة إكس    ضبط (4) يمنيين في عسير لتهريبهم (20) كجم "قات"    أمير حائل ونائبه يقدّمان واجب العزاء لأسرتي المعجل والفوزان    التأهيل.. معركة الوعي لا تحتمل التأجيل    أهالي حلة علي بن موسى والجارة يحتفون بالعماري بعد 35 عامًا من خدمة الوطن    4 جلسات حوارية في المؤتمر السعودي الدولي للتقييم    دور المسجد في المجتمع لمنسوبي الحد الجنوبي    القيادة تهنئ فنلندا بذكرى الاستقلال    "نبرة حيّة".. حملة إعلامية طلابية تبرز لهجات عسير إلى العالم بثلاث لغات    البيئة تجدد تحذيراتها من الرعي الجائر    الرياض سادس أنظف مدينة في العالم    أستون فيلا يهزم أرسنال بثنائية في الدوري الإنجليزي    انطلاق مهرجان المونودراما وسط رؤية طموحة لتميز المسرح السعودي    3 مدن سعودية جديدة تنضم إلى شبكة اليونسكو للتعلّم    بلدية أبو عريش تهيّئ حدائقها لاستقبال الزوّار في الأجواء الشتوية    طلاب المملكة الموهوبون يحققون 40 جائزة في معرض سيئول    "اليماحي" يرحّب بالتأييد الأممي الساحق لحقوق الشعب الفلسطيني وتجديد ولاية "الأونروا" لثلاث سنوات جديدة    الداخلية : ضبط (19790) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    سلمان الفرج يعود لفريقه نيوم بعد غياب 388 يوماً بسبب الإصابة    تنوع بيئي فريد يُسهم في انتشار 134 نوع من النباتات المحلية الملائمة للتشجير في مكة المكرمة    كتاب سعودي يحصد اعتراف عربي في مجال الصحافة الاقتصادية    رئيس البرلمان المقدوني يستقبل إمام المسجد الحرام الدكتور المعيقلي    أكثر من (39) ألف مهمة تطوعية و(19) ألف متطوع في الحرمين الشريفين خلال عام 2025    سالم الدوسري: كأس العرب هدفنا الحالي    اللجنة العليا المنظمة تكشف تفاصيل ماراثون وسباق الشرقية الدولي 27 بحضور قيادات اللجنة المنظمة    مدير هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنجران يلتقي مدير التعليم بالمنطقة    مؤسسة سقاية الأهلية توقع اتفاقية مع مجلس الجمعيات الأهلية ضمن منتدى القطاع غير الربحي الدولي 2025    فضيلة المستشار الشرعي بجازان يلقي كلمة توجيهية لمنسوبي الدفاع الجوي بجازان    أمير القصيم يكرم بندر الحمر    البيت الأبيض: أوروبا معرضة لخطر «المحو الحضاري»    نائب أمير الرياض يعزي رئيس مركز الحزم بمحافظة وادي الدواسر في وفاة والدته    نجل بولسونارو: والدي دعم ترشحي لرئاسة البرازيل في 2026    مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون يفوز جائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير القطاع الصحي    مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري يشارك في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025    اللواء العنزي يشهد حفل تكريم متقاعدي الأفواج الأمنية    اعلان مواعيد زيارة الروضة الشريفة في المسجد النبوي    التوصل لإنتاج دواء جديد لعلاج مرض باركنسون "الشلل الرعاش"    تهامة قحطان تحافظ على موروثها الشعبي    معركة الرواية: إسرائيل تخوض حربا لمحو التاريخ    أمير تبوك يواسي في وفاة محافظ الوجه سابقاً عبدالعزيز الطرباق    قمة البحرين تؤكد تنفيذ رؤية خادم الحرمين لتعزيز العمل الخليجي وتثمن جهود ولي العهد للسلام في السودان    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    برعاية خادم الحرمين..التخصصات الصحية تحتفي ب 12,591 خريجا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    مقتل آلاف الأطفال يشعل الغضب الدولي.. العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب    الناتو يشعل الجدل ويهدد مسار السلام الأوكراني.. واشنطن وموسكو على حافة تسوية معقدة    فرع الموارد البشرية بالمدينة المنورة يُقيم ملتقى صُنّاع الإرادة    أكد معالجة تداعيات محاولة فرض الأحكام العرفية.. رئيس كوريا الجنوبية يعتذر عن الأخطاء تجاه «الشمالية»    صيني يعيش بولاعة في معدته 35 عاماً    ابتكار علاج صيني للقضاء على فيروس HIV    لم يكن يعبأ بأن يلاحقه المصورون    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض المستشرقين تنقصه المعرفة الكافية في موضوع بحثه والبعض الآخر غير متخصص . رشدي راشد ل "الحياة" : اسهام العرب جزء من تاريخ العلوم والمؤسسة العلمية كانت موجودة !
