تندرج رواية "أصوات" لسليمان فياض ضمن مجموعة الروايات التي تعالج علاقة "الأنا" و"الآخر". وهي مجموعة تشكّل عدداً لا يستهان به، كمياً وكيفياً، في الفضاء السردي للرواية العربية الحديثة والمعاصرة. وليس من المهم، في هذا السياق، الرصد التاريخي لتتابع هذه الروايات، منذ أن كتب علي مبارك روايته "علم الدين" إلى اليوم، فالأكثر أهمية هو ملاحظة أن هذه الروايات كانت، ولا تزال، تعبيراً إبداعياً عن أزمة اكتشاف واقع متخلف من منظور حضارة متقدمة هي حضارة الآخر المنتصر بأكثر من معيار. وبقدر ما كانت هذه الروايات، ولا تزال، تصوغ مشكلة الوعي بالهوية فإنها كانت، ولا تزال، تعكس توتراً لم ينحل، سواء على مستوى وعي الأنا بنفسها في علاقتها بالآخر، أو وعيها بهذا الآخر في علاقته بحضور هويتها. ولذلك فإن أكثر هذه الروايات، خصوصاً التي كتبها أبناء الجيل الليبرالي الذي تجمع تجلياته أمثال محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم ويحيى حقي، تحافظ على ملامح بنائية متكررة لتعارضات ثنائية حدِّية، وتصوغ هذه التعارضات سردياً على النحو الآتي: 1- رحلة من الشرق إلى الغرب، أو من الجنوب إلى الشمال، هي رحلة انتقال من التخلف إلى التقدم، توازيها رحلة عودة من الغرب الشمال المتقدم إلى الشرق الجنوب المتخلف. 2- فاعل هذه الرحلة شاب في الغالب يسعى إلى الغرب ليأخذ عنه المعرفة، ويتلقّى عليه العلم، ويفيد من آدابه وفنونه، فيتمثل نسقاً جديداً من القيم على كل المستويات العلمية والفكرية، الإبداعية والثقافية، الاجتماعية والسياسية. 3- تبدأ العلاقة بين الطرفين، عادة، بتوتر متعدد الأبعاد تصحبه صدمة معرفية، هي صدمة اكتشاف واقع الأنا في مرآة الآخر، وفي الوقت نفسه واقع الآخر في مرآة الأنا، وذلك على النحو الذي يؤكد تخلف الأنا وتقدم الآخر، ويبرز بحدة مشكلة الهوية. 4- تتجسد الصدمة المعرفية أو تتمثل، عادة، خلال علاقة بامرأة، تنتسب إلى عالم "الآخر" انتساباً مباشراً، وتنوب عنه في علاقات حضور جديدة. تغدو، في ذاتها، إشارة بالسلب إلى علاقات حضور غائبة. ومن هذا المنظور، تغدو العلاقة العاطفية - أو حتى الجسدية - بتلك المرأة وجهاً من أوجه فعل رمزي لاكتساب معرفة جديدة وتحصيلها، أو نوعاً من أنواع الاتحاد الرمزي بالآخر الذي تنوب عنه المرأة المنتسبة إلى عالمه. 5- عندما يعود المرتحل إلى وطنه يصطدم بالأوضاع المتخلفة لهذا الوطن، ويراها بعينين أكثر حدة في التقاط العيوب والسلبيات التي لم يكن يراها من قبل. وتقترن هذه النتيجة بحال من التوتر والاغتراب الذي يحاول العائد مجاوزته باستعادة الفردوس المفقود لعالم "الآخر" الذي تركه وراءه، أو محاولة استنبات هذا العالم في وطنه بواسطة ما أطلق عليه، تاريخياً، اسم "التغريب" وأحياناً "التحديث". 