نشر في الحياة يوم 28 - 05 - 2001

صدرت عن سلسلة "عالم المعرفة" عام 2000، ترجمة لكتاب الباحث في تاريخ العلم توبي هاف، تحت عنوان "فجر العلم الحديث". وهو يطرح سؤالاً مهماً: لماذا لم يترسخ العلم في المراكز الحضارية التي شهدت فجره، أي الصين والهند وبلاد العرب، فيما ترسخّ في الغرب؟
تولى ترجمة الكتاب من "أرَّقته" مقاربة هاف لإسهام الحضارة العربية - الاسلامية في المسار التاريخي لعلوم الانسان. وعمل المترجم على اضافة حواش توضيحية لم تخل من بعض المساجلة مع آراء المؤلف. وجاءت الترجمة في جزءين، وأثارت أسئلة عن دور المترجم وعلاقته بالنص الاصلي. ويبدو أن المسألة لم تقف عند مجرد التساؤل. فهذه السنة، عمدت الدار نفسها إلى إصدار الكتاب نفسه في ترجمة أسندتها إلى شخص التزم حدود الترجمة المباشرة، من دون التعليق وإيراد الآراء الشخصية. وتبين ان نص توبي هاف يكفيه كتاب واحد فقط!
وبغض النظر عن الآراء التي اجتهد فيها هاف، يبقى سؤاله عن علاقة العلم بمراكزه الاولى جديراً بالتأمل. وطرحت "الحياة" سؤال العلوم عند العرب، في ماضيها وحاضرها، على السيد رشدي راشد الذي يصعب اعتباره "من مراجع" القول في هذا المجال، لأنه أقرب إلى أن يكون هو "المرجعية" في شأن علوم العرب والاسلام.
وككل اجابة اصيلة، تحث اجابات راشد الذهن على مزيد من الاسئلة. ولعلها بداية لنقاش مفتوح.
ما القيمة العلمية الراهنة، في ظل المستوى النوعي للعلوم في القرن الحادي والعشرين، للتراث العلمي العربي - الاسلامي، خارج تاريخ الأفكار العلمية او ما يشبهه؟
- التراث العلمي العربي جزء من تاريخ العلوم، كحال نيوتن أو غاليليو. ومن يريد أن يرى في ذلك التراث واقع العلوم الحالية يسلك طريقاً مسدوداً. ولعل السؤال المشروع هو عن إسهام التراث العلمي العربي في العلوم وفي تاريخها.
علينا ان نعرف ان فهم الحداثة العلمية غير ممكن، إذا توقفنا عند القرن السابع عشر، على ما يقال عادة. ولا بد من معرفة التراث العلمي العربي، خصوصاً في العلوم الدقيقة، مثل الرياضيات والفلك والجغرافيا. وفي هذا المعنى، تتضح الصلة بين ما يحدث اليوم في العلم، والتراث العلمي العربي. ولا يمكن فهم تاريخ الهندسة الجبرية من دون الرجوع إلى أعمال عمر الخيام أو شرف الدين الطوسي. ويمتد جذر من هذين إلى أعمال الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي اسس الحداثة الرياضياتية ومنطقها.
ثمة سؤال دائم عن غياب المؤسسة العلمية العربية - الاسلامية، على رغم ازدهار العلوم. كيف ترى إلى هذا الامر؟ وما العوامل التي منعت المؤسسة العلمية من الظهور والاستقلال والمنعة؟
- هذا الكلام غير سليم، فلطالما وجدت المؤسسة العلمية العربية - الاسلامية، بل كانت أساس تطور العلوم. لماذا لا يرى المؤرخون هذه المؤسسة؟ لأنهم، في رأيي، لم يتعاملوا مع التاريخ في شكل دقيق.
لو بحثنا عن المؤسسة العلمية العربية بمنهجية مماثلة لبحثنا عن تاريخ الاكاديمية الملكية البريطانية او الاكاديمية الفرنسية l'academie franچaise، لكنا تلمسنا وجودها. واتخذت المؤسسة العلمية العربية أشكالا متعددة، سواء في البحث أو في التعليم. فعلى سبيل المثال، احتوى قصر شرف الدولة بن عضد الدولة الدويهي مرصداً، عمل فيه علماء من وزن الفلكي أبي سهل القوهي. وعقدت فيه جلسات حضرها الحكام نوقشت فيها مشكلات فقهية ودينية، إضافة الى المسائل العلمية والرياضياتية. ويتحدث كثيرون عن "بيوت الحكمة" التي انشئت في القاهرة وبغداد، وأدت دورها في تشجيع البحث العلمي والانفاق عليه. وفي المدة نفسها، أسست بيوت مماثلة، ولكن أقل شهرة بكثير، أنفق عليها أثرياء وموسرون، واعتنت بالعلماء والادباء. وشاعت المدارس الدينية، مثل "النظامية" و"المستنصرية" في بغداد، ودرست المذاهب الفقهية الى جانب الرياضيات والفلك. وينطبق الوصف نفسه على الأزهر في مصر.
ويمكن النظر الى نماذج اخرى من المؤسسات، مثل المسجد الذي يحتاج الى موقِّت لتحديد موعد الصلوات وبداية شهر رمضان وغيرهما، وهي من اعمال الفلك. وصار بعض من عمل موقِّتاً عالماً مثل الفلكي ابن الشاطر، موقِّت الجامع الاموي. ومن نماذج المؤسسة المراصد، اذ احتضن مرصد "مراغة" الفلكي نصير الدين الطوسي، وعمل عالم الرياضيات الكاشاني في مرصد ضمّ أربعين مشتغلاً في الرياضيات. وتعطي المستشفيات نموذجاً آخر من المؤسسة، وترأس الرازي احدها، وهو من اكبر الاطباء عند العرب.
وبالمعنى الاكاديمي، على الطريقة الاوروبية، أي كما كانته المؤسسة العلمية في القرن السابع عشر، ظهرت أكاديميات في بغداد عمل فيها أحد كبار المترجمين، الحجاج بن مطر، والخوارزمي مؤسس علم الجبر، ويحيى بن منصور الفلكي وغيرهم. ومن حيث الاساس، نرد على غياب المؤسسة العلمية بسؤال عن امكان ازدهار العلم أصلاً من دون دور المؤسسات! وهذا تناقض في الكلام! المهم هو طريقة البحث عن هذه المؤسسات، وما زلنا في شاطىء البحث. ويرجع السبب في تأخر البحث عن المؤسسة العلمية إلى عدم الجدية الكافية في بحوث تاريخ العلوم العربية - الاسلامية في الدول العربية والاسلامية نفسها.