6- لا تنجح هذه المحاولة، عادة، بالقدر الذي يحلم به العائد، فيظل مغترباً في واقعه، بالفردوس الذي يريد أن يستعيده، أو الذي يريد أن يوجده في وطنه. ولا يملك سوى أن يصنع لنفسه - في النهاية - جزيرة تذكِّره بهذا الفردوس، وتصلح لأن يستبدل عن طريق مخايلاتها مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع. 7- ليس من الضروري أن تكون الرحلة من الشرق إلى الغرب، دائماً، أو من الجنوب إلى الشمال. فقد تبدأ الرحلة من الغرب مباشرة لتنتهي إلى الشرق، حاملة معاني التقدم والحضارة، العلم والمعرفة، في ما يبدو، وليس السيف أو المدفع. وعندئذ، يمارس "الآخر" القادم إلى الشرق دوره في عملية "التغريب"، ويبدو كما لو كان يقود المتخلّفين إلى دنيا تحديثه، لا ينقطع عن ذلك إلا بعنف المقاومة المحلية التي تسعى إلى إبقاء الأوضاع على ما هي عليه. وهذا هو ما حدث في رواية سليمان فياض التي تبدأ سردها الخاص بعودة حامد البحيري من فرنسا، مصطحباً معه زوجته الفرنسية الجميلة سيمون إلى قريته التي تعاني التخلف. وذلك وضع يؤكد دلالة العودة إلى الأصل بعد التزوّد من معرفة "الآخر" المتقدم، كما يؤكد رحلة موازية لعودة حامد، هي رحلة سيمون التي تنتقل من باريس "فترينة الدنيا" كما وصفها توفيق الحكيم إلى قرية "الدراويش". وقد غادر حامد قريته في العاشرة من عمره فراراً من قمع عاشه وتوقع استمراره، وطوّف في أوروبا إلى أن استقر في فرنسا، وأصبح رجل أعمال ناجحاً، وتاجراً ثرىاً إلى أبعد حد، كما أصبح فرنسياً ومتحضّراً وجنتلماناً باريسياً بكل معنى الكلمة. حامد هذا انقلب إلى "آخر" لم يعد هو نفسه ابن القرية التي فرّ منها في العاشرة من عمره. حتى اللغة التي رضعها مع حليب أمه جفّ نبعها، وبهتت في ذاكرته، فأصبح كلامه عند عودته إلى القرية، حتى مع أمه التي لا تعرف القراءة والكتابة، خليطاً من الفرنسية والعربية التي اغتربت عنه مثلما اغترب عنها. شأنها في ذلك شأن العادات والتقاليد والموروثات، وغيرها من نسق القيم الذي هجره منذ أن هجر القرية، أو تخلى عنه منذ أن "تفرنس" ولم يعد مواطناً محلياً، واكتسب صفات "الآخر" الموجبة من وجهة نظر القص: الثروة، العلم، الصحة، نظام القيم الغربي، لوازم الثروة والقوة في الوقت نفسه. وكما تعرّف حامد في بداية رحلته على تخلّفه في أعين عالم "الآخر" الذي منحه الفرصة كي يصبح ما هو عليه ثروة ، مكانة، معرفة وثقافة، صحة وعافية فإنه سعى إليه كي يتحد به مكتسبًا صفاته، وتزوج امرأة سيمون تجسّد حضور "الآخر" وتنوب عنه في آن. وبالآلية نفسها، يدرك حامد مدى تخلف الواقع الذي انطلق منه بأعين "الآخر" نفسه، ممثلاً في سيمون التي يتحول حضورها إلى مرآة لكل الأطراف. والبداية هي تبدد فرحة حامد بالعودة إلى الوطن، كما يتبدد الحلم مع صدمة الصحو، وهي بداية جعلت حامد ينظر، دائماً، إلى وجه سيمون ليرى على ملامحها، وفي التماعة عينيها، ردود الفعل لبلاده وأهل بلاده. ومن الطبيعى- والأمر كذلك - أن يحدِّق حامد في بلاده وأهل بلاده بما لا يريه سوى ما يزعجه، فيبدو كأنه يحدِّق فيهم من خلال عدسة الكاميرا التي تحملها سيمون، والتي تلتقط بها صوراً، تمنى حامد لو لم تأخذها قط، لكل ما يخجله ولا يسرّه، ولا يشرفه أيضاً في باريس. وكانت عدسة كاميرا سيمون - في اختيارها مواضيع التصوير- كاشفة عن هوان عالمه الذي لا حيلة له فيه، تماماً كأسئلتها التي ظلّت تطارده: لماذا يبدو المرض على وجوه الناس؟ لماذا يزرع الناس دون ماكينات؟ لماذا يمشي الأطفال حفاة؟... هذه الأسئلة كانت تزيد من حدة توتر حامد، وتضيف إلى الالتباس الذي أخذ يتصاعد داخله في موقفه من العالم الذي عاد إليه. لقد أقبل عليه في البداية باحثاً عن حلمه القديم الذي عاش من أجله. ولكنه صدم بما رآه خلال عدسة كاميرا سيمون حتى على المستوى التخيلي التي كشفت له عن مدى تخلّف عالمه، فنفر من الذي رآه، لكنه ظلّ متعلقاً بهذا العالم، ينطوي على تضاد عاطفي إزاءه، ويشعر "مع الغيظ والقرف بالحب والراحة". وقد جذبه هياج الناس حوله وفرحتهم به، لحظة استقباله، إلى قطب الحب والراحة، فشعر أنه غازٍ مظفّر عائد لتوِّه من حرب هائلة، بهذه السيارة وبسيمون سليلة الخواجات كابراً عن كابر. ولكن القطب النقيض للغيظ والقرف ظل باقياً كالعلامة التي ترهص بتداعي الأحداث، وتشير إلى النهاية من بعيد. وما تفعله سيمون مع حامد تفعله مع بقية شخصيات الرواية. فصدمة المعرفة التي يرتبط بها "الآخر" تظل فاعلة، تحدث تأثيرها في وعي حامد ووعي كل من يقع تحت تأثير سيمون أو يتصل بها في الرواية. وأول هؤلاء محمود بن المنسي مثقف القرية الذي يرى في حلول سيمون وحامد على القرية ضربة مفاجئة، مقبلة من المجهول الذي لا تدركه أبصار من في القرية ولا ترقى إليه عقولهم. ولذلك قلب قدومها مع حامد وضع الأشياء، فاختلّ الكون في الأعين والعقول. كل شيء كان يبدو طبيعياً في العيون، مألوفاً في العقول، قبل هذه المفاجأة التي انقضّت على القرية بلا موعد، فيما يقول محمود بن المنسي الذي يتابع نجواه الذاتية بتأكيد أن "العيون" أخذت "ترى ذلك الشيء الجديد الوافد، المثير للدهشة" يسقط على القرية التي تقع تحت وطأته "في شعور بالتخلف والعار، والترقب المبهور الأنفاس". إنه "الخوف من أن نرى أنفسنا بعيون جديدة ومن أن يرانا آخر... لم تعرفه بيننا أبداً سوى عقول قليلة من أبناء قريتنا الذين يقرأون الصحف، والذين تجولوا بعيون مصابة بالتراكوما وعشي الليل في كتب الجغرافيا، وصفحات الأطالس، على أدراج الفصول المدرسية بالبندر". هذا الإحساس بالصدمة الذي عاناه محمود بن المنسي هو، في جوهره، الإحساس الذي عاناه المأمور والعمدة وكل أهل القرية الذين كانت زيارة حامد وسيمون انقلاباً عنيفاً في عالمهم الذي تعوّدوا عليه. ولذلك فإن صدمة التعرف الجديد على الواقع المنظور إليه بأعين أجنبية تظل موصولة بحضور حامد وحضور سيمون التي هي "الآخر" بألف لام التعريف، والتي هي "الآخر المشتهى" الذي تحول إلى موضوع للرغبة. ودليل ذلك اشتهاء الجميع لها: محمود بن المنسي الذي رآها فاتنة ساحرة، خطوها عزف، وعيناها تبرقان حيوية وثقة، شخصية متكبرة عزيزة