أثار كتاب توبي هاف "فجر العلم الحديث" نقاشاً واسعاً. كيف تصف رأيك في ما أورده هاف عن سبب عدم انزراع العلم في مجمل النسيج العقلي للحضارة العربية - الاسلامية، على رغم عظمة الانجازات العلمية التي نهض بها العلماء العرب والمسلمون؟
- يعبر هذا الكتاب، كغيره من الكتب التي لم يكتبها متخصصون، عن أحكام مسبقة لا عن نتائج بحث أو عن معرفة حقيقية في الميدان. والغريب أن في الدول العربية والاسلامية من يهتم بمثل هذه الكتب التي لا يهتم بها مؤرخو العلم الجادون. ويدل القول بعدم انزراع العلم في النسيج العقلي العربي إلى جهل عميق بهذه الحضارة وبتاريخ العلوم في الوقت نفسه! فعلى سبيل المثال، أوردت المثال عن وجود العلم في المسجد كميقات وفلك، وفي المستشفى كطب، وفي المدارس كرياضيات، وفي القصور والحلقات كرياضيات وفلك وفلسفة. اعني بهذا أن العلم كان جزءاً اساسياً من المدينة الاسلامية التي يصعشب تصورها من دون هذا البعد العلمي داخلها، وليس كاستيراد من الخارج، كما يحلو للبعض القول. وعلى هذا النحو، احتوت المدينة الاسلامية علوماً تطبيقية متعددة مثل الجغرافيا الرياضية، أي تحديد الابعاد والمسافات في شكل رياضي، وتحديد القبلة في بلاد مترامية. وعلم الميقات هو تحديد أوقات الصلاة وبداية شهر الصوم.
وكان العلم جزءاً من الممارسة الدينية ايضاً. فعلى سبيل المثال، وجب على الفقهاء حل مشكلات الميراث بحسب الدين الاسلامي، ونشأ علم الفرائض المؤسس على الرياضيات. ولعل القول بعدم انزراع العلم في النسيج العقلي العربي يقصد الاشارة إلى عدم حصول الثورة العلمية في العالم العربي، وحصولها في اوروبا. وارد على ذلك بالقول إن مفهوم الثورة العلمية يثير الكثير من المشكلات بالنسبة إلى مؤرخ العلم. فلو اخذنا الثورة العلمية وآثارها اللاحقة، لسألنا: اين هي الثورة العلمية في الرياضيات؟ اذا كان من ثورة فهي تأسيس على العلوم العربية. وفي القرن الثامن عشر، حدثت بدايات، لكنها لم تكن كليّة. ففي حين حصلت تغييرات في احد الفروع، مثل نظرية الاعداد، تابع علم الجبر طريقه الطبيعي. ولو أخذنا الثورة العلمية في علم المناظر، لوجدنا انها حدثت على يد الحسن بن الهيثم، وبعده لم تحدث ثورة!
استطراداً، هل كانت العلاقة بين العلم والعقل تسير في الاتجاهين، اي كفعل مراسلة متبادلة؟
- القيم العلمية هي وسائل تحقق العقل في أشكال مختلفة، ولم يقبل علماء الحضارة العربية - الاسلامية بغير المقولات والبراهين العلمية، إذ لم يكن لعناصر الايديولوجيا وجود. وعلى سبيل المثال، ما الكتاب العلمي العربي التقليدي في القرن التاسع أو العاشر أو الحادي عشر؟ يبدأ هذا الكتاب بالبسملة، ككل كتاب آخر، ثم لا يذكر شيء، لاحقاً، عن الدين أو السياسة أو المجتمع. ويقوم الكتاب على أساس برهان عقلي، والدفاع عن القيم العقلية يتم من داخل الممارسة العلمية نفسها. اكثرمن ذلك، أقول إن تدريس التاريخ العلمي العربي أمر أساسي من أجل إدخال القيم العلمية المتضمنة فيه، ولكي لا تظهر هذه القيم كأنها مرتبطة بعلوم الحضارة الغربية وحدها. وفي هذا المعنى، يصبح تدريس تاريخ العلوم والفلسفة العربية تعرّف الى القيم العقلية، باعتبارها قيماً اساسية في الحضارة العربية - الاسلامية، كأنه نوع من التعرف الى الذات.
يورد توبي هاف مثالاً ربما كان جديراً بالنقاش. فقد توصل الفلكي ابن الشاطر الى تلمس الخلل في النموذج الذي صاغه بطليموس عن هيئة الفلك، أي مركزية الارض، لكنهم لم ينتقلوا الى "الخطوة التالية"، أي اقامة البديل والقول بمركزية الشمس. هل توافق هاف في قوله؟ وكيف تروي وتفسر التصور العربي- الاسلامي للفلك، كنموذج عن علاقة "الخبر العلمي" بالتصوّر العقلي المتضمن فيه؟
- بالفعل، تلمس الفلكيون العرب والمسلمون الخلل في نظام بطليموس، لكنه لم يكن في مسألة "مركزية الارض"، بل في النظام الرياضياتي الذي انشأه، خصوصاً تفسيره حركة القمر والمريخ. وتمكن ابن الهيثم من صياغة نماذج رياضياتية أكثر اتساقاً لتفسير الحركات الفلكية. ومن المعروف أن نموذج ابن الشاطر، ومن قبله نصير الدين الطوسي، هو ما استعاره كوبرنيكوس الذي وضع الشمس محل الارض. ما لا يفهمه هاف، أن الثورة لم تكن عند كوبرنيكوس، بل في تفكير كبلر بإنشاء نوع من النظرية عن حركة الافلاك. وفي رأيي، السؤال هو: هل ثمة من سبق كبلر في تصوّر صياغة عن حركة الافلاك؟ وهو موضع بحث راهن، وربما جاءت النتائج مذهلة للجميع!
واستطراداً، أقول إن الخبر العلمي هو وجود نموذج رياضياتي عن حركات الفلك، نموذج غير متّسق. وقيمة العقل هي في البحث عن نموذج آخر متسق. ولا تكمن الاهمية في مسألة المركز، سواء كانت الشمس أو الارض، بل في السعي الى تفكير مختلف عن حركة الافلاك، وهذا ما لم يقم به لا ابن الشاطر ولا كوبرنيكوس. ما يقلقني في هذا النوع من التصور للاشياء أن البعض يريد ان يبتدئ العرب ببطليموس ويصلوا الى... اينشتاين! هذا يفسر الشكل الايديولوجي لمثل كتب هاف وسواه من غير الاختصاصيين، أو حتى ذوي الاختصاص الذين تطغى على عقولهم النزعة الايديولوجية. وفي المقابل، يتحدث البعض في الشرق، كأنه يقول إن العرب ابتدعوا كل شيء. وهذا شيء مرفوض ايضاً.
كيف تصف نقدك أنت للتراث العلمي العربي- الاسلامي؟
- أفهم النقد في المعنى الكانطي نسبة الى الفيلسوف عمانوئيل كانط حيث النقد هو اعادة بناء الاشياء على أسس متينة. ونقدي التراث هو إعادة تأسيس، لا أعطيه اكثر من حقه ولا آخذ منه ما هو حق له. التراث العربي جزء من تاريخ العقل في الممارسة العلمية للوصول الى أكثر تقدم ممكن. واغترف الغرب من العقل، كما اليونان والعرب قبلهم وكذلك البابليون والمصريون. النقد هو أن نضع التراث على الأسس التي كان عليها، وهو نوع من إعادة النظر في الأشياء لمعرفة ما كان دور العلم في التصور العقلي العام: هل ساعد العلم مثلاً في بناء فلسفة علمية؟ هذا موضوع لم يبحث بعد وإن كان يستحق البحث. وما كان أثر العلم في بعض التصورات أو في بعض الممارسات الدينية؟ يعتقد البعض أن الدين جزء كامل ثابت ومانع، وأنه لا يتغيّر، وأعتقد ان هذا التصور مغلوط أيضاً، لأن الدين ممارسة لبشر يعيشون في مجتمع، فما هو أثر العلم في هذه الممارسة؟
كيف ترى الى حضور ذلك التراث العلمي في الحال الراهنة للثقافة العربية وعقلها؟ أي ما هي العلاقة بين الخوارزمي وعمر الخيّام وهما من رموز الجبر والتصوف والأصولية المتطرفة؟ وكيف تصف أنت هذه العلاقة؟
- لا تعرف الاصولية المتطرفة العلم ولا كتب الاسلام نفسها. ولا اعتقد انها تعرف أعمال أفكار ابن تيمية الذي تدّعي الانتماء اليه. فقد كان ابن تيمية على مستوى من الذكاء والمعرفة والفلسفة. ويحضرني أنني عندما تشكل علي إحدى مسائل ابن سينا ولا أستطيع فهمها في شكل واضح، أرجع إلى نقد ابن تيمية لابن سينا. واعتقد أن الاصولية انفعال اجتماعي لا عقلي.