النفس على ما يبدو فيها من خفة ومرح، نفحة ساحرة من عاصمة النور، بلد السوربون والحي اللاتيني وغابة بولونيا وميدان الشانزليزيه، نفحة يشعر حيالها ابن المنسي بالأسى لنساء قريته كلهن. ولا يختلف عن ذلك شعور العمدة الذي أبهج مرأى سيمون قلبه كذكر، خصوصاً بعد أن فتنته بظهرها العاري حتى المنتصف، وشعرها المرفوع على عنقها الطويل الذي يشبه عنق الغزال، وثدييها البارزين الناهدين، وذيل فستانها الأحمر. ولذلك فكر العمدة في نفسه أنها ستفتن شبان القرية والقرى المجاورة وتفسدهم، وسوف "تفتن ...نساءنا المحجّبات وبناتنا العفيفات". وعندما عاد العمدة إلى حجرة نومه في نهاية السهرة التي أقامها احتفالاً بحامد وسيمون، ظل خيال سيمون معه لم يتركه طيفها وهو نائم. حسبها مرة حورية من الجنة، وثانية جنّية خرجت من البحر وثالثة فتنة سلّطها الشيطان على الدراويش. وكانت النتيجة المقارنة المتوقعة بين سيمون وزوجته التي أحسّ بها كالبقرة، فنفر منها، وظل يستعيد طيف سيمون، ويستعيذ بالله من الفتنة بها وببلاد الفرنسيس التي تخايلت لعينيه كجنة عدن. أما أحمد البحيري شقيق حامد فإنه لم يتوقف عن اشتهاء سيمون منذ أن رآها خارجة من الحمام محلولة الشعر، مبتلّة مثل العروس في أول صباح لها، الأمر الذي أضاف إلى شعوره بالحسد من أخيه، وأضاف بعداً رمزياً في الثنائية التي تتكرر بها دلالة التعارض بين قابيل وهابيل. ولولا ذلك ما رأى أحمد نفسه في المنام يحلم أنه يقتل أخاه حامد بسعادة، كأنه يكرّر فعل سلفه الأعلى الذي قتل أخاه بدافع الغيرة، واستحواذاً على المرأة التي حظي بها أخوه. ويسهل ملاحظة أنه بالقدر الذي يشتهي به سيمون جميع الذكور المحلّيون، في الموازاة الرمزية للجنس، يشتهي النساء حامد في الموازاة الرمزية نفسها، ذلك لأنه أصبح شبيهاً بسيمون، وصورةً من حضورها أو امتداداً لهذا الحضور. ولذلك سرعان ما تشتهيه زينب زوجة أخيه التي تكون أسرع الجميع - في الأسرة - تعلماً لآداب المائدة، وأسرعهم في الاندفاع إلى تقليد سيمون بما يجعلها أكثر قرباً من "حامد". وكأنها بهذا التقليد، المحاكاة، تريد أن تستبدل حالاً بحال، خصوصاً بعد أن وجدت موضوع رغبتها المشتهاة ، "الآخر" الذي يُشَدُّ إليه الرحال "بجميع الأحلام والأمنيات". وبقدر ما تُقبل على حامد وتشتهيه مع اندفاع رغبتها في أن تحل محل سيمون، بعد أن تتحد بها على مستوى المحاكاة، أو على مستوى المشابهة التي تُدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد تنفر من زوجها أحمد وتتباعد عنه، وترفض معاشرته جنسياً. والمرة الأولى والأخيرة التي نراها تمارس الجنس معه، بعد وصول حامد وسيمون، دالة إلى أبعد حد، فهي تُقبل على أحمد كما لم تُقبل عليه من قبل، أما أحمد نفسه فكان في قمة النشوة معها، يشعر وهو يحتضنها بسيمون بين يديه يهصرها هصراً، ولا يفوته ملاحظة أن زينب، بدورها، مقبلة عليه بصورة لم يرها منذ سنوات كثيرة، ولعله لم يرها من قبل على الإطلاق.