ثمة شغف مذهل بالعدد في الانجاز العلمي العربي- الاسلامي. كيف تقرأ هذا الامر؟ وهل له علاقة بميل امبراطوري او استبدادي مثلاً؟
- إذا كان المقصود هو الاهتمام بنظرية الأعداد، فهذا موضوع له تاريخ طويل ويتصل بعلم الجبر، ومن إنجازات الحضارة العربية أنها أول من ربط بين الخوارزميات وبرهانها. وهذا تطور أساسي في تطور مناهج التحليل العددي.
درج القول، في القرن العشرين، بتحطم المنطق الرياضي، أي ذاك الذي بلغ ذروته عند برتراند راسل ووايتهد، وخصوصاً منذ أعمال كورت غودل عن خلل الرياضيات وقصورها. هل لذلك أي تأثير في استعادة التراث العلمي العربي- الاسلامي وفهمه، أو انعكاس عليها؟
- أعتقد أن المنطق الرياضي في ازدهار، وقد ابتدأ مع كورت غودل، ولا اعتقد أنه يؤثر في استعادة هذا التراث.
هل تمثل استعادة التراث العلمي ضرورة لا غنى عنها مطلقاً؟ أَوَلا نستطيع الانفتاح على الجينوم من دون العودة إلى ابن سينا، على سبيل المثال؟
في البدء أؤكد اننا لا نستطيع الاهتمام بالتراث العلمي العربي، من دون الاهتمام بالجينوم والعلوم الحالية. وفي المقابل، يؤدي الاهتمام بالتراث العلمي إلى إدخال القيم العقلية إلى المجتمع الذي ينقصه احياناً حضور هذه القيم في الحياة اليومية.
ويشكل الاهتمام بالبحث في التراث محاولة لرؤية الذات العربية كما كانت، بما في ذلك البعد العلمي فيها، ما يؤدي إلى إعادة الثقة العلمية بالتقدم إلى الأبعد. وهذا الاهتمام يخدم تكوين عقلية علمية نلمس غيابها. يكفي التفرج على أقنية التلفزة العربية لنلاحظ مدى الالتباس بين العلم والتكنولوجيا، ومعاملة العلم كأنه تكنولوجيا فقط.
ويبين التراث موقع الأمة العربية في البناء الحضاري والعلمي الانساني الشامل، ما يبعد عن التصور المأزوم للذات، ويجعل العرب جزءاً من مجهود إنساني ضخم ومستمر، شارك فيه الجميع، كل بحسب قدرته وظروفه. ليس هناك تعارض بين الجينوم وابن سينا، بل بين عدم معرفة الذات وعدم معرفة البعد العلمي في التراث، من جهة، والجينوم من جهة أخرى.
سيرة ذاتية
ولد الدكتور رشدي راشد في القاهرة عام 1936.
- مدير مركز تاريخ العلوم والفلسفة العربية وعلوم العصر الوسيط التابع للمركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا.
- مدير قسم الدكتوراه في جامعة باريس السابعة.
- مدير تحرير المجلة المتخصصة في البحث في تاريخ العلوم.
- أستاذ في جامعة طوكيو.
- رئيس الجمعية العالمية لتاريخ العلوم والفلسفات العربية والاسلامية.
- حائز ميدالية الكسندر كويريه من الاكاديمية الدولية لتاريخ العلوم.
- نال الجائزة العالمية لافضل بحث في الاسلاميات.
- نائب رئيس الاكاديمية العالمية لتاريخ العلوم.
- رئيس الجمعية العالمية لتاريخ العلوم والفلسفات العربية والاسلامية.
- تدور أبحاثه على العلاقة بين التاريخ وفلسفة الجبر، والنظرية الكلاسيكية للاعداد، والنظرية الطبيعية، والمشكلات التاريخية والفلسفية في تطبيق الرياضيات في العلوم الاجتماعية.
- كرمته الحكومة البريطانية على مؤلفاته في تاريخ الرياضيات، وكرمته الحكومة الايرانية على "موسوعة تاريخ العلوم العربية" التي نشرت في انكلترا وفرنسا تحت عنوان "تاريخ العلوم العربية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.